عن سراب الحرية التشكيلية في سورية… لوحات تنادي بالحرية رغم القيود
دمشق- عامر مطر
رسم الفنان السوري يوسف عبدلكي مؤخراً، مجموعة من الأزهار وأهداها إلى أحرار ثورة 25 يناير في مصر، ويعمل الآن على لوحة يمشي فيها الحذاء العسكري على بقع الدم… لم يعرضهما إلى اليوم. وربما لن يمنعه أحد من العرض.
لكنه يستعيد قصة للوحة رسم فيها جزار مترهل الملامح، يحمل سكيناً كبيراً، يقف بزيّه الرسمي المعاصر أسفل حبل المشنقة، وتتدلى خلفه قدما الضحية، داخل عالم يسيطر عليه السواد.
حملت اللوحة اسم “موطني… موطني”، أراد عبدلكي عرضها في دمشق ضمن معرض جماعي عام 1977، لكنها مُنعت، وإثرها في حمص وحلب أيضاً، مما دفع بصاحبها إلى نشر اعتراض في صحيفة “الثورة” السورية آنذاك، قال فيه إن لوحته تتناول مجازر جمال باشا في أوائل القرن العشرين، ليُمرّر احتجاجه على المنع، ولتُعرَض لوحته.
منذ “موطني… موطني” إلى الآن لم تتغير طرق اللجم. لا يزال في إمكان أي مدير مركز ثقافي في سوريا حجب أي لوحة عن العرض إذا شك في ملامستها خطاً أحمر ما.
لكن اختلفت طرق العرض، فصفحات الإنترنت هزمت كل قرارات المنع الإدارية، وجعلت اللوحة القريبة من الناس واسعة التداول على صفحات الفيس بوك وتويتر مثلاً، فغابت وجوه كثيرة لشبان وشابات على حساباتهم الافتراضية لأنهم نشروا محلها لوحات تمس كلمة “الحرية”.
اليوم ينتشر عمل غرافيكي لا يحمل توقيع، فيه حصان يحاول الطيران، كتب فوقه بالأحمر: “يا حرية”، وعمل آخر مكتوب فيه: “يا حرية” وتعلوها نقطة حمراء…
كما ينتشر على صفحات الفيس بوك اليوم عمل يقف رجل ضخم فيه، بأسلحة كثيرة أمام جدار، ويحاول رجل آخر طمس ظل الأول بفرشاة دهان! هذا ما رسمه الفنان السوري علي فرزات لقول موقفه من “إزالة حالة الطوارئ في سورية”.
إضافة للوحات السابقة انتشرت عشرات الأعمال لفنانين محترفين وهواة يحاكون في كل لوحة أحلام الشعب السوري الذي ينزل الآن إلى الشارع بقائمة مطالب كثيرة. لكن لم يتجاوز عرض هذه الأعمال حدود المساحة الافتراضية.
ممنوع العرض
العديد من اللوحات واجهت المنع في السنين الماضية، إذ منع مدير المركز الثقافي في الحسكة (شمال شرق سوريا) لوحتين للفنان عبد الكريم مجدل بيك، منذ عشر سنوات تقريباً. عن ذلك يوضح مجدل بيك بحزن: “صوّرت في الأولى فتاة تحمل زهرة عباد شمس، وفي الأخرى ثلاث فتيات واقفات، اعتقد مدير المركز أنهما تحملان رسائل سياسية فرفض عرضهما”!
على رغم حالات الحجب المتكررة لم يُعتقل أي تشكيلي في سوريا لرسمه لوحة تدين النظام السياسي. حتى يوسف عبدلكي الذي اعتقل سنتين، وغادر إثرهما إلى باريس، لأكثر من ربع قرن، يؤكد: “اعتقلت لنشاطي السياسي، لا الفني”، لكنه يضيف: “نجوت من محاولة اعتقال بالصدفة عام 1977 لعرضي لوحة (تحية إلى معتقلي يوم الأرض) الموجهة الى أربعة معتقلي رأي سوريين”.
ولا يمكن القول إن العمل التشكيلي يتعرض للرقابة نفسها التي تتعرض لها النصوص الأدبية أو الفكرية في سوريا، وذلك لطبيعته غير المباشرة. كما يمكن القول إن سلطة الثالوث المحرّم تقيّد اللوحة السورية، ووجود لوحات فيها أجساد عارية لا تعني سقط الجنس منه، إذ منعت إحدى المطابع في دمشق السنة الماضية طباعة كتاب لمعرض الفنان أسعد عرابي لوجود رجال عراة فيه.
يعتقد الفنان والناقد أسعد عرابي أن التشكيل في سوريا حُرّ سياسياً لجهل القائمين على الجهات الرقابية بالفن التشكيلي، مما جعله غير قابل للرقابة، وبعيداً عن السلطة، إلا الدعائي والتعبوي منه.
يتفق النقيب السابق للفنانين التشكيليين في سوريا أيمن الدقر مع عرابي، لكنه يرى أن من النادر وجود تشكيلييّن معنيين بالشأن السياسي، ويترجمون مواقفهم السياسية عملا فنيا، ووجود لوحات من هذا النوع سيكون عصيّاً على القراءة من الرقابة.
لا تقيّد الجهات الرقابية وحدها اللوحة السورية، بقدر ما قيّد الفنانون أنفسهم بخطوط رسمها كلٌّ لنفسه، يقول فنان رفض ذكر اسمه: “إذا لم يسمِّ الفنان الأشياء بمسمياتها فلن يضايقه أحد”، ليضيف ساخراً: “إن رسم امرأة عارية في سوريا مباح… الأهم هو الابتعاد عن السياسة”.
أما عبدلكي فيعتقد أن داخل كل فنان سوري شرطياً صغيراً يُبعده عن المحظورات التي أصبحت مألوفة، ومنها كل ما يتعلق بالنص الديني والجنس، ونقد السلطة السياسية القائمة.
منع آخر
لكن غياب المعرفة التشكيلية عند الفنانين، هي أكثر القيود وضوحاً داخل الفنان السوري، بحسب تعبير سارة شمّة التي تعتقد أن “عدم المعرفة بالتكنيك أدى إلى تقييد فناني سوريا وحصرهم في خيارات ضيقة، كما أدى إلى الحد من قدرتهم على الخروج عن الأسماء الكبيرة، وعن كل ما هو مشترك واعتيادي”.
الفنان محمد عمران يؤيد سارة شمّة، لكنه يُرجع قيود الجهل إلى غياب حركة النقد التشكيلي في الحياة السورية. لا يتعلق هذا الغياب بأسباب تمسّ الحرية، كما يعتقد عرابي: “لأن النقد لا يشكل كياناً معرفياً موازياً للسلطة، أو معادياً لها. هو غير مهم، ولا يُنظر إليه بشكل جدّي. فقط يوجد حالات نقدية فرديّة، وهي أصغر من الحراك التشكيلي”.
غياب حركة نقديّة حقيقية، ومكان صحّي لتدريس التشكيل، أديا إلى ظهور عدد كبير من الفنانين النجوم، الذين استسهلوا الوصفات الجاهزة لإغراء الجمهور، فسقطوا بما يسمّى “الفن التزييني”. وحولوا اللوحة من كائن فكري إلى كائن تزييني لبيوت طبقة من مُحدثي النعمة، مما خلق طبقة من الفنانين المرتاحين اقتصادياً، سوّقت لهم صالات العرض الجديدة، فرفعت أسعار لوحاتهم، وطبعت كتباً عنهم.
جذبت هذه الصالات نجوم التشكيل السوري بكل أنواعهم، لفرط إغراء المال فيها، لكن بشروطها؛ شروط السوق والاستمرار. يرى الدقر أن هذه الصالات خلقت حراكاً تشكيلياً في سوريا، وأنها لم تمس حرية التشكيل، بقدر ما أثرت اقتصادياً في سعيها إلى الربح، على بعض الفنانين، معتبراً الربح مشروعا لها.
يتهم أحد التشكيليين هذه الصالات “بالامتناع عن عرض كل ما يدين النظام السياسي القائم، وكل ما يقترب من النص الديني”. ويضيف: “فرضت على الكثير من فنانيها أحجاماً محددة ومواضيع وألوانا تناسب السوق”.
لكن عرابي، ومجدل بيك، وشمّة، ينفون بصفتهم من فناني هذه الصالات، وجود أي قيود تفرضها عليهم. ترد شمّة: “الفنان الحقيقي أقوى من الصالة، ومن السوق. هو من يصنع الموضة”.
الواقع أن هذه الصالات تمتنع عن عرض كل ما لا يتناسب معها فنياً، وكل ما قد يتسبب بغلقها. يقول صاحب “أيام غاليري” خالد السماوي في لقاء سابق معه: “لن أعرض على جدران “أيام” أي لوحة تدين النظام السياسي أو تمدحه”. يضيف: “أفضّل الابتعاد عن كل ما يمت الى السياسة والدين بصلة”.
يعتقد السماوي أن “أيام” حرّة، كما التشكيل السوري، إذ لم يسبق أن جاءته أي جهة تطلب منه منع لوحة، أو عرض أخرى، بحسب قوله.
بعيداً عن كل القيود، والمعوقات السابقة، يمكن القول إن أول عائق يصدم الفنان السوري هو خيار الفن في ذاته. وأن تكون فناناً في مجتمع لم يعرف التشكيل إلا منذ عقود، يعدّ سعياً حقيقياً من أجل الحرية، بحسب تعبير محمد عمران.
الأحد, 24 أبريل 2011- الحياة