صفحات الثقافة

عن فكرة قالها أنطون مقدسي/ حسن داوود

 

 

في حوار أجريته معه في دمشق، قال الراحل أنطون مقدسي، أن من الصعب علينا أن نفهم الشعر الجاهلي. كانت هذه فكرة عابرة قالها المثقّف الراحل من دون أن يُسبقها بمقدّمات. هذه واحدة من صفات كلامه في كلّ حال، حيث يبدو لسامعه، الممسك قلما وورقة، يتكلم كأنه يقرأ نصّه قراءة. أي أنه يتكلّم بادئا من أول السطر. وهو، عندما يرى أن عليه أن يقفل فكرته، يقول للصحافي الجالس قبالته، وهذا مَن كنته أنا في ذلك اليوم، أن يرجع من جديد إلى أوّل السطر.

وهذا الصحافي سيفاجأ من السرعة التي أنجز فيها الحوار، مع أنه حظي منه بغنيمة كافية. لم أشأ، بل لم أستطع، أن أوقف سيل أفكار أنطون مقدسي لأسأله ماذا يقصد بقوله أنه يصعب علينا فهم الشعر الجاهلي. بدلا من ذلك رحت أسائل نفسي عما يقصده من ذلك. فنحن، على رغم اختلاف الزمن بين لغتنا ولغة الجاهليين، لم ننقطع عن قراءة هذا الشعر، بل والإستئناس به كما حين نستعيد متذكّرين أبياتا من معلّقة امرىء القيس وهو يتغزّل، بمزيج من المرح والفظاظة، بمحبوبته واصفا كيف أنه كان يرميها بلحم ناقته، مفتَّلا، بعد أن نحرها احتفالا بسعادته بها.

مع انقضاء الوقت راحت تتكشّف تلك الفكرة وتتضح. الشعر لم يُكتب، أو لم يُقل، ليُفهم. في أسفل كلّ صفحة من كتاب الأدب العربي، تفسير للكلمات الصعبة تساعد على فهم ما يقصده الشاعر. بيتا بيتا كنا نقرأ القصيدة، مفكّكن البيت الوحيد ثم نعيد جمعه. أما ما كان يثيره ذلك الشعر في مخيّلات سامعيه الجاهليين، أما انطرابهم به، واستجابتهم لحماسة قائله حين يدعوهم إلى الحماسة، شأن ما فعل عمرو بن كلثوم على سبيل المثال، وكذلك الإنفعال الذي تولّده الكلمات بذاتها، هكذا بما يتعدّى معناها اللغوي، فأمر ليس من السهل تمثّله.

ابسط الأمثلة على ما يأتي به اختلاف الزمن هو قلّة انسجامنا مع غناء، أو لحن، كان “يهتزّ” له سابقونا طربا. من ذلك مثلا استهجاننا، في أيام وقوعنا أسرى عاطفية عبد الحليم حافظ، لغناء صالح عبد الحيّ في الشريط المصوّر الباقي من أيّامه، فيما هو يغنّي، بطريقته، ليه يا بنفسج بتبهج. ثمّ أن ما سعى إليه محمد عبد الوهاب في أغنية “أنت عمري” هو نقل صوت أم كلثوم وغنائها إلى زمن جيلي جديد بعد أن كان سمّيعتها من كبار الأعمار ومن الحاذين حذوهم.

ما ذكّرني بفكرة أنطون مقدسي الجوهرية تلك هو قراءتي للسطور التي كتبتها مارتا كولينز في التقديم لترجمتها الشاعر الفيتنامي نُغوين كوانغ ثِيو إلى الإنكليزية. أول ما أثار انتباهها، وهذا ما رأت فيه واحدا من العناصر التي قد تؤدّي إلى صعوبة الترجمة، هو أن شكل القصائد على الصفحات سيختلف في الإنكليزية عما يظهر عليه في اللغة الفيتنامية. كما رأت أن إجادة الفيتامية كتابةً غير كافية، فكان عليها لذلك أن تنضمّ إلى صفوف المرحلة الأولى لدراسة اللغة الفيتنامية، هناك بين تلامذة فيتناميين، ليتاح لها “التعرّف على الأشكال، والصور، والأصوات…”.

في موضع آخر من المقدّمة تسطّر ما يشبه أن يكون اعترافا بالعجز الفادح في كلّ ترجمة، تقول: “الحقيقة: إن القوة الكاملة، ألكامنة في بعض الصور والإشارات ذات الطابع المحلّي لا يمكن أن تكون مفهومة من قبل القارىء الذي يتكلّم الإنكليزية”. ومن ناحية أخرى “تبدو بعض الإشارات المحلّية التي يستخدمها (الشاعر) أكثر سريالية لنا مما هي عليه للقارىء الفيتنامي، ومثال على ذلك “ألكحول المصنّع من الأفاعي” التي يذكرها الشاعر في قصيدته “نُزْل كُحولِ الأفاعي”.

هنا نحن إزاء لغتين مختلفتين، بإزاء زمنين في ما خصّ ما قاله لي أنطوان مقدسي. في الحالين وإن بنسب مختلفة، يقع الفارق في ما يتعدّى المعاني القاموسية للكلمات.

ملاحظة: لا أعرف لأيّ غرض أثبتت، في الترجمة العربية للكتاب، مقدّمة مارتا كولينز للترجمة الإنكليزية، وهذه الأخيرة، في ما أحسب، نُقل منها النصّ العربي. هل من أجل أن نعرف شيئا عن كمال الترجمة الإنكليزية فيصحّ عندها اعتمادها كنصّ بديل عن الأصل الفيتنامي؟ كان مفيداً أن يكتب المترجم العربي الشاعر سعدي يوسف تجربته هو أيضا في نقل الشعر الفيتنامي عن اللغة الإنكليزية، وذلك في مقدّمته التي قدّم فيها تعريفاً لعلاقته الشخصية بالشاعر الفيتنامي.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى