عن رضوخ الثورة السوريّة لمعايير الآخرين/ داريوس الدرويش
منذ اندلاعها عام 2011، لم تستطع الثورة السوريّة تحديد معايير واضحة تقيم على أساسها فرزاً بالمعنى السياسي بين المنتمين لها ومعاديها، فلم تحمل شعارات الثورة السوريّة (كالحريّة والكرامة والوحدة ومناهضة الإرهاب والطائفيّة) أيّ تفاصيل أخرى في مدلولاتها تمكّنها من التميّز عمّن يحمل تلك الشعارات ذاتها، لكنّه يعادي الثورة كما فهمها السوريّون أوّل مرّة، ولم تستطع الثورة إثراء هذه الشعارات وتحديدها بدقّة تخرجها من إطار المفاهيم النسبيّة إلى إطار برنامج سياسيّ واضح كان حريّاً به حمايتها من التشويه الذي مورس ضدّها لاحقاً.
وأولى علامات الفشل ظهرت في ردود الموالين للثورة السوريّة على تشويه النظام لمفهوم الدفاع عن النفس عبر اتّهام كلّ من حمل السلاح ضدّه بالإرهاب. حينذاك برز إلى السطح نمطان من الردود: الأوّل قال إنّنا لسنا إرهابيّين لأنّنا لا نحمل السلاح، وبدأ بعرض جثث الأطفال الذين قتلهم النظام للدلالة على «سلميّة الثورة»، والثاني قال إن اتّهامنا بالإرهاب فخرٌ لنا، مؤكّداً الحقّ في ممارسة الإرهاب بسبب المآسي التي تُعانى.
والواقع أنّ مصدر فساد الردّين واحد، ويكمن في خضوعهما للمعيار الذي وضعه النظام، ومحاولتهما الدفاع عن نفسيهما وفقاً للشروط التي يضعها، سواء عبر الاعتراف الضمني بصحّة المعيار مع التشديد على براءتهما من الاتّهام كما في الحالة الأولى، أو عبر التشديد على صحّة المعيار والاتّهام مع تبريره كما في الحالة الثانية، في حين أنّه لو كانت ثمّة معايير واضحة للثورة لــقالت بوضوح وببساطة (وكان قد قيل ذلك ولكن بصوت خافت في مناسبات عدة) إنّ حمل السلاح ضدّ النظام ليس إرهاباً، بل حقّ مشروع في الدفاع عن النفس.
وحين لحق الإسلاميّون بركب الثورة، ازداد تشويه شعاراتها والسيطرة عليها عبر معايير تعارض قيمها ومبادئها، فكان أن أصبحت العلمانيّة مرادفاً للإلحاد، ومناهضة الطائفيّة «رومانسيّةً ثوريّة»، والديموقراطيّة خروجاً على حكم الله! ليس فقط لدى الإسلاميّين الذين هم مصدر هذا التشويه، بل لدى جمهورٍ واسع من مؤيّدي الثورة في الداخل والخارج معاً. هذا ليس لأنّهم يؤمنون بالدولة الدينيّة أو الطائفيّة أو الديكتاتوريّة، بل لأنّ القوى السياسيّة المعارضة قبلت بصحّة معايير الإسلاميّين، فخلت معظم برامج الأحزاب السياسيّة المعارضة، إلا من نجا من ورثة العمل الشيوعي، من أيّ إشارة مباشرة إلى العلمانيّة، واستبدلوها بمفهوم ضبابي كالدولة «المدنيّة» خشية اتّهامهم بالإلحاد. وبرّر كثير من تلك القوى التوجّه الطائفي في الثورة، أو سكت أمامه بحجّة «الواقعيّة السياسيّة»، فيما بات خروج تظاهرة تناهض النظام وتتجاهل المطالبة بالديموقراطيّة في مناطق سيطرة الإسلاميّين فعلاً ثوريّاً، كما حصل عقب الهدنة في معرّة النعمان.
وللكرد أيضاً نصيب من هذا حين يواجهون التشويه الذي يقوم به بعض القوميّين العرب تجاه بعض المفاهيم. فالردود على المعيار الذي وضعه هؤلاء من أنّ الفيديراليّة الكرديّة هي تقسيم لسورية تكون بطريقتين خاضعتين لذلك المعيار تماماً وتقبلان به كاملاً: فبعضهم يعترف بصحّة هذا المعيار ولكن يجادل بأنّ التهمة لا تنطبق عليه، إذ إنّ تلك الفيديراليّة ليست كرديّة، وأنّ من أعلنها فئة ضالّة من الشعب الكردي، على رغم أنّها من مطالب المجلس الوطني الكردي أيضاً. فيما بعضهم الآخر، المؤكّد أيضاً صحّة هذا المعيار، يتقبّل الاتّهام بالقول بفخر إنّهم انفصاليّون (لا «استقلاليون») على رغم أنّ أيّاً من الأحزاب الكرديّة السوريّة لم يربط بين الفيديراليّة والاستقلال نهائيّاً، وهذا عوضاً عن قولهم بوضوح وببساطة إنّ الفيديراليّة لا تعني تقسيماً. السياق ذاته ينطبق على مقاربة اتّهامات أخرى كالعمالة لإسرائيل وأميركا، وخيانة الثورة، وغيرها.
والحال أنّ تلك المعايير المشوّهة ما كانت لتجد طريقها للاعتراف (المباشر وغير المباشر) لو كان السوريّون قد أصّلوا الشعارات التي أطلقوها والمفاهيم التي تبنّوها. وإلى حين حدوث ذلك، فكلّ معيار آخر يوضع لتحديد تلك الشعارات والمفاهيم لن يجد صعوبةً في حجز مكان بارز له في الفراغ الذي تركه المثقّفون السوريّون في «نضالهم» لإثبات ما هو مثبت، والفراغ الذي تركه السياسيّون السوريّون لمصلحة الشعبويّة. وقد يكون السوريّون اليوم فعلاً في حاجة إلى مراجعة معظم المعايير والمسلّمات التي تبنّوها خلال المراحل التي مرّوا بها تحت سيطرة البعث سابقاً والإسلاميّين لاحقاً، والتي لا يُضمن بالضرورة ألا تكون، بعضها على الأقل، من ترسّبات تلك الأيديولوجيّات.
* كاتب كردي سوري
الحياة