عن مصير المنطقة مع وبعد “داعش” –مقالات مختارة-
المستقبل لداعش/ بكر صدقي
أعلن العراق الرسمي انتهاء معركة الموصل بنصر مؤزر على «دولة الخلافة». وفي غضون ذلك «تبخر» مقاتلو التنظيم الإرهابي الأشد هولاً بمعيار فظاعاته المشهدية، فلا قتلى ولا أسرى. ومن المتوقع أن تنتهي قريباً معركة الرقة بطريقة مماثلة، لتصعد إلى الواجهة مدينة دير الزور، المعقل الأهم المتبقي لداعش في سوريا، فيكون «تحريرها» منها نهايةً لدولتها الإسلامية التي صمدت ثلاث سنوات ونيف في مواجهة الحروب الضارية عليها.
الأهم من كون «التبخر» المذكور للمقاتلين متعددي الجنسية، انتقالاً إلى العمل تحت الأرض كخلايا نائمة تستعد لجولات جديدة مختلفة عن الحرب السابقة، هو أنه (أي التبخر) يعبر عن تحول الوجود الملموس لـ»الدولة» إلى الوجود المجرد كـ»فكرة». والحال أن داعش، في الأصل، هي فكرة أكثر من كونها كياناً محسوساً. وبصفتها هذه لا يمكن حبسها في إطار حدود فيزيائية أو جغرافية، الأمر الذي يفسر كونية الظاهرة الداعشية وقدرتها على التحرك والضرب في كل مكان، والمبايعات التي جرت لها في مناطق بعيدة عن مركز دولتها، في مناطق متفرقة من جنوب سوريا وفي كل من ليبيا ومصر، كما يفسر، بالمقابل، عبثية «الحرب الدولية على داعش» بالطريقة التي تدار بها في كل من العراق وسوريا، كما في مناطق أخرى. بمعنى أن هذه الحرب التي اقتصرت مفاعيلها، إلى الآن، على آلاف الضحايا المدنيين، وخراب العمران، والأهم من هذا وذاك: مراكمة المزيد من المظالم ومشاعر القهر في النفوس، بما يؤسس لاستدامة الفكرة الداعشية، كمظلومية تبحث عن الثأر، أكثر من كونها سعياً وراء استعادة أمجاد امبراطورية غابرة لدولة الإسلام، هي حرب لا يمكن كسبها، إلا بمعاني الغلبة والقهر ضد السكان المحليين ممن كانوا تحت السلطة الغاشمة للتنظيم الإرهابي، وتعتبرهم القوى المحاربة لداعش «حاضنتها الاجتماعية».
حسناً، لنسلم جدلاً أن هؤلاء السكان هم فعلاً حواضن اجتماعية لداعش، فهل يكون الرد على ذلك بإبادتهم؟ على العكس تماماً، هذه المقاربة تمنح داعش ومثيلاتها ميزة تمثيلية، لا تحوزها، لقسم من السكان، أي تمنحها شرعية لها مقتضياتها من اعتراف وتفاوض وحقوق. فإذا كان كل سكان الموصل قاعدة اجتماعية لداعش، ترفض السلطة المركزية في بغداد، فلا بد من منحهم حق تقرير المصير، وليس الإبادة. بالمثل، لو كان كل سكان مدينة الرقة يشكلون القاعدة الاجتماعية لداعش، فبأي حق يأتي غرباء لتحريرها أو لإبادة سكانها بدعوى أنهم حاضنتها الاجتماعية؟
الواقع أن ما حدث في العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، هو بالضبط ما يتكرر اليوم في «الحرب على داعش». أي إبادة «الحاضنة الشعبية» السنية المزعومة، سياسياً في الحالة الأولى، ومادياً في الحالة الثانية. القوى الشيعية المنتصرة في حرب 2003، عملت على إسقاط المكون السني كتحصيل حاصل لسقوط نظام صدام. وهو الأمر الذي لعب دوراً رئيسياً في ولادة تنظيم الزرقاوي الذي سيتحول لاحقاً إلى داعش. ولعبت كل من إيران والولايات المتحدة دور مظلة القوة الغاشمة المشجعة لهذه الغلبة الشيعية الفظة.
هذه التحولات التي مهدت لظهور داعش وتمكنها، ليست كافية بذاتها لتفسير وظيفة هذه المنظمة الإرهابية التي يلف الغموض الكثير من أنشطتها. وإلا كان الأحرى أن تتمثل مقاومة التهميش السني في العراق بوسائل أخرى، سياسية أساساً، من شأنها أن تؤدي إلى نتائج سياسية أكثر عدالة. أما وقد تمثلت هذه المظلومية في صورة داعش، فقد تحول الأمر إلى منجم ذهبي لاستثمار قوى متنوعة تزعم في العلن محاربة التنظيم، في حين تمده سراً بوسائل القوة والديمومة. من أمثلة ذلك الفاضحة تبادل السيطرة المتناوب على مدينة تدمر، في السنتين الأخيرتين، بين قوات النظام الكيماوي ومقاتلي داعش؛ وكذا هي حال مهزلة سيطرة داعش على مدينة الموصل، قبل ثلاث سنوات، وفرار قوات جيش المالكي أمامه، تاركةً كميات كبيرة من السلاح والذخائر ستشكل ترسانة الدولة الداعشية. هذا غير إطلاق كل من بشار الأسد ونوري المالكي سراح مئات الجهاديين من سجونهما، وتجارة النفط النشطة بين داعش والنظام الكيماوي في دمشق.
كذلك هي الحال بالنسبة لقوى دولية فاعلة، ساهمت بسياساتها في نمو الظاهرة الداعشية وتمكنها، كالولايات المتحدة وروسيا وغيرهما، شكلت «الحرب على داعش» ذريعة ممتازة للتهرب من واجباتها كقوى عظمى، كما لتصفية حساباتها على الأراضي العراقية والسورية، وتقاسم النفوذ فيما بينها على طريق إعادة تشكيل نظام عالمي واقليمي بما يتفق مع مصالحها وتطلعاتها الاستراتيجية.
المرعب أن ما يحدث، هذه الأيام، في بلدان ومناطق مختلفة، بالتزامن مع قرب نهاية «الدولة الإسلامية» يؤسس لتقوية الداعشية كفكرة. ما يحدث في لبنان هو المثال الأبرز: تقوم مخابرات الجيش اللبناني بمداهمة مخيمات اللاجئين السوريين، فتقتل من تقتل، بذريعة كاذبة حول انتحاريين مزعومين قاموا بتفجير أنفسهم، ثم تعتقل العشرات وتقتل بعضهم تحت التعذيب، وتتعمد إصدار بيان ركيك في تبرير قتلهم، كما لو أنها تقول (نعم قتلتهم، هل من اعتراض؟!). هذا ما نفهمه من صيغة البيان ومن تعامل مخابرات الجيش مع المحامية داليا شحادة التي سطت منها على عينات من أجسام المقتولين أخذت بغرض التحقيق في ملابسات قتلهم. ولم يختلف تعامل الطبقة السياسية الحاكمة مع الحدث كثيراً عن تعامل الجيش ومخابراته، فبررت انتهاكات الجيش وأعلنت حصانة هذا الأخير أمام أي نقد.
كذلك هي الحال بالنسبة للمشكلة السورية ككل. يطغى شعور لدى قطاعات واسعة من السوريين أن العالم كله يتآمر عليهم ويشارك في قهرهم وإذلالهم: النظام الكيماوي والحكومة اللبنانية وإيران والحكومة العراقية وروسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة.. إلخ. وها هو أحدث المرحبين ببقاء السفاح الكيماوي بشار الأسد في السلطة، عنيت به الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون.
إذا كان عالم اليوم يدار من قبل هذه القوى والشخصيات والسياسات، فإن داعش لن يتحول إلى خبر كان، بل سيستولي على المستقبل.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
فصل دموي جديد في الشرق الأوسط.. وزير خارجية ألماني يضع سيناريوهات ما بعد (داعش)
قد يصبح داعش قريباً جزءاً من الماضي، بعد هزيمته في العراق وسوريا، لكن ذلك لن يجلب السلام في الشرق الأوسط، بل ولا حتى نهاية المأساة السورية. ولكن من المرجح -وفق مقالة كتبها وزير الخارجية ونائب المستشار الألماني من عام 1998 حتى عام 2005-أن يُفتح فصلٌ جديدٌ من التاريخ الدموي والفوضوي في المنطقة، فصلٌ لا يقل خطورةً عن تلك الفصول السابقة التي شهدتها المنطقة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى.
وفق مقالة السياسي جوشكا فيتشر التي نشرها في موقع شبكة Euronews الإخبارية، فإن النمط العنيف سيتستمر حيث لا تزال المنطقة غير قادرة على حلِّ صراعاتها الداخلية بنفسها، أو خلق إطارٍ مرنٍ للسلام.
