راتب شعبوصفحات مميزة

عن مسار عسكرة الثورة والعمليات الهجومية للجيش الحر .. مثال عملية الحفة


راتب شعبو

عاملان رئيسيان تحكما بتطور آليات عمل الثورة السورية، الأول هو بطش النظام وعدم قبوله بأقل من كسر رأس الثورة بكل أشكالها الفاعلة (بدءاً من ناشطي الفيسبوك إلى حاملي السلاح) وبكامل طيفها السياسي (من أصحاب الفكر اليساري المتزمت إلى أقصى اليمين الديني) وإعادة الشعب السوري إلى بيت الطاعة من جديد، والثاني تبعثر المعارضة من حيث المكان والتوجهات السياسية وأفق الرؤية والتنظيمات. وبتأثير هذين العاملين ومتفرعاتهما وصلت الحال في سورية إلى استعصاء قاتل، أو ما يمكن أن أسميه “توازن الموت” مقابل ما يسمى “توازن الرعب” حيث يكون توازن القوى بين طرفين متعاديين سبباً لدرء القتال بينهما فتُحمى بذلك ارواح الناس وممتلكاتهم وهو بالتالي توازن بناء يحمي السلم، أما في سورية فإن التوازن بين طرفي الصراع هو توازن مدمر يستهلك البلد ويكلف سورية بشكل يومي الكثير من أبنائها ومواردها ويدمر فوق هذا جسور التعايش بين أبنائها. في مثل هذه الحال قد يكون الحوار سبيلاً للخروج من المأزق القاتل. ولكن الحق أن الحوار لم يكن في أي لحظة من لحظات الاستعصاء السوري قاسماً مشتركاً أو جسر حل للصراع المحتدم في سوريا. فالنظام يعمل على مبدأ ديكتاتوري حربي مؤداه: انتصر ثم حاور، والمعارضة التي لاح لها لأول مرة منذ عقود طويلة أمل جدي وملموس بإمكانية تغيير النظام تمسكت بالفرصة التي يبدو أنها تمتلك الكثير من عوامل التحقق وخشيت أن تهدرها في متاهة حوار مع نظام يمتلك القوة العسكرية والأمنية وكل مهارات وأساليب الخداع والتلاعب والتملص التي تراكمها عادة الأنظمة الاستبدادية عبر تاريخها غير المشرف. وفوق هذا لم يطرح الحوار جدياً من أي طرف، فالنظام ناور بفكرة الحوار لكسب الوقت وتخفيف الضغط السياسي عنه لأنه لم يستطع أن يدرك النصر الميداني الذي يجعله يحاوز من الموقع الذي يريد، موقع المملي والفارض لا المحاور. والمعارضة لم تطرح الحوار لأنها لم تمتلك القوة الكافية لفرض إرادتها بالحوار ولم تشأ أن تفقد مصداقيتها أمام جمهورها بطرح الحوار مع نظام يقتل معارضيه بلا رحمة ويعلن الحرب حتى على البيئات التي تؤوي المعارضين ويناور بفكرة الحوار نفسها.وعليه فقد تدحرجت آليات الثورة السورية كما لو بفعل قوة الثقالة الحرة إلى حمل السلاح للدفاع عن النفس في البداية ثم للهجوم والاستعدادات المتكررة لساعة الصفر والتحرير وما إلى ذلك. وقد فتح ذلك الباب واسعاً أمام كل أشكال العنف كي تدخل تحت مظلة الثورة وتشوه ليس فقط شكلها بل ومضمونها أيضاً، من أعمال الخطف والمطالبة بفدية إلى أعمال القتل على الهوية إلى حرق مؤسسات حكومية خدمية إلى الهجوم على مناطق معينة ومحاولة احتلالها.