صفحات العالم

عن طوائف البغي والإجرام: مقاتل الإسلاميين في سوريا


د. عبدالوهاب الأفندي

في الخطاب القرآني الموجه ليهود المدينة امتنان إلهي بالفضل على الأسلاف، تتبعه إدانات باتخاذهم العجل وقتلهم الأنبياء وأكلهم الربا ومساهتهم في قتال وقتل إخوانهم في الدين في إطار التحالفات مع المشركين. ومن المفهوم الاتهام بأكل الربا وسفك دماء الإخوان في الدين، ولكن ماذا عن اتخاذ العجل وقتل الأنبياء، وهي ممارسات كانت في عصر سالف؟ ألا يتناقض هذا مع المبدأ القرآني الواضح بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى؟

لعل من المدهش أولاً أنه لم يرد في سجل الحوارات المتطاولة بين اليهود والمسلمين، سواءً في العهد النبوي والعهود اللاحقة، ولا في المساهمات الثرة لليهود الذين دخلوا الإسلام، أو روايات المسلمين عن أحبار اليهود (تلك المساهمات والروايات التي عرفت بـ ‘الإسرائيليات’)، أي ردود بهذا المعنى على هذه الاتهامات القرآنية. ذلك أن الطوائف اليهودية كانت تنتمي إلى تراث يسعى إما إلى التقليل من تلك الجرائم أو تبريرها. وهذا يقودنا بدوره إلى مبدأ قرآني آخر، هو مبدأ التواطؤ في الجريمة، إما بدعمها أو الدفاع عنها، أو حتى بالصمت إزاءها. وقد تم توضيح هذا المبدأ في أجلى صوره في قصة أصحاب السبت، حيث وقعت العقوبة الجماعية ليس فقط على مرتكبي جريمة انتهاك حرمة السبت، بل كذلك على طائفة رفضت هذا السلوك وأدانته، لكنها لم تتحرك لإيقافه بأضعف الوسائل، وهي المطالبة العلنية بوقف السلوك المدان.

هناك توضيحات أخرى عديدة لهذا المبدأ، كما في قصة ثمود الذين وقع عليهم العقاب الجماعي لأنهم ‘عقروا الناقة’، رغم أن من عقرها شخص واحد، وإنما توطأ البقية معه إما بالتحريض أو الصمت. وينسحب ذلك على أتباع فرعون، إذ ليس كلهم ساهموا مباشرة في اضطهاد الأبرياء، ولكن كثيرا منهم علم وصمت أو بارك. وفي العصور الحديثة وقعت جرائم كثيرة من الاستعمار والغزو والإبادة الجماعية وغيرها من الكبائر، ساهم فيها من ساهم بالتواطؤ أو الانتفاع أو الصمت، فباؤوا بإثمها.

وتكتسب هذه المبادئ أهمية خاصة في هذه الأيام التي تشهد فيها بلدان المنطقة جدلاً حول ما يقع من استقطاب طائفي مقيت، وما يتبع ذلك من جرائم منكرة في حق الأبرياء، كما في سورية والعراق تحديداً، وبدرجة أقل في لبنان ومناطق أخرى. فعندما نتحدث عن الطائفية، نتحدث عن ظواهر مركبة، منها التحيز الأعمى لأفراد الطائفة بغض النظر عن الخطأ والصواب، أو استهداف أفراد الطائفة الأخرى على الهوية. ولا شك أن الطائفية بمعنى التعصب الأعمى للجنس والعرق أو المذهب أو الفئة، والتعاون على الإثم والعدوان، هي كبيرة من الكبائر بكل المقاييس.

ولكن هناك طائفية من نوع آخر، يمكن أن نسميها الطائفية السياسية، وهي ‘طائفية’ يندمج فيها الطائفيون مختارين، ولا تفرض عليهم بالوراثة أو غيرها كما هو معهود. على سبيل المثال، نجد في مصر أو تونس أو غيرها، أفراداً وجماعات انحازوا إلى أنظمة الحكم طمعاً أو خوفاً أو قناعة، وشاركوا الحكام فيما ارتكبوا من جرائم في حق الشعب، وانتفع كثير منهم من ذلك. وقد تحول هؤلاء فيما بعد إلى ‘طائفة’ تدافع عن الأوضاع وتنافح عنها. ونرى جوانب من هذا الوضع في اليمن، حيث مثل الحزب الحاكم وأنصار النظام السابق في القوات النظامية ‘طائفة’ ذاتية التشكيل، انتفعت بالنظام السابق، وشاركت في جرائمه، وتستمر في محاولة تقويض الانتقال السلمي للسلطة.

في سورية أيضاً، بدأ الاستقطاب الحالي بين طرفين، الأول خرج ينادي بالحرية والديمقراطية لجميع السوريين، أسوة في ذلك بشعوب عربية عديدة تمردت على نظم الفساد والدكتاتورية. أما الطرف الثاني فاصطف إلى جانب النظام ودافع عن استمراريته. وحتى عند نقطة البداية هذه، لم يكن الطرفان يتساويان أخلاقياً، فليس من خرج مؤيداً للعدل والحرية والكرامة كمن خرج يدافع عن الظلم والقهر.

ويعزز من هذا الوضع غير المتساوي أن من خرج يطالب بالحق والعدل كانوا الغالبية، وأنهم كانوا فوق ذلك ينادون بالحرية للجميع، بدون تمييز أو إقصاء، بما في ذلك الإقصاء لمن استأثروا بالسلطة والمال طويلاً، وغمطوا الناس حقهم. وعليه لا يمكن أن يساوى بين طرف يقول تعالوا يا أبناء الوطن السوري جميعاً على كلمة سواء، ألا يظلم بعضنا بعضاً، وأن نعيش جميعاً في حرية وكرامة، وأن نستغل كل مواردنا للبناء لا لقهر بعضنا بعضاً، وآخر يصر على مزيد من القهر والظلم.

ولكن ما حدث بعد ذلك نقل الأمر إلى مرحلة أخرى، لأن المستبدين ومؤيديهم أضافوا إلى جرمهم الأصلي كبائر أخرى، من التعدي على المطالبين سلماً بالحق والعدل، فقتلوا وعذبوا وشردوا، ولم يوفروا في ذلك النساء والأطفال والمسنين والمرضى. وقد ارتكب أنصار النظام جرائم ما سبقهم بها أحد من العالمين. فحتى في ألمانيا النازية وروسيا ستالين كان أسرى الحرب يعاملون حسب المواثيق الدولية، وكان يسمح للصليب الأحمر بالعمل، وللجرحى بالعلاج. ولم يكن الأطفال يعاقبون بجريرة آبائهم. ولكن ما شهدته سورية منذ أشهر الثورة الأولى كانت بربرية تخجل المغول، حيث لم تكن هناك مراعاة لأي قيمة أخلاقية، ولم يكن للإنسانية معنى عند النظام وأنصاره.

هنا بدأ التمايز الحقيقي، فتبرأ من استطاع من جنود النظام ومسؤولي الدولة من هذه الممارسات الوحشية، ودفع الكثير منهم وأسرهم ثمناً غالياً لذلك. عليه انتهى الأمر إلا استقطاب بين طائفتين لا ثالث لهما، طائفة انحازت للإجرام إما مشاركة وإما صمتاً، وطائفة رفضته وتبرأت منه وناهضته. ولكن المؤسف هو أن كثيرين من خارج سورية، ممن طهر الله أيديهم من هذا الإجرام، لأنهم لم يكونوا طرفاً في القتال وسفك الدماء، اختاروا طوعاً الانحياز إلى هذا السلوك الإجرامي بذرائع شتى لا قيمة لها، ببساطة لأن مثل هذه الكبائر والفظائع لا يمكن تبريرها بأي حال من الأحوال. فلو كان بشار الأسد المسيح المنتظر، أو إلهاً من الآلهة كما يقول شركاؤه في جرائمه، لما جاز في نصره ارتكاب ما ارتكب من مجازر وفظائع في حق الأبرياء. ولكن الثابت أن النظام السوري نظام إجرامي أصلاً، ولهذا ثار الناس عليه. أما ارتكاب جرائم إضافية لتثبيت أركانه المتداعية فهو نصرة للشر بشر أكثر، وهو أشبه بضلال ابليس الذي اختار، بدلاً من التوبة من إثمه، أن يضاعفه بتوريط كثير من الخلق في طريق الإثم الذي سلكه.

