عن عباس الذي دخل “الماركت” بقوة/ أحمد شوقي علي
يُعرِف الكاتب محمد عباس الرواية على أنها “عدة مشاهد، وهذه المشاهد تتكون من أحداث، وتلك الأحداث يقوم بها “كاراكاترز” (شخصيات)، فهي بمنتهى البساطة: كاراكاترز وأحداث هيعملوا مشهد، وكذا مشهد بقوا رواية”. ويؤكد أن “اللي يقدر يكتب قصة قصيرة –على غير الاعتقاد- يقدر يكتب رواية”، وفي ما بين التعريف وذيله، يعلن الروائي المصري الشاب عن إطلاقه ورشة تدريبية “Course” لكتابة رواية في 150 صفحة خلال 60 يومًا فقط.
ويعود عباس، قبل الإعلان عن تفاصيل دورته التدريبية، ليشير إلى أن القصة القصيرة هي النواة الأولى للرواية، وبالتالي فعليك إذا اتخذت قرارك بكتابة الرواية “الحلم”، أن تتعلم أولاً كيفية كتابة تلك القصة القصيرة. وطريقتها بحسب عباس، هي أن “تأخذ مشاهد scenes من الأفلام، السين ده عبارة عن قصة قصيرة، خذه أتفرج عليه وبعدين اقفل واكتبه بطريقتك بالحوار بكل حاجة”. لكنه يستدرك قبل الوقوع في الخطأ الشائع، ليوضح للمتلقي أنه لا يوجد ما يسمى بالقصة القصيرة، مؤكدًا أنها “تصنيفات نشر أساساً، لا يوجد ما يسمى بالقصيرة، هي القصة، ولكن الناشر لا يستطيع أن يضعها في كتاب بمفردها فيسميها short story، وفي وقت من الأوقات لما بقى في حاجات صغيرة كده حاسين إنها مش قصة قصيرة ولا هي رواية راحو مطلعين اسم كده اللي هي “نوفيللا”، عشان يبقى لها اسم يعرفوا ينشروا بيه، لكنها في النهاية “ستوري”، وعن التعريف الدقيق للقصة يقول إنها: “من صفر إلى 30 صفحة ديه “شورت ستوري”، ومن 100 لما فوق هذه رواية، وما بينهما هو نوفيللا”.
وللروائي الشاب العديد من الأفكار “المميزة” حول الكتابة، لكني أخشى إذا استمريت في عرضها، أن يلهينا حديث النظرية عن تعريف القارئ بالكاتب محمد عباس، وفي الواقع إن النظريات لا تمنعنا من تعريف صاحبها. ففي موقع الدورة التدريبية لا يعرف الروائي بنفسه، إذ لا يحتوي الموقع سوى على ستة فيديوهات، تضم نظريات الكاتب حول فن الرواية والقصة، وكيفية كتابتهما ثم الترويج لها عن طريق النشر وطرق الإعلان المختلفة. كما يحتوي الموقع كذلك على تفاصيل الاشتراك في دورة الكتابة التي يشرف عليها وهي: أن الـ”Course” يكلف 600 جنيه مصري (نحو 77 دولاراً)، ويضم 15 مشتركًا فقط (لذا يجب على المشارك الإسراع بالتسجيل فالأماكن محدودة). ويشمل العرض أيضًا اشتراكًا مجانيًا “في “The Fiction Factory Club” للمتابعة والدعم مرتين في الشهر مع محمد عباس ومجموعة من الكتاب الشغوفين”، كما يضمن لك عباس نفسه أو ربما المنظم للدورة وهي شركة “Passion Point” استرداد كامل أموالك إذا لم تستطع كتابة الرواية الخاصة بك من 150 ورقة في 60 يومًا بالضبط.
لكن لا يصح لي أن أتتبع أفكار الرجل من دون أن أعرفه. في الأمر قلة تقدير إذا فعلت، ولا ينجيني من الوقوع في الخطأ إلا أن أتقدم كمشارك في الورشة لعلي أقابله فأتعرف عليه. لكن مكان الدورة في أقصى شمال القاهرة بينما أسكن في جنوبها وهذا يشكل عائقا بالنسبة إلي. قلت اتصل برقم هاتفي مرفق بإعلان الورشة، لعلي أجد عندهم خبرًا. قلت في الهاتف –وأنا أتقمص دور راغب في الاشتراك بالورشة- “آلو”، جاءني الرد في صوت وكأن الفنانة الراحلة هند رستم هي من تحدثني على الخط الآخر، وددت لو أنسى هدفي من الاتصال أصلاً، وأعقب بجملة واحدة هي “Sign me up!”. لكني عدت فتداركت الأمر، وقلت ما خططت له: “أنا فلان وأود الاشتراك في دورة الكتابة ولكني أولاً أريد بعض المعلومات عن محمد عباس”، لم تكن المعلومات حاضرة في ذهن صاحبة الصوت الجميل، لكنها وعدتني بمعاودة الاتصال بي مرة أخرى لتزودني بالمعلومات. ووفت بوعدها وأعطتني رابط موقع إلكتروني آخر خاص بعباس وفيه كل شيء عنه.
باختصار، محمد عباس هو مهندس كهرباء، قرر أن يترك مهنة الهندسة بعدما شارك في ورشة تدريبية نظمتها شركة “Passion Point” تحت عنوان “Passion to profit” أو كيف تحول شغفك إلى مكسب. فاكتشف أن شغفه الحقيقي ليس في الهندسة وإنما في الكتابة، فانضم إلى دورة لتعلمها أشرف عليها الكاتب نبيل فاروق، ثم انصرف بعد ذلك إلى كتابة سلسلته الروائية الأولى التي تحمل عنوان “تاتشي كيشي”-ولعنوان السلسلة قصة تعكس دأبه البحثي ولكن يضيق المجال هنا لذكرها-وصدر منها الجزء الأول بالفعل تحت عنوان “ذئاب فوجي سان”، فيما ينتظر صدور الجزء الثاني “قتل بلا دماء” خلال فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب نهاية يناير الحالي.
هكذا صارت بين يدي المفاتيح كلها، النظرية (الفيديوهات)، وصاحبها “عباس”، وخبرة صاحبها العلمية والعملية (تتلمذه على يد نبيل فاروق وإصداره روايته الأولى)، والأسس التي يسعى من خلالها إلى نشر نظريته والتعريف بها وفي الوقت نفسه تدبير مصاريفه الشخصية (دورة الكتابة). إذاً فأنا أمام ظاهرة مكتملة، وبقى لي أن أعلق عليها: إما بالسخرية من الظاهرة، أو تقمص دور الفنان الراحل أحمد زكي في فيلمه “ضد الحكومة” والقول: “كلنا فاسد.. كلنا فاسد، لا أستثني أحدًا”، وفي الحقيقة يطيب لي استخدام الطريقتين في تناول الأمر.
أما وقد أعطيت السخرية حقها في ما سبق من عرض، يتبقى لي المساواة بين ورشة الكتابة التي يقوم عليها صاحب “تاتشي كيشي”، وبين ورش الكتابة الأخرى في مصر، والأخرى هنا لا تعني “التنوع”، وإنما تشير إلى الجهة الأخرى من الكتابة والتي يمكن أن نطلق عليها بين قوسين تسمية “الكتابة الجادة”. لكن قبل الشروع في ذلك، وجبت الاستعانة باقتباس أخير من كلام عباس حتى تكتمل الصورة، إذ يرى أن الكاتب يقبل على الالتحاق بالورشة الأدبية “لانعدام ثقته في قدرته على إنجاز رواية في 150 صفحة، كما لا يثق في فكرته، ولا يثق كذلك أنها لما تنزل الماركت هتبقى بيست سيلر، أنا أحب أقوله إن أول رواية مش شرط تبقى بيست سيلر، وبص على الروايات اللي في الماركت، فيه روايات كتير أوي في الماركت أنت لما تقراها تقول إزاي ديه بقت بيست سيلر، هي لا ترقى إنها تبقى رواية حلوة لكنها في الآخر بقت بيست سيلر”.
تختصر مفردة “الماركت” (أي السوق) التي استخدمها عباس، الكلام كله، وتعري المفهوم الرومانسي للأدب في صالح الواقع الحقيقي للتلقي. وفي الوقت نفسه يعكس طرحه بؤس المقارنة التي يعقدها من ينتمون إلى “الكتابة الجادة” حول أدبهم وأدب “البيست سيلر”، في حين يبدو كتاب تلك المنطقة الضحلة –من وجهة نظرهم- غير مكترثين بهم أساسًا عند تقييمهم للأدب الجيد والرديء.
وتفرض كلمة “السوق” هنا، على المقارنة التي نحن بصدد عقدها، الاحتكام إلى معاييرها. ففي العام 2009 بدأت تظهر في مصر بعض الورشة الإبداعية، وكانت كلها حول السرد، إما رواية أو قصة، وبنظرة سريعة على تلك التجارب، سنجد أن من تصدوا للإشراف على تلك الورش، وقت إطلاقها، إما شاعر أصدر رواية واحدة، أو قاص أصدر مجموعة قصصية أو اثنتين وربما ثلاث، أو كاتب تجول في بستان الأدب فخطف زهرة من كل شجرة فتراه يكتب الشعر فصيحًا وعاميًا والقصة أيضا والرواية.
وإذا كنا سنحتكم إلى معايير السوق، فإننا ننظر في تقييمنا تلك التجربة إلى التالي: الهدف من المشروع (هدف الورشة الإبداعية)، منهج التنفيذ، المؤهلات الواجب توافرها في مدير الورشة، المنتج النهائي، قبل أن نسأل: ما هو الهدف من تنظيم تلك الورش؟ وهل كان المحاضر فيها يملك سيرة ذاتية مناسبة تؤهله الإشراف عليها: تجربة إبداعية مكتملة في السرد (باعتباره الموضوع السائد لتلك الورش)، شهادة علمية في النقد مثلاً أو خبرة عملية توازيها، وعدد لا بأس به من الجوائز المرموقة التي توحي بتفوق صاحبها؟ وهل هناك اختلاف نظري حقيقي بين هؤلاء المشرفين حول تيار الكتابة الذي ينتمون إليه؟ وهل هناك أي مناهج مختلفة عن النموذج التقليدي الثابت –والوحيد- لتلك الورش كأستاذ وتلاميذ؟ وأخيرًا بعد نحو 7 سنوات من بدء تلك الورش ما هو الناتج الحقيقي الذي أفرزته؟
يمكن للمقارنة أن تستمر في طرحها للعديد من الأسئلة وإثبات عشرات الفرضيات حول إجابتها، انطلاقًا من هدف إنشاء الورش الإبداعية في مصر، وصولًا إلى التساؤل حول جدوى الكتابة أساساً. لكن السؤال المهم فعلاً، هو: إذا كنت أنا أو غيري نتعامل مع الكتابة بشكل جاد، فماذا يضيرنا إذا درّسَ محمد عباس نظرياته العجيبة تلك عن الكتابة، أو إن قام غيره من فريق الجدية بتقمص دور المعلم وتدريس منهجه في الكتابة؟ وما الذي يضر الكُتّاب عمومًا من نشر آلاف الروايات يوميًا؟
بمنطق السوق أيضاً، والمتجرد من كل الصور الرومانسية حول الكتابة والأدب، أجيب: يهمنا أن يحصل كل منا على متلق/قارئ.
ورش الكتابة هي نشاط غربي رائج وناجح تمامًا، هناك. لكن في الغرب ثمة سوق حقيقية للكتاب، يتجاور فيها ستيفن كينغ مع إيزابيل الليندي أو كافكا. كل لديه “زبونه” بالمعنى الدارج. فبلاد تنتج آلاف الكتب سنويًا، وكل كتاب تتجاوز طبعته الواحدة 18 ألف نسخة، لن يضيرها في شيء وجود مؤلف لكاتب يظن أن لديه بعض الأفكار حول تغيير العالم، فذهب لتعلم أساليب الكتابة “الراسخة” ليمرر من خلالها أفكاره.
لذا، فما ما أفهمه حقًا، هو أن رهان تلك الورش يجب أن يكون أولاً وأخيراً، على خلق تلك السوق الثرية بكل أنواع الأدب، واتجاهاته المتباينة والمختلفة، وهو هدف لا يمكنها –أي الورش- أن تحققه بمفردها بالطبع، وإنما يتحقق بإطلاق كل شيء حتى مداه بدءاً من حرية النشر ومرورًا بالجوائز الأدبية وحتى ورش الكتابة الإبداعية.
المدن