لا خلاف على أن طريقة تعامل النظام مع الاحتجاجات أعطت حجة قوية لمن دافع عن فكرة التسليح للدفاع عن النفس، هذه الفكرة التي فتحت باباً للحالة المأساوية التي تعيشها سوريا اليوم. وذلك أولاً لأن هذا التطور (حمل السلاح من جانب المعارضين) أعطى بدوره حجة قوية لمن يدافع عن أسلوب النظام بالحل الأمني العسكري وحجة قوية للدول التي تساند النظام ضد شعبه. وثانياً لأنه من المستحيل رسم خط واضح يميز بين الدفاع والهجوم ويفصل بينهما بصورة تامة، الأمر الذي حول الصراع على إسقاط النظام في سوريا إلى حالة حرب بين معارضة مسلحة ونظام عسكري شبيهة بصراعات الثوار والأنظمة القمعية في أمريكا للاتينية والتي تتحول مع الوقت إلى نوع من التعايش القتالي ذي الآفاق المغلقة. مثال عملية الحفةما جرى في منطقة الحفة في اللاذقية لا يزال يثير الكثير من الأسئلة في أذهان الناس عامة موالين ومعارضين. قال الجيش الحر إنه دخل الحفة لحماية المدنيين إثر شائعات تقول بأن هناك مجزرة يتم الإعداد لها في الحفة، وحين خرج منها قال إنه انسحب لحماية المدنيين (ولا أحد يدري كبف ساهم دخول الجيش الحر وخروجه في منع وقوع المجزرة التي أشيع عنها). وبين الدخول والخروج عانى المدنيون الأمرين سواء منهم من يؤيد النظام أو من يعارضه. قرى كاملة (من المؤيدين والمعارضين) هاجرت بأهلها ومواشيها لتلتجئ عند أقارب أو أصحاب في المدينة أو في مناطق أكثر أماناً. كما أقيمت حواجز على الطرقات لتفتيش النازحين، حواجز تثير خوف الأهالي وتحاسبهم على ما لا يد لهم به، ويمكن أن يتوقع المرء على مثل هذه الحواجز “شبه الأهلية” ارتكاب ممارسات سيئة وانتقامية تأتي على ما يحفظه الناس من ثقة متبادلة فيما بينهم. ما معنى عملية الحفة؟ وكبف دخل الجيش الحر وكيف انسحب؟ يقول الأهالي كلام كثير عن دخول المسلحين المعارضين وانتشارهم في مدينة الحفة على مرأى من أجهزة الأمن، ومعروف لأهالي المنطقة مثلاً أن طريق قرية تفيل (التي كان فيها مركز عمليات الجيش الحر كما يقال) تم قطعها بواسطة جرافة وشاحنة مأخوذين عنوة من مقلع رسيون على مرأى من الجميع وقبل حوالي عشرة أيام من بدء المواجهات، وأن هناك تحصينات أنشئت وخنادق حفرت، وأن الأجهزة الأمنية لم تكترث لما كان يأتيها من معلومات حول هذه الأنشطة. ربما كان في هذا نوع من الاستدراج، لا ندري، ولكن المحصلة أن عملية الحفة عادت على المنطقة بالمزيد من القتل (كان لافتاً الخسائر الكبيرة بالأرواح والمصابين في صفوف الجيش وكان لهذا بلا شك تأثيره السلبي على فكرة الثورة وصورتها عند أهالي المنطقة) والمزيد من الدمار واليأس. وأما عن “الانسحاب التكتيكي” للجيش الحر من الحفة فالمعروف بين أهالي المنطقة أنه تم بالاتفاق دون أن ندري على أي أسس. يخرج هذا الجيش من الحفة (يقال بمواكبة من الجيش النظامي!) ليتوضع في مناطق أخرى ولتتواصل المواجهات مع الجيش النظامي. من جهتي لم أفهم لا المغزى العسكري ولا السياسي من مثل هذه العملية، التي أضرت برأيي سياسياً وعسكرياً بالمعارضة. هل كان يظن الجيش الحر أن بإمكانه الاحتفاظ بالسيطرة على الحفة دون تغطية جوية مثلاً ليجعلها منطقة عازلة؟ أم هي سيطرة مؤقتة يدخلها ضابط من الجيش الحر (مالك الكردي) ثم يتم الانسحاب منها على شاكلة المظاهرات الطيارة؟ ألا يدري مديرو عمليات الجيش الحر حجم التكاليف المترتبة على مثل هذه العملية؟ أسئلة كثيرة وإجابات نادرة تترك الساحة للتكهنات والتحليلات والكلام المرسل، وهو ما يجب أن لا يكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى