عن شيء اسمه إضراب
مازن كم الماز
هناك في سوريا عمال , و العمال السوريون ليسوا دون مشاكل , و لا يعيشون أفضل مما يعيش مثلا العمال الإسبان أو اليونانيين أو الإيرلنديين أو عمال ويسكنسون في أمريكا الذين احتجوا و يحتجون و يضربون عن العمل في سبيل تحقيق بعض مطالبهم , لكن مع ذلك لا يضرب العمال السوريون , مهما كانت أحوالهم سيئة , صحيح أنه قد وقعت في السابق مناوشات عدة في عدة شركات بين العمال و الإدارة لكن العمال السوريين لا يعرفون ما هو الإضراب , و ما الذي يعنيه الإضراب , على الأقل الجيل الحالي الذي ولد بعد 1963 , لقد كان العقل الأمني للسلطة صارما جدا في إصراره على إلغاء فكرة الإضراب من وعي العمال و السوريين عموما على التوازي مع إلغاء فكرة التفكير و التعبير و الفعل المستقلين و خاصة إذا كان هذا يعني الاعتراض على ظروف أنتجها النظام و ترتبط به مباشرة , و وافقه و ساعده في هذا الشيوعيون المتحالفون مع النظام و نقابيوه البيروقراطيون , لقد عملت هذه القوى مجتمعة كل ما في وسعها لتحول السوريين في أسفل الهرم الاجتماعي إلى أتباع مطيعين , لقد خلقت كل آليات القمع و الترويض تلك مجتمعا عار أمام النظام , يمكن استباحته دون أن يملك وسيلة للدفاع عن نفسه إلا الثورة , الانتفاضة الشعبية , التي بدأت أخيرا في 18 آذار لتدخل في صراع مصيري مع النظام و أجهزته .. لكن لكي لا نقع في التبسيط يجب القول أن القسم الأكبر من العاملين في وزارات الحكومة السورية بما في ذلك القطاع العام في سوريا يعتبرون أنفسهم اجتماعيا و يتصرفون كجزء من البيروقراطية , و يجب القول هنا أن النظام الحاكم في سوريا , قد مثل حتى قبل وقت قصير أعلى هرم هذه البيروقراطية الحاكمة , إن حقيقة العمل في قطاع عام يتبع الدولة , أو بالأحرى يتبع البيروقراطية الحاكمة مباشرة , قد يعطي هذا الانطباع .. اليوم هناك ثورة في سوريا , ثورة تعبر عن الأجزاء الأكثر تهميشا من الجماهير السورية , الأكثر إحساسا بالمهانة و التهميش بسبب النظام و منه بالتحديد و الأكثر رغبة و إصرارا على انتزاع حريتها و تغيير واقعها أي ببساطة إسقاط النظام , و واقعة أن القطاع العام ما زال متماسكا في استمراره بالعمل تحت منظومة النهب و السيطرة التي خلقها النظام عبر عقود رغم اتساع شعبية الاحتجاجات تشير إلى ترجيح هذا الشعور عند عمال القطاع العام , لا يقف الموضوع عند التشبيح و القمع الفكري و السياسي و الروحي و الجسدي الوحشي الذي برع النظام بممارسته عبر عقود , بل إننا أمام ميوعة طبقية تسمح للنظام بإبقاء قسم هام من الشعب , من الجماهير الكادحة بالتحديد , في حالة خوف و تردد , ليس فقط فيما يتعلق بانضمامها للثورة بل ربما أيضا في خوفها من فكرة سقوط النظام نفسها , نحن هنا أمام عاملين متناقضين يدفعان في اتجاهين مختلفين , الأول هو أن قسما هاما من هؤلاء العاملين في وزارات و مؤسسات الدولة و القطاع العام قد خلقوا برعاية و مشاركة البيروقراطية الأعلى منهم فالأعلى آليات فساد من خلال عملهم سمحت لهم بالتعايش مع الأوضاع الاقتصادية المزرية السائدة , أيضا فجزء ليس بالصغير من هؤلاء هم بالفعل جزء من الطبقة البيروقراطية الطفيلية على عملية الإنتاج , لقد شاهدنا تضخما كبيرا في البيروقراطية خاصة في العقود الأولى من حكم النظام خاصة في قاعدتها و اقترن هذا بتراجع في عدد ساعات العمل الفعلي التي يقوم بها كثير من هؤلاء , جرى هذا حتى فيما يتعلق بالعمل اليدوي في المعامل التابعة للدولة أو ما يسمى بالقطاع العام , و لذلك بالذات يمكن هنا القول أن “محترفي” العمل المكتبي الروتيني الذي يختصر معنى و ممارسات البيروقراطية هم الأكثر إحساسا بأنهم جزء مهما كان تافها أو مهملا من “حزب البيروقراطية” الذي يحسب على النظام القائم , العامل الآخر هو أن أحوال هؤلاء العاملين كانت تتدهور باستمرار و مؤخرا بتسارع كبير إلى جانب الزيادة الهائلة في مستوى حياة الفئة المحدودة جدا في أعلى الهرم الاجتماعي و السياسي , لهذا بالذات يريد النظام فقط تحييد هؤلاء , صحيح أنه يعتمد عليهم في “مسيراته” الجماهيرية إلى جانب موظفي شركات مخلوف و حمشو , لكنه يخشاهم في نفس الوقت , إنهم يبقون في كل الأحوال جزءا من الغالبية الساخطة بصمت على أوضاعها و على اتساع الفوارق الطبقية بينها و بين رأس النظام , عائلة الأسد .. إن القاعدة الأساسية للنظام كما في كل نظام شمولي هي أجهزة الأمن و الشبيحة تحديدا و ليس عند النظام أية أوهام فيما يتعلق بأي فئة أو طبقة اجتماعية أيا تكن , هذا الوضوح الشديد من طرف النظام و الذي دفعه للتركيز على أحادية القمع الذي يعجز الإنسان عن وصف همجيته بدقة كوسيلة وحيدة ممكنة لحل أزمته المتمثلة في الثورة الشعبية يتيح له مواصلة الصراع ضد الجماهير المنتفضة بدرجة عالية من الفاعلية حتى الآن , يعرف النظام أن هذه القاعدة الواسعة للبيروقراطية تراقب باهتمام ما يجري , و أنه مادام النظام متماسكا و قادرا على ممارسة القمع فإنها باقية في قسمها الأكبر حتى الآن في صمتها على الحياد , و أنه مع تزايد الشواهد على انهياره من الداخل ستنضم بسرعة إلى جماهير المنتفضين , نصل هنا إلى النقطة التي بدأنا بها , إن النظام لا يمكنه أن يستمر مع تحييد أو شلل قسم من الماكينة الاقتصادية التي تضمن ضخ الموارد الضرورية لعمل أجهزته الأمنية , لا يمكن لأجهزة الأمن أن تدير الاقتصاد , إنها تديره فقط بقمع العمال و الفلاحين و صغار البيروقراطيين و إجبارهم على الخضوع , إن تخريب عمل المؤسسات القائمة و تعطيل ماكينة عجلة اقتصاد النظام هو سلاح قديم لجأ إليه العمال في مواجهة أنظمة بقسوة و همجية النظام السوري كالأنظمة الستالينية و الفاشية , لا شك أن هذا لن يحسم المعركة مع النظام التي ستحسم عندما تنهار أجهزة أمن النظام في مواجهة الشارع السوري المنتفض , صحيح أن هذا يعني أساسا شد عزيمة هذا الشارع و الجماهير , لكن هزيمة أجهزة القمع و الموت التابعة للنظام تحتاج أيضا إلى تحويل الموارد التي ينتزعها النظام من السوريين العاديين عن أن تصب في جيوب قادة كتائب الموت و الإعدام التي تسمى اصطلاحا شرطة أو جيش أو حرس جمهوري الخ , لا تدور المعركة الحقيقية في أروقة مجلس الأمن أو وزارات خارجية دول الاتحاد الأوروبي أو أمريكا أو روسيا , بل في الشارع السوري تحديدا , إن مبادرات مثل تنسيق أفعال ما بين الناس في الشارع هامة في رفع كفاحية الناس في الشارع و إضعاف معنويات شبيحة و مرتزقة النظام لكن الأمر الأكثر أهمية هو تطوير أشكال النضال و المقاومة في المعامل و الحقول و حتى في مؤسسات الدولة البيروقراطية و أيضا مؤسسات مخلوف و حمشو و غيرهما , قد يكون من المبكر الحديث عن شيء اسمه إضراب اليوم في سوريا , لكن عندما ينتج العمال السوريون ما سيصبح رصاصا يقتل إخوتهم الفقراء من الطبقات المهمشة أو الملغية تماما من قبل النظام ( لا تستطيع لفظة التهميش التعبير الصحيح عن علاقة النظام بالطبقات السورية المسحوقة اجتماعيا أو التي يحقها هو اجتماعيا و سياسيا و روحيا و جسديا , تذكرنا سوريا بمعسكرات العمل العبودي الستالينية فقط , هذا ما أثبتته الثورة , إن مثل هذه الهمجية و الاستهتار بالسوريين العاديين سواء الذين يلبسون بدلات أجهزة القتل التابعة للنظام أو السوريين العاديين لا يعبر إلا عن علاقة السيد بالعبد , مصطلح الإلغاء أقرب إلى التعبير الأصدق عن مثل هذا الواقع ) يصبح لزاما عليهم أن يحرقوا ما ينتجوه أو أن يفعلوا كل ما بوسعهم لكي يكون الرصاص المتاح للقتلة و المرتزقة التابعين للنظام أقل ما يمكن , سيختلف الوضع عندما سينتج العمال ما سيقتسموه فيم بينهم , كل حسب حاجته لا حسب حاجة النظام و لا لملء جيوب القتلة بالذهب و الدماء .. يبقى النظام هو الذي يقف و ظهره إلى الحائط , فهو يواجه أكبر المخاطر التي قد يواجهها على الإطلاق , أي الثورة الشعبية , و همجيته هي أكبر تعبير عن مأزقه , أما بالنسبة لحماة , و دمشق و دير الزور و اللاذقية و دوما و عربين و حرستا و الزبداني و السلمية , فإن دماء هذه الضحايا هي عربون الحرية القادمة فقط ….