صفحات العالم

عن مقابلة الأسد الأخيرة: «رسالة وداع» سياسية!


محمد مشموشي *

أن يبدأ رئيس دولة (بشار الأسد في هذه الحال) مقابلته مع قناة تلفزيونية في بلاده بالقول إنه يتحدث إلى مواطنيه من قصر الرئاسة وليس من أي مكان آخر، فهو إنما يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات عن أسئلة الناس. أول هذه الأسئلة: هل صحيح أنه يتحدث من المكان الذي ذكره؟ ثم من أي من القصور الرئاسية المتعددة التي يمتلكها؟ وثانيها: هل كان يخاطب سكان العاصمة الذين يعرفون جيداً أين يقيم وينام ويعقد اجتماعاته ويجري مقابلاته، أم الرأي العام خارج دمشق وحتى خارج سورية كلها؟ وثالثها، والأهم من ذلك كله: هل يظن أنه يقنع بكلامه هذا حلفاءه المحليين والخارجيين بأنه لا يزال الحاكم الوحيد والمطلق لبلده كما كان في السنوات الماضية؟

وأن يقول، في المقابلة ذاتها مع قناة «الدنيا»، «إن وضوح الصورة بالنسبة للقسم الأكبر من السوريين، وتالياً تغير المزاج الشعبي ضد المسلحين (هل يعترف هنا بأن المزاج الشعبي كان معهم سابقاً؟) قد ساعد في عملية الحسم خلال الأشهر الأخيرة»، ثم ليضيف مباشرة «أن القضية هي معركة إرادات… وأن الوضع أفضل، إلا أنه لم يتم الحسم بعد لأنه في حاجة إلى وقت»، ففي ذلك ما يتعذر فهمه عملياً وحتى تصديق أنه يمكن أن يصدر عن رئيس دولة.

إذ كيف ساعد «تغير المزاج الشعبي» على الحسم في الأشهر الأخيرة، بينما «لم يتم الحسم بعد» لأنه في حاجة إلى وقت؟ وكيف، في المقابل، يمكن التوفيق بين ما قاله عن «التقدم» في معركة الإرادات هذه و «الوضع الأفضل» للسلطة وبين ما أوردته القناة نفسها، قبل المقابلة وبعدها، من أنباء عن «العصابات المسلحة» التي تتعامل «الجهات المختصة» معها (تعبير جديد غير مفهوم، إلا إذا كان المقصود جيش «الشبيحة») في دمشق وحلب كما في غيرهما من المدن والبلدات السورية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب؟

مع ذلك، فذروة الكلام الرئاسي تأتي هنا. «كنا نعرف بتخطيط بعض المسؤولين للانشقاق، وقد سهلت لهم الرحيل (صدق أو لا تصدق!)، وتلك عملية إيجابية لأنها عملية تنظيف ذاتي للدولة والوطن». بل وأكثر، فهو يضيف قائلاً: «هذه المرة، تحرك العدو من الداخل… وأي سوري يقوم بتنفيذ مخطط أجنبي ومعاد إنما يتحول إلى عدو».

ما هو المضمون الفعلي لهذا الكلام؟

واقع الحال أنه، بعد سبعة عشر شهراً من الثورة السورية تحولت فيها ممارسات النظام إلى حرب إبادة للشعب، بات مطلوباً من رأس هذا النظام أن يخاطب الداخل أقله لتبرير ما يحدث من جهة، وليبلغه بأنه لا يزال في موقع القيادة من جهة ثانية. ودليله تعمد الأسد منذ الدقائق الأولى للمقابلة نفي ما كان قاله في جلسة افتتاح مجلس الشعب قبل شهور من أن المتظاهرين لم يحملوا السلاح إلا في شهر رمضان من العام الماضي. الآن، ذهب الأسد إلى أنهم لا بد كانوا مسلحين، وإن بأسلحة خفيفة، لأن القتلى الذين سقطوا قبل شهر رمضان ذاك لا يمكن أن يكونوا قد سقطوا بهتافات المتظاهرين السلمية ولا طبعاً بدعواتهم إلى المطالبة بالإصلاح.

وعلى المستوى الخارجي، الإقليمي والدولي معاً، فقد أصبح لزاماً عليه كذلك الظهور في العلن، فضلاً عن إعادة تأكيد أنه لا يزال يمارس سلطته على البلد ثم مطالبة الأصدقاء والحلفاء – خصوصاً روسيا والصين – بمهلة إضافية عله يتمكن خلالها من توجيه ضربة قاضية للثورة (نتقدم، كما قال، لكن الحسم يحتاج إلى وقت)، وتصعيد حملته على الغرب «الذي يريد تدمير سورية… بعد أن فشل، في فترة انفتاحه علينا بين عامي 2008 و2010، في ضرب علاقتنا بالمقاومة وإيران».

وفي اعتقاده أنه، بمواقفه هذه، إنما يشد على يد صديقه فلاديمير بوتين الذي يشاركه النظرة إلى الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، وإن من زاوية لا تتصل بالمقاومة ولا بإيران، كما يشد عزيمة حلفائه في محور «المقاومة والممانعة» باعتباره ونظامه ضحية التزامهما المحور المذكور في مواجهة طلبات الغرب وضغوطه عليه للابتعاد عنه.

ولم يكن خافياً، طيلة الدقائق التي استغرقتها المقابلة، أن رسالتَي الأسد إلى الداخل السوري وإلى الخارج الإقليمي والدولي كانتا عبارة عن إجابات معدة سلفاً على أسئلة لم توضع في ما بعد إلا من أجل استجرار تلك الإجابات، ولا شيء غير ذلك. وفي سياقها، كان لافتاً عدم التطرق إلى مواقف عدد من الدول العربية من الثورة والنظام، وبالتالي تحييده في الردود، والاكتفاء بالحديث عن دول الجوار من زاوية «أن بعض دول الجوار يقف مع سورية لكنه ربما لا يستطيع أن يسيطر تماماً على تهريب الإمدادات اللوجيستية إلى الإرهابيين، وبعضها يغض النظر عن ذلك أو ينأى بنفسه، وبعضها يساهم في هذا الموضوع»… ونقطة على السطر!

أين الحملة المسعورة، على ألسنة مسؤولي النظام وفي إعلامه وإعلام حلفائه منذ شهور، على السعودية وقطر وباقي دول الخليج؟ بل أين ادعاءات هؤلاء منذ اللحظة الأولى لبدء الثورة عن «المؤامرة الخارجية الغربية… والعربية»، وعن «الحرب الإعلامية»، فضلاً عن «العصابات المسلحة» الممولة والمسلحة والمدارة من قبل الخارج العربي تحديداً؟

مقابلة الأسد هذه أذيعت يوم الأربعاء في 29 آب (أغسطس) الماضي. أي في الوقت ذاته الذي كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تعلن أن هناك 3,5 مليون نازح سوري في بلادهم ونحو نصف مليون نازح في الدول المجاورة (ما بين خمس وسدس عدد السكان البالغ 23 مليوناً)، وكانت مدن مثل حمص والرستن وحماة والبوكمال ودرعا والرستن ودوما وغيرها تعلن مناطق منكوبة، بينما تنشغل مؤسسات إغاثة دولية، حكومية وغير حكومية، بالبحث عن أماكن لمئات الآلاف من الطلاب السوريين المشردين عشية بدء العام الدراسي، وتتداعى بلدان العالم وجمعياته الإنسانية لجمع التبرعات المالية والغذائية والطبية، فضلاً عن الخيم والأغطية والملابس، لزوم الشعب السوري الشارد في البراري وعلى الطرقات هرباً من الطائرات والمدافع والدبابات تلاحقه بنيرانها وقذائفها من مدينة إلى مدينة ومن بيت إلى بيت. هل قال رئيس الدولة هذا، أي مقارنة بين محتوى المقابلة والواقع على الأرض، غير أنه يوجه «رسالة وداع»، بالمعنى السياسي للكلمة، ليس إلى بلده فقط وإنما إلى قصر الرئاسة الذي أصر على أنه يتحدث من بين جدرانه؟

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى