عن كونديرا وقراءته التي “ليس منها بد”/ هيفا نبي
هل يومئ لك كاتب الرواية التي بين يديك إيماءة اتفاقٍ مبطن أو تآمرٍ سري؟ هل تضيع فجأة بوصلتك فلا تميز الجهة المحتالة التي تحاول استمالة أحد الأطراف على حساب الطرف الثاني؟ أتعترف بعجزك عن معرفة، إن هو يحاول استمالتك أم أنت من يحاول استمالته للدخول إلى عالمه؟ هل يغمز لك بعين كلماته أو بعين معانيها؟ هل تشعر فجأة أنك مخصصٌ للحضور والتمثيل وخوض الحياة في عالم كلماته؟ أنت إذاً أمام ميلان كونديرا.
هل كتبتُ هذه المقدمة بصيغة تقليدية ومفخّمة؟ يجب إذاً أن تعترف أن عالم كونديرا الحسّاس جداً تجاه مفرداته وتراكيبه يُملي عليك غالباً ما تصفه به. فرغم حريته اللامحدودة في اختيار كل ما يتعلق برواياته، يقيدك كونديرا باختيار الكلمات والأفكار التي تتناولها أنت في تحليله.
كونديرا الروائي الفرنسي، التشيكي الأصل، له اليد الطولى في حشر العالم في الرواية بحيث تغدو رواياته الشيء الذي”ليس منه بد” في كل مجال يمكِّنك من فهم العالم. رواياته بعيدة بشكل تام عن الروايات التقليدية أو محددة الهدف والوِجهة، فهنا لا يريد الكاتب سرداً تاريخياً ولا فلسفياً ولا سيكولوجياً ولا اجتماعياً ولا وضعياً ولا أيديولوجياً ولا ميتافيزيقياً، بل كل هذا الميراث الإنساني دفعة واحدة. فالرواية تقف عنده على السوية نفسها مع الفلسفة في فهم خفايا الكائن الإنساني بل وتزيد على الفلسفة بقدرتها على اجتياح الأنا بطريقة أكثر ودّية، والاقتراب أكثر من فهم تناقضاتها التي تصعب أحياناً على الفلسفة.
ففي روايته الأشهر “كائن لا تحتمل خفته” أو “خفة الكائن التي لا تحتمل” يقدم كونديرا وثيقة تاريخية لفترة حساسة من تاريخ التشيك، كذلك الأمر في روايته “المزحة” من دون أن تكون الخاصية التاريخية أحد مقاصد الكاتب الأولية. كما يبني روايته المذكورة “كائن لا تحتمل خفته” على أسس فلسفية متعلقة بالعود الأبدي لنيتشه ولازمة رباعية بيتهوفن “ما ليس منه بد” من دون أن يكون المقصد الفلسفي أحد أهدافها المباشرة، كذلك تتناول أغلب أعماله مواضيع تأملية عميقة خاصة بالوجود الإنساني من دون أن تكون هذه الوجهة وجهته الوحيدة في الرواية، ومن دون أن تؤطر هذه الأدوات أيّاً من حالات السعي المتكررة نحو فهم الأنا.
لا حصر لما يمكن أن تُحبه في عوالم كونديرا، فكل شيء يعد اكتشافاً بالمعنى العميق للكلمة. اكتشاف هواجسك، جهلك، عواطفك، أخطاءك، أفكارك، سخريتك، فجورك، وخاصة الوجه الثاني لما تعرفه عن نفسك. إنه عالم مكدس ومكثف من الاكتشافات التي يمكن أن تمر عليها عادة من دون أن تشعر بها أو تستطيع تسميتها أو تلقي لها بالاً.
اختصار العالم إلى فكرة، والفكرة إلى كلمة والكلمة إلى فراغ هو السحر الذي يطغى على سطوره، خاصةً تلك التي يتخذ فيها كونديرا وجهه التأملي ليُلقي بضوء الخالق على كائناته العالقة بالفعل أو بالحدث وعلى الأخص بالتأمل. لكن هذا الفراغ لا يظل فراغاً مبهماً، بل يؤلف عالماً واسعاً للاحتمالات الإنسانية، للإمكانيات المنطقية واللامنطقية التي لا يمكن لعلم أو نوع أدبي أن يضمّها سوى الرواية.
ميلان كونديرا، هذا الكاتب العجوز الذي يغريك بهيئته الكهلة بالذات وبكل ما في الكهولة من قوة وخبرة وفساد وربما فجور. في أدبه كذلك هناك كهولة ممزوجة بطيش وجمال الطفولة، كأن عالم كونديرا مؤلف من قطبين اثنين، عالمين اثنين لا ثالث لهما: بريء جداً وفاسد جداً، هما عالم الطفولة البادئ بخفة (عالم متمثل بالطيش والفكاهة الطفولية) وعالم الكهولة المنتهي بخفة أيضاً. ليس هناك وجود للبالغين الجديين، منتصفي الخبرة والتجربة، تلك الكائنات غير المكتملة فلسفيًا التي ما تزال في طور السعي، والتي تتخد نفسها بجدية مبالغ فيها. وإن صدف ووجدت آثارهم فهي حتماً لإظهارعيوبهم التي ذكرناها سابقاً من عدم الاكتمال ووهم السعي والجدّية المبالغ بها.
لكن هذان العالمان المتمايزان ليسا عبثيين في حضورهما، إنهما المرحلتان الأكثر حساسية على الإطلاق. هما عمر اللاجدية والدعابة والفكاهة الفلسفية. وليست الدعابة، يتوجب التنويه، خصيصة متعالية عن العالم أو مضافة إليها بل هي ركيزتها وأحد أركانها الأساسية المغيّبة، ذلك أن العالم حسب كونديرا مزيجٌ متماسك من الكوميديا والتراجيديا. وفي بعض الأحيان صراع الإثنين، أحدهما ضد الآخر كما هو الحال في القصة الأخيرة من “غراميات مضحكة”. في هذه القصة المعنونة بـ “لعبة الأوتوستوب” تسيطر فكاهة مُرة على مجريات القدر نفسه بحيث تقلب مقاييس إيمان العاشق بمحبوبته وتدمر معرفته لها، عن طريق لعبة مصادفة رخيصة وبحتة؛ هي لعبة السائق والمجهولة التي تستوقفه. هذه اللعبة تبدأ كهروب من الملل أو ما شابه بين الشاب السائق ومحبوبته التي كانت حتى قبل تلك اللعبة مثالاً مميزاً للمرأة التي تستهويه. لكن ما إن تتجذر اللعبة وتتطور نتيجة اندفاعهما الصبياني نحوها، حتى تتوسع الهوة بين الاثنين، فالفتاة من جهتها تشعر بحريتها في قول ما لم يكن حياؤها يسمح لها بقوله قبل تمثيل دورها هذا (مثل حاجتها للتبول) فتتحرر بمجرد أن تدرك أنها ليست سوى ممثلة في لعبة صغيرة، يضاف إلى ذلك شعورها بالقوة، إذ تتشبه هنا بكل النساء اللآتي عرفهن صديقها واللاتي كن يثرن غيرتها بشدة. لكن الشاب من جهته يضيع في الصفات الجديدة لصديقته. إنها تبتعد عنه بتمثيلها شيئًا فشيئًا حتى لا يكاد يتعرف إليها. وتبدأ صفاتها الحديثة بإثارة التقزز والنفور فيه، بحيث لا يبقى منها سوى الجسد الذي يشتهيه بقوة أكثر لتشابهه مع أجساد كل النساء اللاتي عرفهن سابقاً. في نهاية القصة يدرك القارئ نفسه، أن لا طريقًا للعودة بعد، فاللعبة تمكنت من الطرفين وغيرت نظرتهما إلى الأبد.
كان يمكن لقصصه الأخرى التي تدور في زوبعات فكاهية وعبثية مشابهة، أن تكون في قمة التراجيديا، لولا أن كونديرا التفت إلى تراجيديتها وضحك منها ساخراً وهكذا نقل لنا ضحكته عبر مجريات القصة. كأن القصة هي المشهد وضحكته هي الخلفية الموسيقية له. وبهذه الطريقة بالذات أدمجنا وجعلنا جزءاً من المشهد الذي بتنا لا نراه إلا بعيون كونديرا نفسه.
ولكن إن لم يكن بالإمكان إلا مقابلة الكوميديا (الدعابة) في قلب التراجيديا التي تطفو على سطح العالم، فهذا لا يعني أن الكوميديا، كما يوردها كونديرا، متواجدة من دون جهد، إنها في الحقيقة السر الممتنع على الرؤية، لأنها تحتاج لوعي أمثل بالعالم وبالتكوين الإنساني وهي قد ولدت، كما يرى كونديرا، بولادة الرواية ووجدت موطئها في أرضها فحسب.
من هنا فكل تحليل لأدب كونديرا سيؤدي إلى المفتاح غير السري لفكره وهو الجدية / الدعابة. لقد اختار كونديرا لفكره وقصصه هاتين الخصيصتين، وبهما يمكن قراءة كل ما يرد من كونديرا: “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة. ألا نأخذها على محمل الجد”. هذا ما يقوله رامون في رواية “حفلة التفاهة” أو “عيد اللامعنى”. وكما أن هذه الدعابة صدمت كثيراً من شخصيات كونديرا واصطدمت بفكرتهم عن العالم والعلاقات مع الآخرين، كذلك فقد شكلت هذه الدعابة حسب اعتراف كونديرا نفسه حاجزاً بينه وبين قرّائه فيقول في الوصايا المغدورة: “لو سألني أحد عن السبب الأكثر تواتراً لسوء الفهم بيني وبين قرائي، لما ترددت بالإجابة: الفكاهة”. فهو يدرك أن “لا شيء أصعب من إفهام الفكاهة”.
بالنسبة لأسلوب الكاتب، فهناك محاور أساسية جعلت فهم رواياته أكثر معقولية وإمكانية وهي، إن كانت لا تتلخص ببعض العناصر التي سنوردها بخفة هنا، أكثر من مجرد تقنيات كتابية، إنها الطرق الأمثل لقول ما يود كونديرا قوله، إنها بعبارة أخرى “ما ليس منه بد”. أسلوبه الأساسي يتمثل في الكتابة بشكل عالق، بطريقة تجعل كل شيء عالقاً إلى اللحظة التي “ليس منها بد” حيث سيعود الكاتب إليها ليثير فينا إندفاعًا مجنونًا نحو إعادة ترتيب الأفكار وإعادة الفهم. كأنه يختبرنا بالذاكرة والنسيان، يختبرنا بقوة وضعف إيماننا بالأشياء. كونديرا لا يترك شيئًا يفلت منه، يجب أن يدمغ كل حدث أو مزحة أو شعور وأن يعود له مراراً ليتفحص فيه ويقلّبه على كافة جوانبه فلا شيء إعتباطيًا رغم أن الحياة تبدو لأبطاله اعتباطية وساخرة. كذلك يقلب كونديرا تجارب أبطاله على كل أوجهها ويعطيك الأمل بالفهم، ثم يخيبك بذات السخرية التي يُوقع فيها أبطاله، ويعود فيريك أوجهاً أخرى لذات التجارب، ويوهمك من جديد بالتوصل للمعرفة وهو يعرف أنك بين يديه ورهن هباته. ولكن هل تفهم في نهاية المطاف ما يريد أن يمليه عليك؟ في الغالب لا، فالروائي الذي يحاول أن يفهم مع قارئه جوانب حياة وتجارب أبطاله يقول لنا بسخرية في ختام كل رواية: “إن الرواية هي روح التعقيد، كل رواية تقول للقارئ: إن الأشياء أكثر تعقيداً مما تظن”.
أما تعدد الأصوات (Polyphonie) فهو ظل لتعددية الاحتمالات التي يؤمن بها كونديرا بشدة. فالكون هو المجال اللامنتهي للاحتمالات ووجهات النظر. والرواية التي تتشكل في نهاية هذه التعددية الصوتية هي عبارة عن تضافر الأولويات والاعتقادات التي تحملها كل وجهة نظرعلى حده. في هذا التضافر المتشكِّل غالبًا بشكل تصادمي يتوصل الكاتب لإعطاء معنى وجوديًا لكائناته ويقترب من فلسفته في الحياة.
وبسبب أسلوبه المميز والكتابة بطريقة الوقف والاقتطاع المفاجئ ثم العودة الدائمة، يتميز كونديرا عن معظم الروائيين، أنه يعرف تمامًا النهاية التي ينتظرها هو وأبطاله في ختام الرواية. فمنذ البدء يمسك كونديرا بالخيوط الختامية للرواية من دون أن يمتثل لتلك الحرية التي يتمسك بها الروائيون عادةً والتي تنتج نهايات مفتوحة، غير متوقعة وغير معروفة. هذا البناء الذي يعتمده كونديرا شبيه بالتأليف الموسيقي حيث يكون الموسيقي على دراية بنهاية مقطوعته منذ بدايتها. وتتعلق هذه الخصيصة التي تجعل النهايات مكشوفة بالبناء الأوركسترالي لرواياته التي يقسمها كونديرا كمقطوعة موسيقية ويجزئها على الغالب إلى سبعة أجزاء.
لكن إن كان المزاح والدعابة ركيزتي تأليف كونديرا لرواياته، فالحال ليس كذلك بالنسبة للقارئ، فلكي تقرأ كونديرا عليك أن تتسلح بكل الجدية الممكنة وتستعد لصفعات السخرية والدعابة. فبقوة كلماته التي لا تتعب من المراوغة وتعابيره المنطرِحة من ثِقل المعنى، يُغرق كونديرا رأسك بالماء ثم يخرجه ليدَعَكَ تتنفس بضع دقائق هواءً نقياً، قبل أن يعود ويغطس رأسك مجدداً في حوض الماء. إنه يتسلى بك، ولكنك تكاد تطير من الفرح والنشوة واللذة، تُطلق له حريته وتسامحه على حركته السادية تلك مقابل أن تحصل على المتعة المثقلة بالمعاني والدلالات، مقابل أن يهبك هو داخله الفسيح. أنت لست مازوخيًا حين تشعر بالنشوة ورأسك تحت الماء، أنت لا تفكر من أن تكون في هذه اللحظة أصلاً، لأنه وعدك منذ البداية بالنصر. أما ذلك الهواء القليل الذي تتنفسه بين كل غطسة تحت الماء وأخرى، ليست على كل حال فاصلًا لاستعادة قوتك، بل فاصل لتفهُّم ضعفك أمام جلالة كلمات كونديرا.
ضفة ثالثة