الغرب وسايكس بيكو ليسا برآء
يضيف جوشكا فيتشر، الذي كان معارضاً لحرب العراق، لا يمكن تبرئة القوى الغربية من الويلات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط. بالإشارة إلى اتفاق سايكس بيكو، الذي من خلاله قسمت بريطانيا العظمى وفرنسا أراضي ما بعد الدولة العثمانية، لا تزال هذه الخطة التي وُضعت سراً عام 1916 تحرك رياح الغضب بالعالم العربي، كما لو أنها لم تُوضع إلا بالأمس.
كما لا يجب نسيان دور روسيا القيصرية في المنطقة. فبعد الحرب العالمية الثانية، بدأ خليفتها، الاتحاد السوفيتي، ومنافسها في الحرب الباردة، الولايات المتحدة، تدخلات متعددة في المنطقة.
أميركا أكبر المساهمين بالفوضى
وقال فيتشر -الذي لعب دوراً رئيسياً في تأسيس حزب الخضر الألماني الذي قاده لمدة عقدين من الزمن تقريباً- إن الولايات المتحدة تبدو أهم المساهمين في الاضطرابات الإقليمية الحادثة في المنطقة اليوم.
ويستند اهتمام أميركا وفق مقالة السياسي الذي نشرها في موقع euronews في الشرق الأوسط في الأصل إلى حاجتها إلى النفط. ولكن مع بداية الحرب الباردة، تحوَّل الاهتمام الاقتصادي بسرعة إلى مصلحة استراتيجية في منع ظهور حكومات معادية للغرب وصديقة للاتحاد السوفيتي. ثم استكملت جهود أميركا للحفاظ على تأثير حاسم في المنطقة من خلال شراكتها الأمنية الوثيقة مع إسرائيل، وأخيراً من خلال التدخل العسكري الواسع في الخليج مرتين متتاليتين، خلال الحرب على صدام حسين في العراق.
كما أن تورُّط أميركا في أفغانستان كانت له تداعيات عميقة في الشرق الأوسط. وقد أدى التمرد المدعوم من الولايات المتحدة في الثمانينات، الذي انطلق تحت راية الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي المحتل، إلى وضع حليفين أميركيين وثيقين -باكستان والسعودية- في تهديدات استراتيجية. وقد أصبح هذا واضحاً، في 11 سبتمبر/أيلول 2001، عندما تبيَّن أن 15 من الـ19 المهاجمين الذين أرسلتهم القاعدة هم مواطنون سعوديون. وتُعدّ باكستان هي المنبع الفعلي لحركة طالبان، التي وفَّرت ملاذاً آمناً لتنظيم القاعدة وساعدته في مؤامراته ضد الولايات المتحدة والغرب.
في العراق كانت الفكرة هي الإطاحة بصدام حسين وإقامة نظام ديمقراطي يحضُّ على التغيير الشامل في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ويحولها إلى منطقة ديمقراطية مؤيدة للغرب. ولكن داخل إدارة بوش الابن سادت المثالية الإمبريالية على الواقعية الواضحة، مما أدى إلى زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط ككل، وساعد على وضع إيران في مكانة مكَّنتها من توسيع نفوذها.
المرحلة القادمة: السعودية X إيران
بعد زوال الدولة الإسلامية، وفق المقالة سيتم تحديد الفصل التالي في تاريخ الشرق الأوسط من خلال مواجهة صريحة ومباشرة بين السعودية السنية وإيران الشيعية من أجل الهيمنة الإقليمية. وكان هذا الصراع قد استعر بصورة غير مباشرة باستخدام بعض الوكلاء. ولكن القوتين العالميتين اللتين نشطتا في المنطقة صرَّحتا بوضوح هذه المرة عن هذا الصراع، مع انحياز الولايات المتحدة مع السعودية وروسيا مع إيران.
ومن المتوقع أن يتزايد هذا الصراع ويحل محل “الحرب على الإرهاب” الحالية.
إن أي مواجهات عسكرية مباشرة مع إيران ستؤدي، بطبيعة الحال، إلى اشتعال المنطقة، مما سيتجاوز كثيراً كل حروب الشرق الأوسط السابقة. علاوة على استمرار إطلاق النار في سوريا، والعراق الذي أنهكه الصراع الطائفي من أجل السلطة، وداعش أو بعض الجماعات التي تمثل نفس الفكر، والتي من المرجح أنها لا تزال نشطة.
فتح القضية الكردية
عامل آخر قد يكون سبباً في زعزعة الاستقرار هو إعادة فتح “القضية الكردية”. الأكراد وفق المقالة التي نشرها موقع euronews شعبٌ بلا دولة، ولكنهم أثبتوا أنهم مقاتلون موثوق بهم ضد داعش، ويريدون استخدام نفوذهم السياسي والعسكري الجديد لإحراز تقدم نحو الحكم الذاتي، أو حتى دولة مستقلة. أما بالنسبة للبلدان المتضررة -أولاً وقبل كل شيء تركيا ولكن أيضاً سوريا والعراق وإيران- فإن هذه المسألة قد تكون سبباً محتملاً في اندلاع حرب، لأنها تؤثر على أمن هذه الدول القومي.
وبالنظر إلى هذه المسائل التي لم تحل بعد، وتصعيد صراع الهيمنة بين إيران والمملكة العربية السعودية، فإن الفصل التالي في تاريخ المنطقة لا يعد بأن يكون سلمياً على الإطلاق. من الواضح أن الولايات المتحدة قد تعلمت من كارثة العراق، وأدركت أنها رغم قوتها وتفوقها العسكري لا تستطيع الفوز بحرب برية في الشرق الأوسط. كما سعى الرئيس باراك أوباما إلى سحب القوات الأميركية من المنطقة، التي ثبت أنها مطلبٌ من الصعب الوصول إليه سياسياً وعسكرياً. لذلك استبعد التدخل العسكري -وحتى التدخل الجوي- في الحرب الأهلية السورية، مما ترك فراغاً سرعان ما شغلته روسيا، مع كل العواقب المعروفة.
كما وعد خلف أوباما، دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية بالانسحاب من المنطقة. ولكنه بعد انتخابه قام بإطلاق صواريخ كروز على سوريا، وتدخل بصورة واسعة لدعم السعودية وحلفائها، وقام بتصعيد الخطاب الأميركي تجاه إيران.
ينحو ترامب منعطفاً شديد الانحدار عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، وهي المنطقة التي لم ينتظر حتى يتمكن من إتقان التعامل معها. ولا يبدو في الأفق أي أمل يدعو إلى التفاؤل.
اندلاع حرب كبرى في منطقة الشرق الأوسط أصبح محتملاً بشكل كبير
اندلاع حرب كبرى في منطقة الشرق الأوسط أصبح محتملاً بشكل كبير في ظل تصعيد كل الأطراف في جبهات متعددة. فالوضع في سوريا ومنطقة الخليج العربي ينذر بالتصاعد إلى صراع إقليمي وربما حتى عالمي، حسب تقرير لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني.
خطوات التصعيد
مما قد يثير القلق أنه منذ عام 2013، تكهّن دونالد ترامب بأن الولايات المتحدة ستدخل في مواجهة مع إيران، وآنذاك، كان ترامب مجرد رجل غني يُقحم نفسه في الأمور السياسية ويوجه انتقادات لاذعة لوزير الخارجية جون كيري على قناة “فوكس نيوز”. لكن في وقت لاحق، كمرشح رئاسي ثم كرئيس، كان خطابه وسياساته المعادية لطهران لافتة للانتباه حسب تقرير لمجلة Vice الكندية.
حديث ولي العهد السعودي عن الحرب
ما يجعل الوضع أكثر سوءاً هو العداء غير المسبوق بين إيران والسعودية. ففي 7 يونيو/حزيران 2017، شنَّ تنظيم داعش هجمات على البرلمان الإيراني وضريح المرشد الأعلى الإيراني السابق آية الله روح الله الخميني، بعد تهديداتٍ صريحة من الأمير السعودي محمد بن سلمان في أوائل مايو/أيار 2017.
وقال بن سلمان: “لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل نعمل على أن تكون المعركة لديهم في إيران”. ولم يكن لدى مسؤولي الحكومة الإيرانية، بداية من القائد حتى أصغر مسؤول، من شكٍ في أنَّ السعوديين يقفون وراء الهجمات الإرهابية الأخيرة.
ويعد محمد بن سلمان مهندس السياسة الخارجية السعودية الجديدة العدائية صراحةً تجاه طهران. ففي 21 يونيو/حزيران، جرى تعيينه ولياً جديداً للعهد في السعودية، ما يجعله الوريث المقبل للعرش. والسياسي المبتدئ، الذي سيحتفل بعيد ميلاده الـ32 في أغسطس/آب 2017، هو المسؤول عن السياسة الخارجية للمملكة، وسيحافظ على منصبه كوزيرٍ للدفاع، كما سيشرف على الإصلاحات الاقتصادية السعودية بما في ذلك قطاع البترول.
