عن ريما و الحرية و الوعي المشوّه
أحمد أبازيد
بالنسبة لريما
و بما أنّ الكلّ يتحدّث في الموضوع , و إن كنت لا أحبّ الانشغال بهذه المعارك الجانبيّة في ظلّ معركة الدم , ولكن أهمّيته تاتي من إظهاره حجم الاختلاف و الإشكاليّة في تعريف و تناول مفهوم الحرية , الكلمة الأكثر ترداداً خلال الثورة .
من المسلّم و البديهي لديّ أنّ حريّة الكفر شرطٌ متضمّن منطقيّا في حرية الإيمان نفسها , و أنّ أهمّ الأسس التي يقوم عليها تنزيل الدين للإنسان -كما يقول د.طه عبدالرحمن- هو حرية الاختيار , إذ بغير الاختيار لا وجود ولا معنى للإيمان بدين ما , و لا وجود للإنسان نفسِه , إذ دون حرية الإنسان في الاختيار يفقد امتياز إنسانيبّته عن الحيوانات و الجماد .
ولذلك تبدو لي محاولة حجر الكتب النقديّة للفكر الديني أو لرموزه تتعارض مع الدين نفسِه , و تصطدم بشكل مباشر مع خطاب الله للإنسان كذات متفكّرة حرّةٍ أصلاً , إذ لا معنى لأن يدعو القرآن الناس للإيمان ما دام كلّ خيارٍ آخر محظور .
و هذا ما يبني عليه د.طه عبدالرحمن أيضاً نظرته إلى أنّ القبول بالتعدّد الديني و تكريس حقّ الاختلاف الفكري أوسع كثيراً ضمن الرؤية الدينيّة منه في النظرة العلمانيّة .
و من الضروري التأكيد على بديهيّة , هي أنّ الكلام هنا عن التفكير , و ليس عن البذاءة , و على بديهيّة أخرى هي أنّ الفيسبوك أو الصحف أو التلفزيون هي حيّز مجتمعيّ عامّ و ليست حيّزاً خاصّاً بإمكان الإنسان أن يتعرّى فيه على الملأ , ثمّ يقول : لم تنظرون , ما علاقتكم !؟
ما فعلته ريما حين كتبت : “يا الله بدنا نغيرك يا الله” و أتبعتها بابتسامة لتشير إلى أنّ من يقرأ عليه أن يضحك , هو أنّها جمعت إلى الإشعار بالسخرية من أحد أشهر هتافات الثورة للقابعين تحت ظلال الدم : “يا الله مالنا غيرك يا الله ” , التعامل مع اسم المقدّس و المطلق الأعلى للمجتمع بطريقة إهانة و استعلاء ( بدها تغيره … و كأنّه كائن أصغر منها) , تجعلها بمثابة إعلان حرب و تسخيف لمعظم المؤمنين به , ما يجعل من المنطقي و الطبيعي أن تُقابل بحالة غضب و حدّة عالية ممّن شعروا أنّ الإهانة موجّهة إليهم , كما لو أنّ احدهم شتم أمّ ريما نفسها فستقول إنّه وقح يستحقّ الردّ و العقاب , و بالنسبة للمؤمن بالإله , فمجرّد خطابه بطريقة استعلاء تظهر نفسَها متحكّمة به هو أكثر إهانةً بكثير من شتيمة تتعلّق بالأمّ .
لو قالت ريما إنّها ملحدة أو لا تؤمن بالله , لكنتُ في أوّل المدافعين عن حقّها في هذا الاختيار و في إعلانه على الملأ , و لم تكن لتتعرّض بطبيعة الحال لردود فعل غاضبة , فلا أحد في سورية ينكر وجود الكثير من غير المؤمنين , في الماضي و الآن و غداً .
و من السخيف الردّ , بأنّها حرّة بينها و بين ربّها , أو التشكّي من النزعة التكفيريّة الظلاميّة , فمن يخاطب الله بهذه الطريقة قد انفصل بالضرورة عن الإيمان به كإله , فليس إلهاً ذاك الذي تغيّره , أو الدفاع عنها بالقول إنّ الله ليس محتاجاً من يدافع عنه , فلا أحد يؤمن بالله أصلاً يمكن أن يفكّر بأنّ الله يحتاجه , ولكنّهم هم من يحتاجون أن يدافعون عن معتقداتهم و عن أشخاصِهم ضدّ التسخيف و البذاءة , تماماً كما يدافع بعض العلمانيّين عن اختياراتهم بعنف شديد و بإقصاء و تسخيف لكلّ المختلفين , دون أن يقول لهم أحد : العلمانيّة لا تحتاج من يدافع عنها !
و هنا نقطةٌ مهمّة أردتُ الكلام عنها – طبعاً لمن احتمل أن يكمل القراءة بعد كلّ هذا الطول – هي أنّ رفض الدين هو دينٌ أيضاً , و أنّ الإلحاد هو بالضبط عبادة الإله المسمّى ” لا إله ” , فالمطلق و نقطة البدء كما تتخذ لدى المؤمن صيغة النسق الديني , تتخذ لدى غير المؤمن صيغة المسلّم العقلاني أو العلماني أو اللاديني , و كلاهما يحمل نظريّة عقديّة , يراها الحقيقة النهائيّة , و يرى في أنّها الحلّ الوحيد للدولة ….
ما أعنيه أنّه لا تقل لي إن كان لك دين , و لكن قل لي ما دينُك , خاصّةً إن كنتَ ملحداً !
و النقطة الأكثر أهميّة هي في وعي الحرية نفسِه , فيبدو أنّ الحرية الوحيدة المتخيّلة في أذهان الكثيرين كقالب جاهز و مسبق الصنع و مطلق القيمة يتمثّل في نمط الحرية الليبرالي الغربي , و الفرنسي بالذات , هذا خطير , و لكنّه يبقى على مستوى المفاهيم , الأخطر هو أنّ هذه الحرية الليبراليّة يستحقّها فقط الليبرالي أو العلماني – أو كلّ منفصل عن نسق الثقافة التقليديّة – المؤمن بها !
فمن المفهوم و المتقبّل أن يُستهزأ بالحجاب و يعتبر تخلّفاً , و بالخطاب الديني و يُعتبر من العصور الحجريّة , و بالفكر الإسلامي و يعتبر صورةً لغياب الوعي , و بالدعاء و الشعارات الإسلاميّة و يُعتبر مجرّد صراخ اليائس الذي لا طريق آخر أمامه , فليس من حقّ المتديّن حتى أن يكون قد اقتنع باختياره الخاصّ .
و لكن من المستهجن المجرّم الدالّ على ظلاميّة و رجعيّة و إقصائيّة المتديّنين , أن تُنعت الليبراليّة بالإباحيّة ( رغم أنّهم أنفسهم يؤكّدون أنّها من أسسهم ) , أو أن يوصف الخطاب العلماني بالمعادي للدين , رغم أنّهم لم يروا منه إلّا الهجوم على الدين و تجهيل المؤمنين به و تسخيف النظريّات المنبنية عليه , و ليس الدفاع عنه و فصله عن اهواء الحكّام , كما ليس علينا أن نستعيد التاريخ و نذكّر بأنّه لم يكن مدافَعاً عنه أبداً حين كانت مظاهر التديّن محاربةً من قبل الدولة , إلى درجة منع الحجاب في مدارس البنات لسنين , و منع الصلاة و الصيام في ثكنات الجيش لعقود .
كما يجب أنّه ليس بعيداً عن الموضوع بل في صلبه , حجم الرفض و الاستهجان الذي كان يظهر لدى أيّ شعار يتعلّق بالطوائف الأخرى و نعتها بكمات النصيريّة و المجوس – و هذا النوع من الخطاب أرفضه و لا أرضاه – …. بينما يُقال الكلام نفسُه و أكثر منه تهكّماً على معتقدات و مقدّسات الأغلبيّة , الأغلبيّة و الأقليّة حسب الإحصاء الطائفي المضطرّين إلى استخدامه .
طبعاً من الضروري التأكيد هنا , استباقاً للهجوم, أنّ الكلام عن حالة متطرّفة متعصّبة بذاتها من العلمانيّة العربيّة , فمن لا ينطبق عليه الكلام فوق فهو غير مقصود به أبداً , و هذا بديهيّ , حتى لا يتوهّم أنّه مهاجم و عليه الردّ , ثمّة الكثير من المفكّرين و العلمانيّين العرب , المناضلين و الواعين لكلّ إشكاليّات و تناقضات هذا الخطاب , و هم أوّل من يرفضها و يحاربها أصلاً , و لا أتردّد في القول إنّ التطرّف الديني و التطرّف العلماني هما وجهان لعملة واحدة .
إنّنا هنا أمام حالة عُصابيّة , أمام وعي أحاديّ البعد , لا يستطيع ان يحاكم نفسه بالمعايير و القيم التي يحاكم بها غيره , و لا يستطيع أن يفرّق بين اقتناعِه بأمر و حريّة الناس بالاقتناع به أو رفضه , و أمام حالة إقصائيّة غريبة , لأنّها تمارس تجهيل و إقصاء الفئة الكبرى من المجتمع باسم محاربة الإقصاء و حماية التعدّديّة فيه !
من حقّك أن تقول , إنّك لن تركع حتى لله , و من حقّك أن تقول إنّ لا تقتنع بالإسلام كدين , و من حقّك أن تقول إنّ الشيوعيّة أو الليبراليّة هي الحلّ الوحيد لمشكلات المجتمع ,
ولكن ليس من حقّك أن تشتم على الملأ و على العلن إله الناس – الذي يعتبرون كلّ وجودهم و حياتهم منه و إليه , أي انّ التعرّض لأشخاصهم أو أعراضهم أو حتى بيوتهم هو أقلّ قيمةٍ بكثير من التعرّض له بكلمة إساءة– ثمّ تستغرب و تستنكر مهاجمتك له و حدّته معك … لأنّ استغرابك بعدما بدأت بإهانته و العدوان عليه غبيّ جدّاً
عدا عن أنّك لا تؤمن بهذا الإله , حتى تكون حرّاً معه و مع طريقة خطابك له , انت يا عزيزي تخاطب المؤمنين به … مهما توهمت غير ذلك , و من حقّ المجتمع أن يعلن رأيه , تماماً كالفرد !
لا بدّ من القول في الختام , إنّ القضيّة ليست قضيّة ريما دالي , و قد تكون الفتاة التي شهدنا و قدّرنا شجاعتها لما وقفت أمام البرلمان طيّبة جدًّاً و لم تتقصّد إيذاء أحد أو الإساءة له , و التي من حقّها كما من جقّ أيّ فردٍ آخر أن يؤمن بأيّ دين أو عقيدة يشاء أو يكفر بها و يعلن رفضه لها على العلن , دون استهزاء و شتم لمقدّسات المجتمع الذي هو جزء منه , و لكن القضيّة في وعي الحريّة , و في وعي التعدّد و الاختلاف , وفي الانفصال عن ايديولوجية جهل الشعب و ثقافته التي اعتمدت عليها الأنظمة الاستبداديّة عقوداً … و الإيمان بأنّ أيّ نقد حتى لهذه الثقافة أو إصلاح أو نهضة – تماماً كالثورة- لا يمكن أن ينجح إلّا متصالحاً مع هذه الثقافة و عبر خطابِها من الداخل .
إنّ أيّ اعتداء على ريما إن حصل , مرفوض , و أعتبره شكلاً من انفلات التعصّب غير المرتبط بأخلاقيّات الدين الذي عليك أن تكون ممثّلاً له , تماماً كما هي البذاءة و الشتائم الذي رأينا الكثير منه للأسف … لأنّ الخطاب الذي يدّعي أنّه يدافع عن نظريّة دينيّة أخلاقيّة كونيّة , عليه أن يشبهها …
و أنّ المثال الذي فوق ليس هو المقصود وحده , و إنّما كلّ من تلبّس حالة الإقصاء و الوعي أحاديّ البعد و الخطاب الذي يحرم الآخر من حقّ الكلام و الوجود , بدءاً من المتديّنين و الإسلاميّين قبل الجميع .
و أختم بما قاله الصديق مصطفى علّوش
من الوعي المشوَّه لمفهوم الحريَّة: – أن تُعتبر الإساءة لمعتقدات الآخرين -التي يقدسونها أكثر من ذواتهم- حقاً أصيلاً وحرية تعبير مشروعة .. وأن يعتبر رد الإساءة بمثلها .. جريمة تستحق الشجب والاستنكار .. وتعدياً على حقوق الآخرين وحرياتهم.. !!