عن وحدة المعارضة
كي لا تذهب تضحيات الشعب السوري سدى
ميشيل كيلو
ليست المعارضة السورية بحاجة إلى وحدة تنظيمية، ولن تتمكن من تحقيق الوحدة في مواقفها، التي يكثر التغني بمحاسنها وضرورتها. ليست المعارضة بحاجة إلى وحدة تنظيمية، لأن المجلس يرفض الانضمام إلى هيئة التنسيق، وهذه ترفض الانضمام إلى المجلس، بينما يرفض المجلس الوطني الكردي والمستقلون الانضواء في التنظيمين، بسبب ما لديهما من ملاحظات كثيرة عليهما مجتمعين ومتفرقين. ولن تتحقق وحدة الموقف لأسباب كثيرة ليس أقلها أهمية الخلافات والطموحات الشخصية، التي تحول دون وحدة كهذه، ما دامت الوحدة ستقلص أهمية هذا وستزيد نفوذ ذاك.
ليست وحدة المعارضة مطلبا للمعارضين اليوم، ولم تكن كذلك في الماضي أيضا. وبالفعل، فقد فشلت محاولة توحيد أحزاب المعارضة عام 1967، بعد هزيمة حزيران. وردت السلطة على قيام التجمع الوطني الديمقراطي عام 1979 بحملة شديدة على الحزب الشيوعي / المكتب السياسي، وحزب البعث الديمقراطي، بينما اتخذ حلفاء الحزبين في التجمع موقفا يتسم بقدر كبير من الحياد البارد، لذلك واجه كل حزب مصيره بمفرده، خارج علاقات التحالف دون أن يخرج منها أو يتمرد عليها. بمرور الوقت تحول التجمع إلى مكان أصيبت أطرافه بشلل أقعدها عن ممارسة أية فاعلية مؤثرة في المجتمع السوري، أو عن تطوير نفسها وتجمعها، الذي شحن بخلافات شخصية غدت مضرب المثل في سورية الحديثة. ثم، في عام 2008، تحول إعلان دمشق، الذي لم يكن لأي حزب أية علاقة بفكرته أو نصه الأول، وكان القصد منه توحيد أطياف المعارضة جميعها: من الشيوعيين إلى الإسلاميين، إلى أداة تم بواسطتها تمزيق ما كان قائما من أواصر بين تكوينات المعارضة في إطار التجمع، وإلى قيام تنظيم جديد سمي «إعلان دمشق»، تجلت أولى النتائج التي ترتبت على إقامته في تسعير خلافات قادة التجمع وتفجيرها. بذلك، نشأ انقسام جديد، عدائي الطابع، غطى مجمل تنظيمات الصف المعارض، التي كان يراد توحيدها، ما لبثت أن تبعته تصدعات متعاقبة جسدها خروج الإخوان المسلمين من الإعلان، وانضمامهم إلى عبد الحليم خدام، الذي قبلوا أن يترأس «جبهة خلاص» شكلوها معه، قبل أن يخرجوا منها بعد عامين ويعلنوا تأييد موقف النظام من حركة حماس في غزة، واستعدادهم لعقد صلح معه. أخيرا، ونتيجة لتعالي المطالبات الشعبية بـ«وحدة المعارضة» خلال الحراك المجتمعي الراهن ضد النظام، تشكل بعد مناورات وتدخلات خارجية متنوعة، عربية ودولية، تكوين جديد اسمه «المجلس الوطني السوري»، ما عتم أن أعلن حلا مبتكرا لوحدة المعارضة المطلوبة، هو الإعلان بأنه معارض النظام الوحيد وممثل الشعب والثورة المعبر عنهما والناطق باسمهما. هذا الضرب من الوحدة لم يزل من الوجود»هيئة التنسيق»، تنظيم المعارضة الآخر، الذي تشكل بعد فشل جهود ستة مثقفين سعوا من جديد إلى توحيد صفوف المعارضة الداخلية، تلبية لمطالب الحراك المجتمعي ولضرورة أن تواكب المعارضة الانتفاضة وتكون في خدمتها وجديرة بها. لكن وحدة التنظيمين الكبيرين: «التجمع» و«الإعلان»، لم تتحقق نتيجة للمفاوضات والمناقشات الكثيرة والمحبطة، بل قام عوضا عنها تنظيم جديد سمي «هيئة التنسيق»، ضم عددا غير محدد من تنظيمات يسارية صغيرة وعديمة الفاعلية، لم يسمع معظم الشعب باسمها، قصر بعضها نشاطه خلال أعوام كثيرة على مهاجمة أشخاص وأحزاب المعارضة السورية وحراكها. بما أن بعض هذه «التنظيمات» انشق عن حزب الشعب الديمقراطي الذي يتزعمه رياض الترك، الرجل الذي يمسك بمصير الإعلان من جهة والحزب من جهة أخرى، فإن دخولها إلى الهيئة كان يعني تحويل المولود الجديد، إلى تكتل انشقاقي، سيكون من المحال توحيد المعارضة الداخلية في أي مدى منظور، ما دام قائما في صورته الراهنة.
وكانت المعارضة السورية قد توافقت منذ عام 2001، مباشرة بعد ربيع دمشق وما واكبه ونجم عنه من نهوض سياسي / مجتمعي غير مسبوق في ظل البعث، مكن معظمها من استعادة أوضاع أوائل الستينيات وأواسطها الذهبية، قبل تعرضها لبطش البعث وقمعه، على أن تكون داخلية المركز، وأن يكون فرعها الخارجي جزءا تكوينيا من بنيتها الداخلية، يتمثل في هيئاتها ويمتلك برامج عمل متوافق عليها مع قيادات ومنظمات الداخل. لكن تشكل جبهة الخلاص، وما أدى إليه من خروج الإخوان المسلمين من إعلان دمشق، أدى بمرور الوقت إلى تعاظم مكانة الخارج، ومهد لتبلور مركز مواز ومستقل، سرعان ما حمل سمات وقام بوظائف لم يكن لمعارضة الداخل أية علاقة معها أو سلطة عليها، بل إنها كثيرا ما كانت ضدها. حدث هذا بعد تفاقم الخلاف بين «التجمع» و«الإعلان»، والركود النسبي ثم المتزايد الذي أصاب عملهما ومكانتهما الداخلية، عقب اعتقالات عامي 2006 (المجتمع المدني ) و2008 (إعلان دمشق) .
هذا الانقسام إلى داخل وخارج تلقى رفدا إضافيا من خلال انضمام «إعلان دمشق»، التنظيم الداخلي الآخر، إلى «المجلس الوطني»، الذي تشكل في الخارج، ومثل إعلانه بما تضمنه من إقصاء «للهيئة» ومن هجمات مركزة ومنظمة عليها، محاولة حاسمة لنقل مركز ثقل المعارضة نقلا نهائيا من سوريا، ولإطفاء وجودها الداخلي، تارة بحجة أنها تمارس سياسة تتسم بالجبن وتحجم عن رفع شعار إسقاط النظام، وتسعى إلى الحوار مع السلطة. وتارة لأن وجودها يقوض وحدة المعارضة المطلوبة دوليا وشعبيا، ويعطل اعتراف العالم بالمجلس كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري وثورته. بالمقابل، كانت «الهيئة» قد شرعت ترى نفسها بدلالة المجلس وتؤكد أنها تمثل الداخل، وتتهمه بأنه تشكل بطلب من دول أجنبية، وأنه يدعو إلى التدخل العسكري في سوريا، علما بأنها لم تتوقف، شأنها في ذلك شأن المجلس، عن الحديث حول المنطلقات والأهداف المشتركة بينهما، وعن حيوية العمل من أجل توحيد أولوياتهما وعملهما.
واليوم، ورغم تنظيم جلسات لقاء وعمل بين الداخل والخارج، تبدو الوحدة أبعد ما تكون عن التحقق، وإلا لما كان وفد «الهيئة» إلى جامعة الدول العربية قد تعرض لهجوم عنيف ومنظم من قبل أنصار «المجلس»، الذين اتهموا بالخيانة وبالعمالة للنظام، بينما كانت يافطات كثيرة حملها المتظاهرون تنسبهم إلى الأسد ومخابراته. ولما تعطلت مفاوضات القاهرة، بعد انضمام مجموعة من معارضي الداخل إلى المجلس، الذي اعتقد أن انضمامهم يسهل عليه قضم الهيئة، ويجعله في غنى عن تفاهم معها قد يقوي حضورها الداخلي باعتبارها ندا له، ويقوض تمثيله للشعب والثورة.
أخيرا، بدأ عامل جديد يدفع بالمعارضتين إلى الابتعاد إحداهما عن الأخرى، هو اكتساب «المجلس» صفة رسمية تجعله تكوينا تمثيليا: حكومة بديلة، تختلف في بنيتها ووظائفها عن المعارضة العادية، داخلية كانت أم خارجية. لم يعد الأمر يتعلق إذن بمجلس معارض، بل بهيئة تمثيلية تنال قبولا دوليا متزايدا بدورها ومكانة ما بعد سياسية، تشبه ما تناله عادة دول أو حكومات المهاجر، لذلك يرى المجلس نفسه ككيان يختلف في طابعه وبنيته ووظائفه عن الهيئة، فلا يصح أو يجوز أن يتحد معها، ولا يمكنه قبول أي شكل من أشكال الوحدة معها، إلا إذا أخذت صورة انضمام إليه يؤدي إلى حلها وزوالها من الوجود.
هل سيحدث هذا؟ لم تفض التجارب التي قادها تنظيم واحد إلى قيام دول مدنية أو ديموقراطية، لأن التنظيم الواحد قبل الثورة أفضى دوما إلى حكم الحزب الواحد بعدها. هذا يعني أن على المعارضة التوافق حول أسس عامة لا يمكن الاعتراض عليها، تصلح أساسا لبلورة توجه يحتمل قراءات متباينة تتكامل فيما بينها يمكن بمعونتها تصحيح مسار الأحداث بأقل قدر من الأخطاء والأضرار، رغم محافظة أطرافها على استقلاليتها وأبنيتها التنظيمية وهياكلها القيادية، وجودها شرط بناء حياة سياسية تعددية بعد الثورة، تضمن انتصارها وبلوغ الأهداف التي ضحى الشعب في سبيلها. كي يحدث هذا، من الضروري التخلي عن عقلية الممثل الشرعي والوحيد حيثما وجدت، وعن ممارسات الإقصاء التي ينتجها ويبررها، وعن الذين تعبر عن نفسها من خلالهم. بغير ذلك، لن تنتج التباينات، التي تمزق المعارضة إلى معارضات في الداخل والخارج، غير تناقضات في الأقوال والأفعال تنعكس بطرق مدمرة في واقع الحراك ومصالح الشعب والثورة .
لم تتحد المعارضة تنظيميا طيلة تاريخها المديد. بعد عام 1979، وحدت أحزاب التجمع الوطني الديموقراطي مواقفها وأقامت حاضنة ضبطت تناقضاتها ونسقت أنشطتها. واليوم، وبينما تنزل جموع شعبية كبيرة العدد إلى الشارع من أجل استرداد حريتها، تمس الحاجة إلى إقامة علاقات بين أطراف المعارضة تجعلها طرفا موحدا في مواجهة نظام يبدو موحدا بدوره. بغير هذا، لن تتمكن من استعادة وجه الانتفاضة الشعبية الأصلي، ولن تنجح في تحقيق الحرية: مطلبها الرئيس، ولن يبقى الشعب واحدا، والحراك سلميا، والهدف مدنيا، والثائرون على الظلم والاستبداد جهة واحدة، ولا يستبعد إطلاقا أن تذهب تضحيات الشعب سدى!.