وفي حين أشاد الإسرائيليون بهذا التعيين باعتباره “أخباراً جيدة لإسرائيل والولايات المتحدة”، وصفه السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل دانيال شابيرو بأنَّه “خطيرٌ” بالنسبة لإيران. ويجعل تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد إمكانية نشوب نزاعٍ إيراني – سعودي أكثر احتمالاً.
ومن الأمثلة الصارخة التي تعطي للعالم الخارجي لمحة عن السياسة الخارجية الخطيرة للحاكم الفعلي الجديد للسعودية، قائمةٌ من الشروط التي قُدِّمت لقطر في 23 يوليو/تموز 2017 من أجل رفع العقوبات المفروضة عليها من المعسكر الذي تقوده السعودية.
وبحسب وكالة أسوشيتد برس، فإنَّ القائمة تنص على 13 شرطاً، بما في ذلك إغلاق شبكة الجزيرة المُموَّلة قطرياً، وإغلاق قاعدة عسكرية تركية، وتقليص كل العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
وأكَّد العديد من المراقبين أنَّ فرض قيود على العلاقات مع إيران شرطٌ محوري في القائمة. وتنتهك المطالب المبادئ الدولية تماماً، وأولاً وقبل كل شيء مبدأ سيادة الدول. ولم تُفرَض مطالب من هذا النوع حتى على الديكتاتور العراقي صدام حسين بعد هزيمة العراق في حرب الخليج 1991.
هاف بوست عربي
ماذا بعد داعش؟
هزيمة التنظيم المسلح في الرقة على وشك الدخول في حقبة جديدة وصراعات جديدة في منطقة الشرق الأوسط
يقف تنظيم الدولة الإسلامية اليوم على حافة هزيمة مزدوجة؛ ذلك أن أكبر المدن الخاضعة لسيطرته – الموصل- قد أفلتت من قبضته بصورة كاملة تقريباً، بالإضافة إلى أن القوات التي يقودها الأكراد تتقدم باتجاه عاصمته الفعلية في مدينة الرقة. والآن يأتي الجزء الأصعب كما يقول المثل؛ فقد طرحت النكسات الإقليمية، التي تعرّض لها تنظيم الدولة، أسئلة جديدة فيما يخص المستقبل الأساسي للشرق الأوسط، وقد قامت الفورين بوليسي بجمع فريق من صنّاع السياسة والخبراء الإقليميين للإجابة عنها.
———————————-
لا يمكن للولايات المتحدة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط/ إليوت أبرامز
إن هزيمة تنظيم الدولة كـ “دولة” سيطرح سؤالين جادين أمام الولايات المتحدة؛ أولهما: من سيملأ المساحات التي تقودها الجماعة الجهادية؟ كما أن هناك جهوداً واضحة يبذلها التحالف الجديد بين إيران وحزب الله والشيعة من جهة وروسيا والميليشيات المسلحة من جهة أخرى للرد بـ: “نحن سنفعل”.
وهذا جواب ينبغي للولايات المتحدة رفضه؛ إذ أن تطوراً من هذا النوع من شأنه أن يعزز تحالفاً معادياً لأمريكا يهدد أمن الأردن وإسرائيل ويفسح المجال أمام إيران لتبقى القوة المهيمنة في معظم أجزاء المنطقة. كما أن رفض هذا التحدي بمجرد الكلام سيكون مهزلة، ولا بد من مقاومته على الأرض من خلال استخدام القوة من طرف تحالفٍ يجب على الولايات المتحدة تولّي مهمة إنشائه وقيادته.
ولا ينبغي لنا أن ننسى أن هذا الصراع قد قضى على أي احتمال للتوصّل إلى صيغة سهلة للم شعث البلاد من جديد، لكن على المدى المتوسط يستطيع المرء أن يتصور نقاشاً مع روسيا حول كيفية التوفيق بين مصالحنا ومصالحها مع التقليل من مستوى العنف إلى حد يسمح للعديد من اللاجئين بالعودة إلى الديار. إلا أن ذاك النقاش لن يحقق شيئاً ما لم تحظَ القوة الأمريكية بالاحترام الروسي وما لم يدرك الروس أن الحل الوسط ضروري للغاية.
وحتى في أفضل السيناريوهات، فإن تنظيم الدولة الإسلامية بالرغم من هزيمته وفقدانه السيطرة على “دولة ما”، قد يستمر على أنه مجموعة إرهابية. كما أن تنظيم القاعدة وغيره من الجماعات الجهادية لن تختفي من الوجود على أية حال. لذا، يكون السؤال الثاني كالتالي: كيف نستمر في الكفاح ضد الجهاديين من السنة الذين يواصلون التآمر على الولايات المتحدة؟ يجب أن يكون من الواضح أن سيطرة الشيعة على المنطقة سيسهم في تغذية وجود هذه المجموعات السنية ومساعدتهم في التجنيد في البلاد وفي غيرها من الأراضي السنية البعيدة. كما أن تصوّر الموافقة الأمريكية على ذلك أو تواطؤها في تحقيق تلك الهيمنة سيجعل من الولايات المتحدة هدفاً أكبر.
هذا وإن هزيمة تنظيم الدولة لن يوقف مشاركتنا في الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، بل قد يؤدي إلى زيادتها في الواقع.
وكل ذلك يؤدي إلى نتيجة غير مرغوب فيها، نتيجة لا يرحب فيها البيت الأبيض ولا العديد من الأمريكيين بكل تأكيد. وهي أن هزيمة تنظيم الدولة لن يوقف مشاركتنا في الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، بل قد يؤدي إلى زيادتها في الواقع. إذ لن يكون هناك تكرار لحروب العراق، من خلال وجود جيوش أمريكية كبيرة على الأرض، وإنما ستكون هناك حاجة إلى استمرار مطوّل لنوعٍ من الالتزام الذي نراه اليوم: ربما سيوجد 5 آلاف جندي في العراق وألف في سوريا ومن بين 1000 إلى 2000 في الأردن، بالإضافة إلى وجود المزيد في الأسطول السادس والقواعد في المنطقة التي نستطيع من خلالها ممارسة النفوذ والسلطة.
وطالما أن إيران تحاول السيطرة على المنطقة، وطالما أن الجماعات السنية الجهادية تستهدف الولايات المتحدة، فإن هزيمة تنظيم الدولة ستغيّر من حصة أمريكا في سياسة القوة في الشرق الأوسط، لكنها لن تقضي عليها.
————————–
الحرب بعد الحرب/ روبرت مالي
بالنسبة لمعظم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لم تكن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامي شغلهم الشاغل. وحتى مع إعلان الدول الغربية أن هذا الصراع له أولوية عالمية، إلا أن هذه الدول التي قد تودّدت إلى واشنطن بدرجة كبيرة وردّدت انزعاجها وانضمّت إلى تحالفها الدولي تجاهلت أخطاءها عمداً. ومنذ البداية تقريباً، كانت أنظار تلك الدول مثبّتة على الحروب التي ستلي الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
فبالنسبة لتركيا، كان الصراع ضد الأكراد هو ما يهمها فعلاً، وبالنسبة للأكراد كان الكفاح من أجل تحديد المصير له الأولوية. أما السعودية وإيران، فقد كان لصراعهما الإقليمي الأولوية: ذلك أنه داخل العالم العربي السني، كان يُنظَر إلى التنافس بين الدول الإسلامية إلى حد كبير (قطر وتركيا) والأقل درجة (مصر والإمارات العربية المتحدة) على أنه تنافس وجودي؛ أما بين العراقيين، فقد كان سباقاً طائفياً عرقياً لغنائم ما بعد الصراع. إذ لطالما كانت الحملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية غطاءً غير مكتمل للنزاعات والتناقضات الإقليمية. ومع تراجع دور تنظيم الدولة ، فإن هذا كله ستتم تعريته.
وعندما ينقشع الغبار، ستواجه واشنطن كفاح الشرق الأوسط مع شياطين معروفة. وستواجه كذلك معضلة مألوفة بالنسبة لها: إلى أي حد ستورّط نفسها؟ ذلك أن الحلفاء سيوجّهون لها النداءات لتقفز إلى المعركة، وهم يعلمون بميول واشنطن الحالية ويعلمون أنها ستلبيهم. بالإضافة إلى ذلك فإن إدارة الرئيس دونالد ترامب منشغلة بمكافحة الإرهاب ومحاربة إيران، وما لا يقل أهمية عن ذلك، القيام بأي شيء لم يقم به الرئيس السابق باراك أوباما. وهذه هي الطريقة التي سيؤطّر بها حلفاء أمريكا أهدافهم المتلاحقة.
