عن «هزيمة» الثورة السورية/ إيلي عبدو
يتجرأ الكاتب الصحافي اللبناني حازم الأمين على طرح ما يدور سراً في عقولنا نحن السوريين، ونخشى من الإفصاح عنه، تحسباً لتكريس واقع لا نستوعب عودته.
في مقال مقتضب يسأل الأمين، من هزم الثورة السورية؟ مسلماً بأن الأخيرة هزمت فعلاً بدون أن يحدد ماهيتها وأهدافها، بعيداً عن خطابية المعارضة المكرورة حول إسقاط النظام. الأسلمة والصمت عن الأخطاء التي توالدت عنها، يبدوان مدخلين أساسيين، يخلص منهما الكاتب إلى مسؤولية الثورة عن هزيمة نفسها، مقترحاً الاعتراف بذلك والبحث عن المسببين.
مآخذ الأمين النقدية، التي استنتج عبرها هزيمة الثورة، اعتبرها الكاتب والأستاذ الجامعي اللبناني، سامر فرنجية، «نقدا ذاتياً» ينتمي إلى ذلك الذي درج بعد هزيمة 67 وكذلك بعد الحرب الأهلية اللبنانية، عبر «بيئة اليسار المهزوم»، ملاحظاً أن هذا النقد هو نفسه يحتاج إلى نقد، ولا يصلح لمقاربة الثورة السورية، خصوصاً أن الحالة اللبنانية مهيئة لإنتاج حرب جديدة. ويحرص فرنجية قبل مساءلة طرح الأمين، على الإشارة إلى أن فشل حراك الشعب في سوريا أسبابه معقدة «يتداخل فيها المستوى الدولي بالبعد التاريخي والطابع المحلي، كما تتداخل علاقة المدن ببؤر الثورة بانهيار الشرق الأوسط، ودخول العالم الغربي في لحظته الشعبوية».
والحال فإن، الأمين وفرنجية، يختلفان في توصيف الهزيمة، الأول، يحصر أسبابها مستخدماً أدوات كلاسيكية، والثاني يوسعها مستخدماً أدوات نقدية، أكثر تركيباً وشمولاً. لكن كلا الطرفين، يلتقيان في سياق واحد، أي البحث عن أسباب هزيمة ثورة السوريين.
بيد أن هذا السياق، يبدو سجين ثنائية الهزيمة والانتصار، في تجاهل لما تخفيه هذه الثنائية وراءها من كثافة في مستويات الأطراف المتحاربة. فلا الثورة ثورة واحدة، ولا النظام نظام واحد. ثمة تفتت في معسكر كل جانب، واختلاف في الأجندة والأهداف، فما يُظن أنه انتصار في محور النظام قد يبدو هزيمة لدى طرف ما داخل هذا المحور، وما يُظن هزيمة في محور الثورة قد يبدو انتصاراً لدى طرف ما داخل هذا المحور. ما يعني أن الثنائية المفترضة، في مقالات الكاتبين، تندرج ضمن تعقيد هوية الأطراف الفاعلة في الصراع وتعدد تركيباتها.
فقدان الصراع لأي إطار وطني وتداخله مع الصراعات الإقليمية والدولية، خلق التباساً في هوية المتصارعين، ولم يترك مجالاً لهزيمة واحدة أو انتصار واحد. لكن، قبل هذه المرحلة، تحديداً عندما كان الخلاف بين تظاهرة وقمع، هل كان يمكن توصيف أي حسم بوصفه، انتصارا وهزيمة؟
في الواقع، لا توصيف حاسم في الحالة السورية، لأي من طرفي هذه الثنائية، ذاك أن وعياً تاريخياً مركباً يقف خلف كل مصطلح، وهذا الوعي مرشح للاستيقاظ في أي لحظة وكبته مؤقتاً قد لا يعني سوى مفاقمته وزيادة أسباب رسوخه. الأسباب التي دفعت السوريين للانتفاض لم تزل، بل زادت، وكذلك، الأسباب التي دفعت شرائح مختلفة لدعم النظام، ما زالت قائمة. إذن، نحن حيال وعييّن يتغذيان على الأحداث بشكل سلبي، وغالباً لا يؤثران فيها. وعيان ينقصهما المشترك الوطني، وتحكمهما اعتبارات طائفية وجماعاتية.
وهنا تحديداً يمكن تلمس ملامح الهزيمة لا بوصفها طرفا في ثنائية نقيضها الانتصار، بل باعتبارها فقرا سوريا، في البحث عن إجماعات وطنية، تتيح حد أدنى من التعايش بدون حروب ودماء. والاعتراف يستوجب، في هذا المعرض، التخلي عن جبهتي الثورة والنظام، والبحث عن أشكال حكم تضمن لكل طرف حقوقه، ولا تترك أسبابا للغبن الذي غالباً ما يتحول إلى عنف. سوريا السابقة انتهت، بدون التساؤل حول سورية جديدة، التي تدير ظهرها لقسرية التعايش البعثي، عبر طرح معادلات وتسويات وتوازنات تراعي الحساسيات الموجودة في المجتمع. والحرب المستمرة التي تقفز كذريعة لتبرير هذا النقص الفادح في تعريف سوريتنا، يجب أن تكون الدافع الرئيسي، لهذا الهدف. فليست الشعوب التي تعيش بسلام من تحتاج إلى إيجاد روابط لاجتماعها، بل تلك التي تعيش في أتون الحروب.
كسل السوريون في البحث عن صيغ لعيشهم، والتمسك بخطابية إنشائية لا تراعي الحدود الدنيا من التوازنات المجتمعية، سواء لدى المعارضة أو النظام، هو الهزيمة، الهزيمة التي لم نتجرأ حتى اليوم على طرح أسبابها، إذا تولى المساجلة حولها، كاتبان لبنانيان، استناداً إلى تجارب بلدهما.
أما الانتصار، فهو وهم عابر، يمكن صناعته بالميديا فقط، أما في الواقع، فحسابات الربح والخسارة تختلف، سواء لدى الأطراف المتضادة داخل معسكر الثورة، أو تلك المندرجة في معسكر النظام. بمعنى أن أي انتصار هو تأسيس لهزيمة مقبلة، هكذا تعلّمنا من مجزرة حماه.
القدس العربي