ولكن ما يؤسف له هو أن بعض القيادات المفترض فيها الاسترشاد بقيم الدين الإسلامي، لا بسنة ابليس عليه لعنة الله، اختاروا توريط أنفسهم في جرائم الأسد ونصرته، كما شهدنا من قيادات إيران وحزب الله وبعض القيادات العراقية. ذلك أن نظام بشار الأسد لم يدع يوماً أنه نظام شيعي، بل هو نظام علماني مناهض للدين أصلاً، وهو كاذب حتى في ادعاءاته القومية. وحتى لو كان الأسد هو المهدي المنتظر لما جاز له ما يرتكب من كبائر. وتوريط الشيعة في ما يرتكب من جرائم في حق المواطنين السوريين هو خطأ أخلاقي أولاً، لأنها جرائم لا تبرر بأي حال وبأي حجة، وهو من الموبقات التي يهلك من تورط فيها. ولكنها يعتبر، فوق ذلك، جريمة في حق الشيعة في وقت تهيأ فيه الظروف لعدوان على إيران، ويشهد فيه العراق استقطاباً، وتقف فيه لبنان على شفا صراعات جديدة. فإذا كان هناك حديث عن مؤامرات أجنبية، فإن أكبر مؤامرة هي ربط الشيعة بهذه الجرائم المنكرة التي شهد العالم كله عليها، وأجمع على إدانتها.

ما ينسحب على ما يقع في سورية ينسحب على المناطق الأخرى التي تقع فيها جرائم في حق الأبرياء، أو الظلم والقهر، سواء أكان ذلك في العراق أو البحرين أو غيرهما. فما يرتكب من قبل فئات إرهابية في العراق من تقتيل للأبرياء، وقتل للمصلين والمشاركين في الشعائر الدينية، وما وقع يقع من تعذيب وافتراء، وما تتعرض له الغالبية في البحرين من قهر، كل ذلك من الآثام التي ينبغي أن ينأى كل مؤمن بنفسه عنها. وحتى لا يتطوع متطوع فيقول وما ذا عن دارفور، فإننا نقول أن ذلك ينطبق على دارفور وأي منطقة أخرى ارتكبت فيها جرائم في حق الأبرياء. ففي كل هذه المواقع لا يقتصر الإثم على من نفذ، بل كذلك على من تواطأ ودافع ومن صمت.

خلاصة الأمر أنه في مثل هذه المواجهات ‘الطائفية’، هناك طائفتان فقط: طائفة المجرمين والبغاة ومن ناصرهم، وطائفة الضحايا ومن دافع عنهم. على سبيل المثال فإن كثيراً من الشرفاء من أبناء الطائفة العلوية في سورية لم يكتفوا بالتبرؤ من جرائم نظام الأسد، بل وقفوا كذلك مع الضحايا ودعموهم بكل ما يستطيعون. بنفس القدر فإن النظام الإيراني الذي وقف مع نظام الأسد بغير شروط، كما فعل نظام بوتين في روسيا والحزب الشيوعي الصيني، هو نفس النظام الذي مارس القمع في حق الإيرانيين، بما في ذلك القيادات السياسية والدينية التي كان لها بلاؤها في تثبيت الثورة الإيرانية. فالذي يجمع بين الأنظمة التي تدعم الأسد هو أنها في حالة حرب مع شعوبها، تعرضت من قبل لانتفاضات مماثلة وتخشى تكرارها. فهذا هو حقاً تحالف المجرمين في حق شعوبهم. في العراق أيضاً نرى بعض الأحزاب التي تدعي الدفاع عن الطائفة الشيعية لا تتردد في استهداف من يعارضونها من داخل الطائفة. فكما حدث في ألمانيا النازية من قبل، وفي صربيا وفي بورما وغيرها من مواقع الإجرام الجماعي، غالباً ما تنبري فئة تزعم أن الطائفة أو الدولة هي الحزب الذي يتزعمون، ثم يلخصون الحزب في فرد. وبينما يدعي هذا الفرد أنه المدافع عن الطائفة ومصالحها، بحسب تعريفه هو، فإنه في الغالب يهلك الطائفة دفاعاً عنه، قبل أن يهلك هو.

المطلوب هو أن يتبرأ كل شريف من كبائر المجرمين: فليسارع العلويون والشيعة الشرفاء للتبرؤ من جرائم الأسد والمالكي وأحمدي نجاد، ومن شايعهم، وليسارع أهل السنة الشرفاء للتبرؤ من جرائم القاعدة وأنظمة القهر والكبت في البحرين والسودان وغيرهما. ذلك أن مثل الكبائر التي يجترحها هؤلاء القوم هي مما يعجل الله عقوبته في الدنيا قبل الآخرة، ومما ترثه الأجيال، كما رأينا في ألمانيا النازية ونرى في صربيا ورواندا وأمثالهما. وذلك ضروري حتى لا ينطبق عليهم القانون الإلهي في تمييز الصفوف، والإرادة السماوية التي تجعل من دفع الناس بعضهم ببعض اختباراً يميز به الله الخبيث من الطيب، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى