عن ديكتاتور دمشق في ذكرى سقوط بغداد/ ماجد عبد الهادي
“لا أستطيع تصديق ما رأيت؛ دبابتان أميركيتان تربضان على جسر الجمهورية في قلب بغداد، ولا يخرج عليهما فتى واحد من ملايين العراقيين، ليحاول القول، بقذيفة آر. بي. جي صغيرة، إن هذي البلاد العظيمة لن تكون لقمةً سائغةً في حلوق الغزاة”… ذلك ما ظلَّ رفيق سفري يكرره تساؤلاتٍ لحوحة، طوال رحلتننا من ضفاف دجلة نحو عمق الصحراء غرباً.
كان التاسع من أبريل/ نيسان عام 2003. وكنت أغادر العراق في لحظات نشوء حال الفوضى، والتي تفجرت، هناك، فور سقوط نظام حكم الرئيس صدام حسين، ومعي أحد أقرباء زميلي، الشهيد طارق أيوب، والذي قتلته قذيفة أميركية استهدفت مكتب قناة الجزيرة. وتطوع الرجل بشجاعةٍ نادرةٍ للقدوم من عمان إلى بغداد، تحت جحيم القصف الأميركي البريطاني، لكي يلبي رجاء والدة الفقيد، ويفعل ما كنت قد قررت شخصياً أن أفعله، بالتشاور مع زملائي في بغداد والدوحة، أي نقل الجثمان إلى ذويه.
هكذا ساقتنا الأقدار إلى رحلة مشتركة، ومحفوفةٍ بالموت، على طول طريق يمتد ألف كيلومتر؛ هو المحامي سمير الإمام، يقود سيارته الصغيرة، وأنا إلى جانبه، وتتبعنا سيارة أجرة كبيرة، على متنها تابوت لجسد طارق.
اجتهدت حينئذ، في تقديم أَجوبةٍ أوليةٍ، تخفف من غضب الرجل، فقلت، على ما أتذكر، إن أسوار بغداد لم تتهاو أمام الغزو في يوم واحد، ولا في عشرين يوماً، كما يروج الإخوة الأعداء الذين طالما حلموا بسقوطها، وإنما صمدت اثني عشر عاماً في مواجهة حصارٍ خانقٍ لا تستطيع عواصم عربية أخرى الصمود إزاء مثله أشهراً قليلة، أو حتى أياماً. قلت، أيضاً؛ إن ما عرفته، وخبرته وعايشته، في أشهر خمسة، قضيتها مراسلاً لـ”الجزيرة” في العراق آنذاك، تكفي لأرى طلاقاً بائناً، بينونة كبرى، بين أهل البلاد والديكتاتورية الحاكمة، يجعلهم يتمنون سقوطها، أَو يمنعهم، على الأقل، من فعل أي شيء، قد يسهم في بقائها جاثمةً على صدورهم.
“لكنها بلادهم، وكرامتهم الوطنية ينتهكها الغزاة الآن، فكيف لا تثور حميّة واحد منهم.. واحد فقط؟!”. عاد رفيق رحلتي ليتساءل بإلحاح، فأَعدت على مسامعه ما أَسرَّ لي به صديق عراقي، قبل الحرب، حين ناقشته في احتمالات وقوع العراق تحت الاحتلال. وقال ما مفاده باختصار “سيقاوم العراقيون الغزو. لكن، بعد سقوط نظام الحكم، وليس قبله، لأنهم يعتقدون أن إمكانية دحر الجيوش الأميركية والبريطانية، إذا احتلت العراق، تظل أسهل بكثير من إمكانية الخلاص من صدام”.
بالنسبة إلى رفيق رحلتي، ولي أيضاً، كان رأي صديقي العراقي مجرد كلامٍ نزقٍ يصدر عن شخصٍ لا يدرك معنى وقوع بلاده تحت الاحتلال، فضلاً عن أنه يقفز عن حقائق مهمة، لعل أبرزها أن الحرب على العراق لم تستهدف تخليصه من الديكتاتورية، بل تعود أسبابها إلى أَن صدام حاول تأسيس نهضةٍ صناعيةٍ وتسلحيةٍ حقيقية، كما وقف ضد الاعتراف العربي بإسرائيل.
في السنوات القليلة اللاحقة، اجترح العراقيون مقاومةً جبارةً، أَرغمت الغزاة على الرحيل، فأعاد العرب اكتشاف دروسٍ، تقول إن الشعوب قادرةٌ على التمييز بين الدفاع عن الوطن والدفاع عن الطغاة، ولو رفع هؤلاء شعارات وطنية وقومية. وإنَّ تطور أي بلد ونهوضه لا يمكن أن يكونا كذلك فعلاً، ما لم يقترن فيهما البناء والتعليم والتصنيع والقوة العسكرية بالحريات الأساسية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
جاء الدرس الفاجع متأخراً بعض الشيء، وبالتحديد، مع بزوغ الربيع العربي، حيث تجرأ نظام بشار الأسد، وهو الأكثر شبهاً أيديولوجياً، وممارسةً سلطويةً قمعيةً، بنظام صدام حسين، على أن يستخدم كل ترسانة المقاومة والممانعة والتوازن الاستراتيجي ضد أبناء شعبه، ما دفع كثيرين منهم إلى توسل الدعم الأميركي للمساعدة على إسقاطه، دونما جدوى. وجعل آخرين، وما زالوا، يذهبون إلى مقارناتٍ مؤلمة، منها مقارنة الثمن الفادح للثورة عليه بالثمن الباهظ الذي دفعه العراق نتيجة الغزو الأميركي البريطاني، ومنها مقارنة المذبحة، المستمرة منذ ثلاث سنين في سوريا، بالمذبحة الإسرائيلية في دير ياسين، والتي حلت ذكراها السادسة والستون يوم التاسع من أبريل/ نيسان الجاري، كي نكتشف مجدداً، ووسط سخرية التاريخ من سذاجتنا، أن عدو اليوم هو نفسه عدو الأمس، وإنْ بدّل أقنعته، ونطق بلسان عربي فصيح.