وهناك أدلة على ذلك بالفعل؛ إذ قدّمت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حربهما في اليمن كرد على طهران ومحاولتها في تقريب قطر منها، وذلك لمعارضة إيران ومكافحة الإرهاب. ويدافع الأكراد السوريون عن أنفسهم، الخائفون من أن تتخلص منهم واشنطن حالما تستنفد فائدتهم في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، يدافعون عن أنفسهم على أنهم حصون طويلة الأمد ضد النفوذ الإيراني والإسلام المستوحى من تركيا. بينما تصوّر أنقرة هؤلاء الأكراد أنفسهم على أنهم إرهابيون. كما تنكر مصر تعصبها العشوائي لجميع الإسلامويين في معركة مقدسة ضد الإرهاب.
وجميعهم يؤكد أن العلامة الخاصة بالنشاط الأمريكي الذي يتوقون إليه تتناقض مع تقاعس أوباما المزعوم والذي كانوا يرحبون به. إنهم يعرفون جمهورهم المستهدف، ويمارسون الألاعيب للوصول إليه.
ستنحاز إدارة ترامب إلى أحد الجانبين وستتّخذ زمام المبادرة، إلا أن ذلك سيكون رهاناً خاسراً
سوف تميل إدارة ترامب إلى أحد الجانبين وستخاطر، إلا أن ذلك سيكون رهاناً خاسراً. كما أن الوسيلة المثلى لضمان مصالح الولايات المتحدة في عالم ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية ليست في المشاركة في الصراعات التي لا تتمتع فيها أمريكا بالقوة المطلقة ولا حتى تعزيزها. فمن شأن ذلك أن يطلق العنان للفوضى العارمة والطائفية التي ولّدت هذه الجماعة الإرهابية والتي ما تزال الأخيرة تزدهر بها. بل إن الطريقة الأنسب تكون من خلال تهدئة الحروب بالوكالة والتوسط لاتفاقٍ سعودي قطري والضغط لوضع حد للحرب في اليمن والالتزام بموقف مدروس من الإسلام السياسي والتقليل من حدة التوتر بين السعودية وإيران، وبالتالي التخفيف من حدة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران.
وليس هذا ما يريده حلفاء أمريكا الإقليميّون، غير أنهم إن كانوا تواقين بحق للقيادة، فمن الأفضل أن توجههم تلك القيادة بالاتجاه الذي تعتقد الولايات المتحدة أنه ينبغي لهم سلوكه بدلاً من وجهتهم التي ذهبوا فيها بعناد وتهور.
————————————
تنظيم الدولة الإسلامية سينجو/ كول بونزيل
كيف ستؤثر خسائر تنظيم الدولة الإسلامية الإقليمية في مشهد الجهاد السني العابر للدول؟ يشير الكثيرون إلى أن ذلك قد يبشّر بتحول جذري: ربما سيكون الضرر الذي سيلحق بشعار تنظيم الدولة الإسلامية شديداً لدرجة يعيد فيها تنظيم القاعدة تأكيد نفسه على أنه زعيم الحركة الجهادية بلا منازع. أو ربما ستضع المجموعتان خلافاتهما جانباً وتسعيان لتحقيق نوع من التقارب بغية إبقاء شعلة الجهاد متقدة.
وقد تشكّلت هذه التنبؤات – من انتصار القاعدة أو الاندماج الجهادي- بصورة متكررة على امتداد العام الماضي في ضوء ما يبدو أنه انهيار نهائي لتنظيم الدولة الإسلامية. إلا أن أياً من بين هذين التنظيمين لم يبدأ بالتحرك، كما توجد هناك أسباب وراء بقائنا متشككين من كليهما.
وأول هذه التوقعات قائم على افتراض أن تنظيم القاعدة يتمتع بالقوة والمرونة ويسترشد باستراتيجية حكيمة تستند إلى التفوق على السكان وتخريب الصراعات الداخلية لمصالحه. لكن ما مدى دقة هذه الصورة بالضبط؟ من المؤكد أن التنظيم ما يزال يمارس بعض السيطرة على شبكة من التابعين له من شمال إفريقيا وحتى الهند، إلا أنه خسر مؤخراً أقوى أتباعه وأكثرهم نجاحاً؛ وهو جبهة النصرة (المعروفة حالياً بهيئة تحرير الشام)، والتي كانت تُعَد مثالاً على استراتيجية القلب والعقل.
وعندما قطعت جبهة النصرة علاقاتها مع المنظمة الأم في شهر يوليو/ تموز 2016، بدا الأمر بالنسبة للكثيرين على أنه حيلة. لكن في وقت لاحق اتّضح أن زعيم القاعدة “أيمن الظواهري” لم يُستَشر في الأمر ولم يوافق على ما حصل. وقد تلى ذلك خسارة تنظيم القاعدة، قبل ذلك بعامين، لأحد أتباعه السابقين في العراق “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق” الذي استمر في إعادة تسمية نفسه وإعلان خلافته، ولكن هذا كله لا ينمُّ على استراتيجية جيدة على المدى الطويل.
ومن ثم هناك القدرات الإرهابية المتراجعة لتنظيم القاعدة؛ إذ يصرّ الظواهري حتى اليوم في تصريحاته الكثيرة على أن مهاجمة الغرب ما تزال في قائمة أولوياته. لكن متى كانت آخر مرة نفّذ فيها تنظيم القاعدة هجوماً كبيراً في الغرب أو حتى أي شيء على نطاق الهجمات في مانشستر أو لندن؟ لقد كان ذلك منذ أعوام، وما يزال تنظيم الدولة الإسلامية هو الأقدر في هذا الصدد.
كما أن فكرة المصالحة الجهادية تستعصي على الفهم أكثر من فكرة انتصار القاعدة. ولا يمكن كذلك المبالغة في مستوى العدائية المتبادلة بين تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة؛ ذلك أن هاتين المجموعتين وأتباع كل منهما ينعش بعضهم بعضاً. لكن أتباع القاعدة يصفون أنصار تنظيم الدولة بـ “المتطرفين” و”الخوارج” و”التكفيريين”، بينما يطلق تنظيم الدولة في المقابل على المنتسبين للقاعدة اسم “يهود الجهاد” والموالين للقائد “الصوفي” لطالبان المنافقة. وهذا صدع لا يمكن تجاوزه، وقد يبدو حديث العهد لكنه في واقع الأمر متأصّل في الخلافات المذهبية والاستراتيجية في عالم الجهاد والتي تعود إلى عقود سلفت.
وخلاصة القول، سيظل الجهاد مقسماً، ومن شبه المؤكد أن تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان موجوداً بشكل أو بآخر منذ العام 2006، سيستمر. وكذلك الأمر بالنسبة للقاعدة؛ إذ لن يبتلع أحدهما الآخر ولن يقوما بإصلاحات أيضاً.
———————————
أكراد سوريا يراهنون على قوة واشنطن المتبقية/ نوا بونسي
بوصفك زائراً أمريكياً في الشمال السوري، فإنك ستواجه السؤال التالي طوال الوقت: هل ستتخلى الولايات المتحدة في نهاية المطاف عن أصدقائها الأكراد؟ قد تتوقف الإجابة عن هذا السؤال على الطريقة التي ستزن فيها إدارة الرئيس ترامب أموراً أربعة، وهي؛ التقليل من الالتزامات الخارجية المفتوحة في الخارج، وإصلاح تحالفها المتوتر مع تركيا، والوقاية ضد البعث الجهادي، ومواجهة النفوذ الإيراني.
كما ترتكز الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية على شريك غير محتمل في سوريا: وحدات الحماية الشعبية “YPG”، وهي تشكيل عسكري يحظى بعلاقات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني “PKK”؛ وهو مجموعة متمردة في حرب مع تركيا حليفة الناتو. كما تسيطر وحدات الحماية الشعبية على قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من أمريكا، وتحكم معظم الشمال السوري بالإضافة إلى أنها شريك لا غنى عنه في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.
وبالنسبة لوحدات الحماية الشعبية، فإن أهمية الدعم الأمريكي تتجاوز الحرب ضد الجهاديين؟ ذلك أن وجود الأمريكيين يمنع الهجمات الكبرى التي قد ينفذها الجيش التركي ويحميهم من القوات الموالية للنظام التي تتنافس معها للسيطرة على الأراضي. وفي حال انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، ستشكل تلك القوى مخاطر وجودية؛ لذا تراهن وحدات الحماية الشعبية على أن واشنطن ستوسّع في نهاية المطاف من حمايتها لها عن طريق “ضمانات” سياسية وعسكرية من شأنها أن تساعد في ضمان درجة كبيرة من الحكم الذاتي في المناطق الخاضعة لسيطرتها والتي تروج لها على أنها نموذج لترتيب فيدرالي مستقبلي في سوريا.
وقد أقنعت هذه المقامرة المحفوفة بالمخاطر وحدات حماية الشعب بإثبات فائدتها للولايات المتحدة عن طريق القتال في الرقة وربما خارجها لتبتعد تدريجياً عن قاعدتها الكردية الشعبية. بيد أنه على النقيض من ذلك، ستمكّن هزيمة تنظيم الدولة في سوريا الولايات المتحدة من النظر في تقليل دورها هناك، ما يترك وحدات الحماية الشعبية عرضة للخطر إلى حد كبير. وقد يروق ذلك الخيار لإدارة ترامب الحريصة على الحد من النفقات وتجنب المزيد من الأضرار التي قد تصيب تحالفها مع تركيا.
يعتمد الكثير من ذلك على ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لتمديد دورها بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في محاولة لمنع عودة الجهاديين. وبما أن سلف داعش، القاعدة في العراق، قد أثبت ذلك جذرياً، فباستطاعة المتطرفين الانتعاش بسرعة في حال لم يتم التصدي لهذه المخاطر الأساسية التي تهدد الاستقرار. إذ سيتطلب الحد من الخطر في سوريا مشاركة أمريكية مستمرة تركّز على تجنب التصعيد بين تركيا ووحدات الحماية الشعبية وعلى تعزيز الحوكمة المستدامة في المناطق التي حررتها الأخيرة من تنظيم الدولة. ومن جانبها، قد تطوّر وحدات الحماية الشعبية من دورها كشريك في إحلال الاستقرار من خلال إجراء تغييرات ضرورية لنموذجها في الحكم.
علاوةً على ذلك، فإن إيران تعد عاملاً آخر قد يحفّز تعاوناً مستمراً. إذ تعتمد وحدات الحماية الشعبية على روابط النقل التي يسيطر عليها وكلاء طهران ودمشق ومن المرجح أن تنجذب أكثر نحو هذا المحور، ونحو روسيا أيضاّ في حال سحبت الولايات المتحدة دعمها. إلا أن وحدات YPG ترى كذلك في القوة الإيرانية المتنامية في الشمال السوري تهديداً وتسعى إلى الحد من أثر النظام السوري هناك. وإذا كانت واشنطن تهدف إلى الحفاظ على النفوذ في سوريا مقابل طهران مع تجنب مواجهة مباشرة، قد ترى بعض الفائدة في مواصلة استثمارها في وحدات الحماية الشعبية .
——————————–
جراح سوريا الملتهبة ستؤجج مقاومة جهادية/ عمرو العظم
مع فقدان تنظيم الدولة لسيطرته على الأراضي، من المحتمل أن توجّه كل من الولايات المتحدة والقوات المتحالفة مع إيران أسلحتها نحو ما يرونه الخطر الأكبر المتبقي؛ أي بعضهم البعض.
وقد دأبت قوات سوريا الديمقراطية “SDF” التي تدعمها الولايات المتحدة والتي يسيطر عليها الأكراد، على إعادة المجموعة الإرهابية في الرقة. وتشير الأمثلة السابقة إلى أن الأكراد سيسمحون للنظام ومؤسساته الحكومية بالعودة تدريجياً إلى المدينة والبدء بتقديم الخدمات الأساسية، وستقدّم قوات SDF بدورها الأمن اللازم للمنطقة. إن تسليم المدينة الجزئي للنظام، يعد اقتراناً مؤقتاً بالراحة.
وستكون المرحلة التالية الحرجة هي استعادة مدينة دير الزور ذات الأهمية الاستراتيجية، وهي آخر مركز حضري كبير تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. وقد كان النظام السوري وحلفاؤه يهيئون أنفسهم للتحرك ضد المدينة واستعادتها من تنظيم داعش، ما سيقرّب النظام أيضاً من الحدود العراقية؛ وهذا هدف مهم بالنسبة لإيران، حليفته الأساسية.
ولا يمكن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق السوري إلا عن طريق استعادة دير الزور.
إلا أنه من غير المرجح أن يروق ذلك للإدارة الأمريكية، التي تسعى الآن إلى الحد من نفوذ إيران بصورة فاعلة. لكن، ليس هناك سوى بعض الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة، كما أن القضاء على وجود تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق السوري لن يتحقق إلا باستعادة مدينة دير الزور، ومن غير المحتمل أن تكون قوات سوريا الديمقراطية راغبة في التحرك ضد المدينة. بالإضافة إلى أن فصائل الجيش السوري الحر المدعومة من أمريكا في الجنوب السوري ضعيفة للغاية وليست قادرة على شن هجوم كبير من هذا النوع، ما يجعل من النظام وحلفائه الخيار الوحيد القابل للتطبيق. علاوةً على ذلك، كان الإيرانيون محقين عندما افترضوا أن الولايات المتحدة لن تشارك في مواجهة شاملة مع قوات النظام من أجل هذه المسألة.
لذلك، وفي الأعقاب المباشرة لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية شرق سوريا، سيكون النظام السوري وحليفه الإيراني هم الفائزون. أضف إلى أن الترتيبات القائمة حالياً مع الأكراد في مدن مثل الرقة ومنبج مؤقتة وستتفكك في نهاية الأمر، ما سيسبب استمراراً في زعزعة الاستقرار وعدم اليقين في المنطقة.
وفي حين أنه من غير المحتمل أن يمتلك تنظيم الدولة أية قدرات تشغيلية في سوريا في الأعقاب المباشرة للحملة الراهنة، فإن التحديات الجارية للتقسيم والديناميكيات الإقليمية تضمن استمرار التوترات العرقية والطائفية المتأزمة في تغذية التطرف، ما يسمح في نهاية المطاف بإعادة تجسيد النسخة القادمة من تنظيم داعش في كل من سوريا والعراق.
————————————
الصراعات العراقية من أجل القوة ليست إلا البداية/ريناد منصور
بالنسبة للعديد من العراقيين، فإن دمار مئذنة “الحدباء” الشهيرة في الموصل يرمز إلى هزيمة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق. ذلك أن “أبا بكر البغدادي” قد أعلن خلافته تحتها في جامع “النوري”، والآن قد دمرها هذا التنظيم الجهادي في مواجهة تقدم قوات الأمن العراقية. إلا أن شكل هذه الهزيمة، والمسار المحتمل للعراق “ما بعد تنظيم داعش”، ما يزال غير واضح المعالم.
وعلى الرغم من أن مهمته في بناء دولة قد انتهت، سيستمر تنظيم داعش في الوجود. إذ سيكون منظمة أعيد تشكيلها، منظمة لا تسيطر على أراضٍ وتشكّل تهديدات جديدة. من الناحية العسكرية، سيلجأ التنظيم إلى حرب العصابات، بما في ذلك الاعتداء على المدنيين في المناطق المكتظة بالسكان في العراق. وخلافاً للماضي، فإنه يمتلك الكثير من الموارد بالإضافة إلى تحوّله إلى أساليب المافيا في غسيل احتياطاته النقدية الضخمة من خلال الأعمال التجارية التي تبدو مشروعة؛ ومن بينها تصريف العملات والتجارة في المستحضرات الطبية. وحتى وقت قريب، اشتمل ذلك على تبادل الدينار العراقي بالدولار الأمريكي من خلال مزادات العملة في بنك العراق المركزي.
كما أن الصراعات الكامنة بين الكثير من القوى السياسية العراقية ستظهر في المقدمة مع تراجع القضية المشتركة لهزيمة تنظيم داعش. ومن المتوقع أن تشتعل النزاعات المتصاعدة حول الأراضي في الشمال العراقي؛ إذ ستتنافس قيادة كردستان العراق والجماعات شبه العسكرية العربية والتركمانية الشيعية التابعة لقوات الحشد الشعبي “PMF”، والقادة السياسيون المحليون ومقاتلو القبائل العربية السنية والأطراف الإقليمية للحصول على النفوذ الأكبر في المناطق الساخنة المهمة مثل كركوك وشمال نينوى ومنطقة الحدود العراقية السورية.
ومن المقرر أن يندلع صراع بين الشيعة على السلطة في بغداد بين رئيس الوزراء “حيدر العبادي” ورئيس الوزراء السابق “نوري المالكي” ورجل الدين الشيعي البارز “مقتدى الصدر”. وهنا ستكون السياسات الأمريكية والإيرانية على مفترق طرق: إذ ستعمل طهران على تقوية حلفائها الموثوقين ومن بينهم المالكي وكبار القادة في قوات الحشد الشعبي مثل “هادي العامري” و”قيس خزالي” و”عبد المهدي المهندس”. وفي الوقت نفسه، ستركّز واشنطن على تقوية قبضة العبادي. والأهم من ذلك، هو أن النزاع بين العبادي والمالكي والصدر تغذّيه مجموعة متزايدة من الأشخاص الذين يعتقدون الآن أن الفساد، وليس الطائفية، هو السبب الرئيس لظهور تنظيم الدولة الإسلامية.
وكي يتمكّن العراق من التصدي لهذه التحديات، لا بد له من تعزيز المؤسسات الحكومية المحلية والاتحادية لمواجهة قوة الأطراف العنيفة وغير الحكومية والوصول إلى فهم جديد لتقاسم السلطة المحلية. وعندها فقط تستطيع الدولة معالجة الأسباب الجذرية لظهور تنظيم داعش والعمل من أجل ترجمة الانتصارات العسكرية الحالية إلى إصلاحات سياسية طويلة الأجل، وبالتالي تضمن عدم توجّه العراق نحو جولة جديدة من الصراع.
——————————
الكتّاب:
إليوت أبرامز: زميل رفيع المستوى في دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية.
روبرت مالي (Robert Malley): نائب رئيس الشؤون السياسية في منظمة الأزمات الدولية، وعمل في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مساعداً خاصاً للرئيس، ومستشاراً رفيع المستوى للرئيس فيما يخص الحملة على داعش، ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج.
كول بونزيل (Cole Bunzel) : مرشح لنيل شهادة الدكتوراه في قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون ومؤلف كتاب ” From Paper State to Caliphate: The Ideology of the Islamic State”.
نوا بونسي (Noah Bonsey) هو كبير المحللين في شؤون سوريا في مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة مستقلة لمنع حدوث الصراع.
عمرو العظم (Amr al-Azm) أستاذ التاريخ في جامعة ولاية شوني في ولاية أوهايو وعضو في المعارضة السورية.
ريناد منصور (Renad Mansour): هو زميل في” Chatham House”، ومؤلف المادة التي صدرت مؤخراً ” Iraq After the Fall of ISIS: The Struggle for the State”.
فورين بوليسي
ترجمة ريما قداد- السوري الجديد
أيديولوجيا «داعش»… معولمة وتتمدد/ نيكولا بافيريز
استعيدت الموصل بعد 9 أشهر من القتال المستبسل شارك فيه 20 ألف جندي من القوات العراقية- وسقط ألف منهم في القتال- في مواجهة 5 آلاف «جهادي». ويُعد لسقوط الرقة حيث يضرب الطوق على 3 آلاف مقاتل «داعشي» و100 ألف مدني. ولا شك في أن تحرير الموصل هو منعطف في الحرب على «داعش»، ويطوي «الخلافة»، وهي كانت كياناً سياسياً متطرفاً امتد على شطر واسع من العراق وسورية، وكان يموّل أعماله بعائدات نفطية، ويملك جيشاً وجهازاً إدارياً. ولكن تحرير الموصل لا يدفن أيديولوجيا «الجهاد» المعولم. فـ «داعش» لم يمت، بل هو يتحول ويغير جلده. ففي الشرق الأوسط، يذوب مقاتلوه في سيل اللاجئين ويتجمعون في شمال العراق وسورية وفي وادي الفرات. وتكر سبحة مسارح عمليات «داعشية» جديدة في آسيا وأفغانستان مع وضع «الجهاديين» اليد على مغاور تورا بورا، وفي الفيليبين مع احتلال ماراوي؛ وفي إندونيسيا وحتى في الصين حيث تتكاثر الخلايا النائمة. و «داعش» يتمدد كذلك في أفريقيا، من مصر الى نيجيريا. وأوروبا هي هدفه الأثير. وفي أصقاع العالم المتقدم، يرسي «داعش» بنيته، وتحاكي البنية هذه أشكال شبكات التواصل الاجتماعي، وتبحث عن نشر التطرف في صفوف الشباب. وعلى رغم أن القوة العسكرية «الجهادية» وهنت، أسبابها أو عللها على حالها: تعثر العالم العربي – الإسلامي في التكيف مع الحرية السياسية و(مقتضيات) النمو والمجتمع المفتوح أو المشرّع على العالم؛ ومعضلة الاختيار بين نظام استبدادي أو تيوقراطي في الشرق الأوسط وأفريقيا؛ والخلاف بين السنّة والشيعة والنزاعات الإتنية التي تؤجج أجواء الحروب الأهلية؛ وانهيار الدول؛ والتنافس بين القوى الإقليمية؛ وتدخل كبار اللاعبين الاستراتيجيين، الولايات المتحدة وروسيا على وجه التحديد. وتتصدر الأولويات اليوم في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا هزيمة «داعش» وإحراز نصر في الحرب عليه. ولكن «شن الحرب أيسر من إرساء السلام»، على قول جورج كليمنصو. ويجب البدء بالإعداد للسلام، وإرساء لبناته من طريق إرساء الأمن في المدينتين السنيتين، الموصل والرقة، وإعادة إعمارهما وإدارتهما إدارة عادلة وتفادي تسليمهما الى الميليشيات الشيعية أو الى المقاتلين الكرد. وهذا يقتضي الإقرار بحقوق 25 مليون سنّي يعيشون بين بغداد ودمشق، وشد أواصر الدول من جهة، والتزامها النظام اللامركزي من جهة أخرى- فاللامركزية تحول دون تشظي الدول هذه وتفتتها ودون بروز دولة كردية- وحل الحرب المتناسلة الى ما لا نهاية في سورية من طريق اقتناص الفرص السانحة إثر هزيمة «داعش» والتدخل الأميركي في المنطقة لفرض وقف إطلاق نار واستئناف العملية الانتقالية في دمشق يشارك فيها كل قوى النزاع.
* معلق، محلل اقتصادي، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 17/7/2017، إعداد منال نحاس
الحياة
هزيمة «داعش» ومخاطر التمهيد لـ«داعش» آخر/ عبد الوهاب بدرخان
مرّ أحد عشر عاماً على غزو العراق واحتلاله قبل ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وانتشاره، وقد حفلت تلك الفترة بكل المقدّمات التي مهّدت لهذا التنظيم ومكّنته، من تهوّرات سلطة الاحتلال الأميركي، إلى انتهازيات التدخّل الإيراني، إلى نزوات النظام العراقي وأخطائه.
إذ لم يهجس أي من الأطراف الثلاثة بالشروط الطبيعية لإنهاض الدولة أو بمتطلّبات التعايش بين مكوّنات المجتمع.
اهتمّ المحتلّ الأميركي بالمصالح التي جاء من أجلها، بمعزل عن مصلحة العراق وأهله ومحيطه العربي. واندفع الدخيل الإيراني إلى تنفيذ خطّة الإمساك بمفاصل الدولة، ملتقياً موضوعياً مع المحتلّ الذي ما لبث أن انسحب تاركاً المسرح لعبث الدخيل. أما النظام الناشئ فلم يتصرّف على أنه مسؤول عن البلد، بل انساق إلى وضعية الطرف المشارك للمحتلّ والدخيل في استلاب العراق ومواصلة إضعافه وانكفائه.
استغرق انتشار «داعش» في العراق وسوريا وسيطرته على ربوع «دولته» المزعومة أقلّ من شهرين، فيما لزم بلوغ بداية هزيمته ثلاثة أعوام وأكثر. وإذا كان استفاد من ظروف الصراع المسلّح داخل سوريا ليتمدّد أكثر، فإن التعنّت الاستبدادي وخضوع حكومة بغداد آنذاك للأجندة الإيرانية برّرا ظهوره، وفتحا أمامه الطرق والثكنات وسبل الاستحواذ على ميزات استراتيجية باحتلال مدن عريقة.
لم تتوصّل أي أبحاث أو تحقيقات أو تقارير استخبارية إلى تفسير هذه الظاهرة بأسباب ودوافع محدّدة. لم تُبَرَّز «الأخطاء» التي تعمّدها المحتلّ والدخيل وأتباعهما، بل عمّ التبسيط الذي يربطها بتيار التطرّف والعنف والإرهاب المتنكّرة بقناع إسلامي.
كان ولا يزال مطلوباً التوقّف عند الممارسات الوحشية المتلفزة لهذا التنظيم للحُكم عليه وتبرير إبادته، ولم يكن مقبولاً ولا مُستحسناً البحث عمَّن صنعه ووظّفه واستغلّه أو مَن يستعدّ الآن لالتقاط فلوله بغية إعادة إنتاجها في ظاهرة أشد تطرّفاً.
كان بين الشروط الأساسية لعودة الولايات المتحدة إلى العراق من أجل محاربة «داعش» أن تعمل حكومة بغداد على مستويات سياسية واجتماعية وتنموية لضمان مكافحة التطرّف، بموازاة الجهود العسكرية والأمنية لضرب الإرهاب. وفي بياناته الأولى، بدءاً من أواخر يوليو 2014 أوضح رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي وجوب التركيز على البيئة السكانية التي تعاني من وجود «داعش» والتعويل عليها في محاربته.
لكن هذا الرهان الذي بدا منطقياً وحاسماً في تلك اللحظة لم يُراعَ إطلاقاً في أيٍّ من معارك «التحرير»، لأن القوى العراقية على الأرض، خصوصاً ميليشيات «الحشد الشعبي»، حالت دون تنفيذه، حتى في أبسط الواجبات المتعلّقة بإغاثة النازحين وإيوائهم فيما يفترض أنه وطنهم. بل إن التنكيل والانتهاكات الإنسانية وعمليات الخطف والتعذيب والإعدامات الميدانية خلصت إلى نتيجة عكسية تماماً لما كان متوقّعاً.
ترافقت الوقائع الأخيرة من معركة الموصل بأنباء عن اتصالات بين «داعش» و«القاعدة»، تنظيمه الأم، وشيوع تحليلات عن عملهما المستقبلي. لكن ها هو الجنرال ستيفن تاونسند القائد الأميركي للمعركة، يحذّر من ظهور نسخة جديدة من «داعش» ويحضّ الحكومة العراقية على «التواصل مع العراقيين السنّة» لإحباط خطر كهذا.
وهذه توصية عادية وبديهية لكنها تتجاهل أن حكومة بغداد لم تسهّل عودة النازحين إلى أيٍّ من المدن «المحرّرة» ولم تنفّذ خططاً موضوعة لتوفير الخدمات الضرورية لتمكينهم من استئناف حياتهم فيها.
أما «التواصل» المنشود فيشهد عليه عجز الحكومة عن تأمين «مؤتمر القوى السنّية»، ما أوجب تأجيله.
كاتب صحفي لبناني
العرب القطرية
«داعش» الذي في أنفسنا/ حازم الامين
كتب الصحافي حسين جمو في صفحته على فيسبوك: «أثناء معركة الفلوجة في العام 2004 أصبح اسم الفلوجة رمزاً للأغاني الشعبية في مناطق واسعة في سورية. حضرت عدة حفلات غنى فيها المطرب للفلوجة. وأضيفت رمزية أخرى إلى الثقافة الشعبية المسيسة مع إعدام صدام حسين شنقاً في نهاية عام 2006. جرى ذلك تحت أنظار أجهزة النظام في سورية وبرعايتها… المناطق التي تغنت بهذه الرموز: الفلوجة، صدام، معركة مطار بغداد الخيالية..إلخ، هي المناطق التي لم يواجه فيها «داعش» مقاومة فعلية، بل قبولاً إلى حد ما…».
في سياق الحرب التي تُخاض على «داعش» اليوم، سواء في الموصل العراقية أو الرقة السورية، يُهمل جذر أساسي لهذا الورم الاجتماعي غير الجديد، يتمثل في الظروف التي رعاها كل من نظامي البعث في سورية وفي العراق والتي أدت إلى حملنا هذا الفيروس القاتل. ففي «أيام المقاومة» المجيدة كان «داعش» جنيناً يتشكل من نطفة وبويضة البعثين. البعث السوري استدعاه من كل بقاع الأرض والبعث العراقي استقبله وآواه. «المقاومة» في حينه كانت أرجوزة الجميع، ولا يبدو أن أحداً بريء منها. قتال الأميركيين في العراق أملى أن تتحول سورية إلى ممر للـ «جهاديين»، وأن يتحول العراق إلى وجهة نهائية لهم. وليس صدفة أن «داعش» المشرقي أطلق خلافته من هذين البلدين.
كل من هتف لـ «المقاومة» في العراق شارك في انعقاد النطفة على البويضة. ويومها معظمنا فعل ذلك. فقد أطربتنا أشرطة الفيديو التي كانت تبثها «دولة العراق الإسلامية»، والفصائل الموازية لها، واليوم كل بحث عن «داعش» يفضي إلى هذه المرحلة المؤسِسة. ارتداء القفازات في تفسير «داعش» لن يجدي نفعاً، ولن يفيد في سياق المعركة معه. ومثلما هي مخيفة عدم رغبة الأميركيين في الذهاب في البحث عن «داعش» في سياساتهم وأخطائهم وممارساتهم، مخيف أكثر تغاضينا عن البحث عن «داعش» في أنفسنا.
العودة إلى أجواء معركة الفلوجة الأولى والثانية وما رافقها من انجذاب جماعي إلى فكرة «المقاومة» هي عودة للولادة الأولى لـ «داعش». هناك أطلق أبو مصعب الزرقاوي شريط الذبح الأول، وهناك أيضاً ولدت فكرة «الدولة» التي تحولت في زمن البغدادي إلى خلافة. وبين زمني الدولة والخلافة، دفع نظام البعث السوري مسجونيه «الجهاديين» إلى أحضان الثورة، ولم تبد الأخيرة حساسية كافية لوجودهم بين ظهرانيها، فيما راحت مدن الغرب والشمال في العراق تستسلم واحدة وراء الأخرى لورثة الزرقاوي.
ليس النظام في سورية وحده مسؤول عن تضخم «داعش» في الجسم الأهلي، فضعف الحساسية حيال ضخ النظام الإسلاميين في جسم الثورة في حينه، هو امتداد لحماسة سابقة كانت أبدتها بؤر الثورة لـ «المقاومة» العراقية، ومادة هذه الحماسة لم تخل في حينه من عناصر طائفية وأخرى بعثية وقومية. والمرارة التي يبديها ما تبقى من بؤر مدنية في سورية حيال انقضاض «داعش» على الثورة هناك، موازية لمرارة أخرى تبديها نفس هذه البؤر جراء انجذابها لـ «حزب الله» في أيام مقاومته إسرائيل. وفي الحالين لم تجر مراجعة، ولم يعتقد أحد أن لرفد «المقاومة» برأي عام وبحماسة جماعية، أثماناً أخرى، وأن المطالبة بالحرية والعدالة لا تنسجم مع الوقوف وراء نظام البعث في موضوع «المقاومة»، والابتعاد عنه في موضوع الحريات. المطرقة واحدة، والرؤوس المستهدفة، أصحابها هم أنفسهم من هتف للفلوجة ومن ندب صدام حسين، وأطلق اسمه على مئات المواليد الجدد.
يمكن رصد هذا المزاج في معظم حركات الشارع العربي في السنوات الأخيرة. ولعل بواكيره كانت في بيروت، ذاك أن صور زعيم البعث في العراق رُفعت في التظاهرة الثانية لجماعة «14 آذار»، وهتفت في حينه لصدام جماعات قدمت إلى التظاهرة في مناطق من الشمال اللبناني، هي نفسها المناطق التي رفدت «داعش» لاحقاً بعشرات المقاتلين.
الصدمة المطلوب إحداثها في سياق سعينا للشفاء من «داعش» كما من النظام في سورية، هي أن نبحث أيضاً عنهما في أنفسنا، وفي تمكنهما من حجز مواقع في وعينا وفي خبراتنا وتجاربنا. أن نعيد النظر في مسلمات، وأن نلعب في وجدان تشكل في ظل ثقافتي البعث و «داعش»، وما بينهما من مقاومات.
الحياة
«داعش» والاحتقان المذهبي «يعوضان» تركيا وإيران/ جورج سمعان
الاتفاق بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين يضمن «مصالح» اللاعبين الإقليميين في سورية. تعمقت مشكلة تركيا التي يروعها الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى الكرد. وتبددت سياسة إيران التي قدمت وميليشياتها الكثير لبناء قاعدة محاذية لحدود إسرائيل في الجولان. وأُبعدت عن الحدود الجنوبية مع الأردن. جاء الاتفاق لمصلحة تل أبيب وعمان أيضاً. لا يسمح بوجود لقوات النظام أو الميليشيات قريباً من حدود المملكة الهاشمية. لا يبقى أمام أنقرة وطهران سوى التكيف مع هذه الدينامية الجديدة، أو انتظار فشل وقف النار في الجنوب السوري، أو الأمل بسقوط التفاهم بين الدولتين الكبريين.
أعاد الاتفاق ترسيخ قواعد اللعبة التي كانت سارية أيام الحـــرب البـــاردة. كان على القوى الإقليمية أن تـــرضخ لشروط التسويات التي كانت الدولتان العظميان تعقـــدانها. ولم يكن يسمح لأي دولة بأن تجـــازف في التمرد. فهل بات بوسع واشنطن وموسكو استعادة ذلك النموذج أم أن المتضررين يملكون ما يمكّنهم من الخروج على القواعد الجديدة القديمة؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كشف بعد قمته الأخيرة مع نظيره الأميركي في باريس أن هناك مبادرة سياسية مشتركة لحل شامل في سورية. وتقودها مجموعة اتصال من الدول الخمس الكبرى وبعض دول المنطقة وممثلون عن النظام في دمشق. وكرر ما كان أعلنه بعد لقائه نظيره الروسي أن موقف فرنسا تغير. «الهدف هو اقتلاع كل المجموعات الإرهابية من دون أن يكون رحيل الأسد شرطاً مسبقاً». الاتفاق الأميركي – الروسي على وقف النار في جنوب سورية يمكن اعتباره إذاَ نموذجاً يمكن تعميمه ويشكل بداية المبادرة السياسية التي تعمل لها باريس. وإذا صمد الاتفاق يمكن تعميمه على مناطق أخرى، إذا تعذر ثانية تفاهم الأطراف الثلاثة المعنية بلقاءات آستانة على مناطق «خفض التوتر». لذلك لا تخفي أنقرة مثلاً مخاوفها من قيام تفاهم مماثل على الحدود الشمالية. كما تستعجل إشعال معركة عفرين. هاجسها الأول والأخير ضرب تطلعات الحزب الديموقراطي الكردي و «وحدات حماية الشعب» لبناء كيان ذاتي مستقل شمال شرقي سورية. وما يعمق هواجسها ان روسيا تعارض أيضاً محاولاتها ضرب «وحدات حماية الشعب» سواء في عفرين وغيرها. أما طهران فلا يروق لها بالتأكيد أن يطيح التفاهم الثنائي بين الكبيرين كل ما سعت إلى ترسيخه، والذي قد يتطور فعلاً إلى قطع الجسر الذي يربط بين بغداد ودمشق وبيروت. أدركت أن حليفها الروسي لم يراع أصول التحالف وقدم عليه مصالحه مع الولايات المتحدة. وكذلك فعلت الأخيرة بتجاهل مصالح الحليف التركي. لذلك يستعد «حزب الله» لمعركة عرسال التي تحولت أخيراً مادة سجال سياسي حام تناول دور الجيش اللبناني والعلاقة بين بيروت والنظام في دمشق.
قد لا يكون بمقدور تركيا وإيران الخروج على رغبة الرئيسين ترامب وبوتين في تهدئة الوضع في سورية. والدليل رسوخ الهدنة في جنوب هذا البلد، وقبل ذلك تهيّب تركيا من التقدم نحو منبج ومناطق أخرى يسيطر عليها الكرد بعدما تقدمت إليها قوات أميركية ورسمت «خطاً أحمر». الإدارة الجديدة لن تكتفي بحرمان «داعش» من «أراضي الخلافة». حددت بوضوح في قمم الرياض الثلاث أنها معنية بالقــدر نفسه بتقليص نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة العربية. والكرملين يستعجل التهدئة في بلاد الشام خوفاً من تحولها ساحة استنزاف تضاعف متاعبه الاقتصادية نتيجة العقوبات الغربية. قد يأتي «المدد» لأنقـــرة وطهران من حيث تدركان وتعرفان. قد يأتي من المجموعات التي انضوت تحت راية «دولة الخلافة» في كل من سورية والعراق. فهل يعقل ألا يعرف الرئيس الفرنسي وجميع الذين يصبون جهودهم على ضرب «داعش» أن التنظيم لم ينطلق من فراغ؟ إن اقتلاع الإرهاب الذي صرف نظر دول غربية وعربية عدة عن اقتلاع الرئيس بشار الأسد قد لا ينتهي بتحرير الرقة بعد الموصل. فما دام الصراع المذهبي لا يزال على أشده في المنطقة يصعب توقع طي صفحة الإرهاب. «دولة الخلافة» التي ورثــت «دولة أبي مصعب الزرقاوي» لم تقم على أكتاف المقاتلين الأجانـــب. جـل عناصرها كانوا من أهل البلدين. وهي صورة مرعــبة من صور الصراع الأهلي المذهبي. وتحدث الأيـزيديون والكرد والأقليات الأخرى، عقب إعــــلان «دولة الخلافة» عن «جيران» و«معارف» ســـاهموا فـــي تشريدهم دعماً لمشروع «البغدادي». وإذا تعمق إحسـاس أهل السنة في المشرق العربي بالضيم من سيـــاسات بغداد ودمشق وشركائهما الآخرين الذين تدعمهـــم إيران سيظل فكر التطرف حياً. ولا ريب لدى جميع الذين انخرطوا في معركة الموصل أن أعداداً كبيرة من المقاتلين المحليين في «تنظيم الدولة» باتوا في عـــداد «اللاجئين». وسيكونون مستعدين لتكرار تجـــربة البـغــدادي. بل سيكـــونون قنابل موقوتة على امتداد بلاد المشـــرق. ويعرف الأردن أكثر من غيره مثـــلاً العدد الكبير للإرهابيين المقيمين بين اللاجئين في مخيم الركبان. وبالتأكيد يعرف العراقيون ألوفاً منهم خرجوا مع النازحين من جحيم الحرب. وكانت عمان ولا تزال تخشى تسلل هذه العناصر الإرهابية إلى أراضيها وعبرها إلى شبه الجزيرة.
ولن ينفع أن يكتفي الروس بتطوير وتعزيز قاعدتيهم في حميميم وطرطوس. ولن تنفع نصائح وزير خارجيتهم سيرغي لافروف إلى المعارضة بالتوقف عن المطالبة بتنحية الأسد. حجته الخوف من تكرار تجربة العراق وليس دعم الرئيس السوري «لأنه بعد القضاء على الديكتاتور سيجري القضاء على البلد». ولن تبدل كثيراً في واقع الأمر مساعي إدارة ترامب لدى الكونغرس لتعزيز الوجود العسكري أو تجديده في العراق وسورية، حتى بعد القضاء على «داعش». إن إرغام المعارضة السورية على القبول بإعادة تأهيل النظام لن تؤدي إلى تسوية سياسية دائمة. هل يشمل تفاهم موسكو وواشنطن رؤية لحل أزمة اللاجئين والتغيير الديموغرافي في بلاد الشام؟ أم هل في ذهن باريس مثلاً رؤية ستقدمها إلى «مجموعة الاتصال» الموعودة؟ لن تكون مرحلة ما بعد الرقة أفضل من مرحلة ما بعد الموصل. القوى والأحزاب السنية العراقية على تشتتها بدأت تحذر من التغيير الديموغرافي كما حصل ويحصل في سورية. وليس مضموناً أن ينجح تشكيل «تحالف القوى الوطنية» السني في فرض نفسه ممثلاً للمحافظات المستعادة من «داعش»، ومواجهة ما سماه «محاولات التغيير الديموغرافي». وأياً كانت نتيجة الجهود العراقية الرسمية والحزبية لمنع تفاقم الاحتقان المذهبي أو لإخراج «الحشد الشعبي» فإن مدينة الموصل لم توفر فيها الحرب حياً أو مبنى وتركتها خراباً أسوة بحلب والمدن ذات الغالبية السنية.
هذا الاحتقان المذهبي المتصاعد قد لا يوفر لبنان هذه المرة على وقع ما يقال عن حرب وشيكة في جرود عرسال حيث ينتشر أكثر من مئة مخيم للاجئين السوريين. وتعتقد دوائر معنية بأن الحرب إذا اندلعت في هذه الجبهة فإن الجيش اللبناني قد يجد نفسه مرغماً على خوضها. ذلك أن شن النظام السوري وحلفائه المعركة من الأراضي السورية سيدفع مقاتلي «جبهة فتح الشام» وغيرهم من الإرهابيين إلى الاندفاع نحو الحدود الشرقية للبنان. ولا مناص عندها من تحرك الجيش. وهو ما سيعزز حملة قوى سنية ترى إليه سنداً لفئة من اللبنانيين من دون أخرى. وتطمح إيران وميليشياتها من وراء «تطهير» الحدود الشرقية مع سورية، سواء بالمفاوضات أو بالمواجهة العسكرية، إلى تقديم «إنجاز» بالقضاء على «تهديد» الإرهابيين للبنان. وكذلك تسعى إلى تغطية ما لحق بمشروعها في مناطق أخرى من سورية نتيجة الاتفاق الأميركي – الروسي. إلا أن مثل هذه الحرب سيعزز شعور أهل السنة بأنهم مستهدفون، وهم لا يزالون يذكّرون بمحطات من هذا الاستهداف تبدأ باغتيال أبرز زعمائهم الشهيد رفيق الحريري وأحداث طرابلس وبعض مناطق الشمال وعبرا وغيرها وغيرها… وسيدفع هذا الشعور المتنامي المتشددين في صفوفهم وأعداداً من النازحين السوريين الذين يقاسون الأمرين إلى أحضان المتطرفين.
اقتلاع الإرهاب لن ينتهي بتحرير الموصل والرقة. ولن ينتهي باتفاق الكبيرين الأميركي والروسي على تسويات وتقسيمات هنا وهناك. وليس على تركيا وإيران الغاضبتين من حليفيهما سوى الانتظار في الوقت الضائع والتوكأ على القوى والمكونات المحلية في كل من العراق وسورية و… لبنان لابتداع أشكال جديدة من الحروب وتعويضهما ما يخسران من تفاهم الكبار!
الحياة