عن يوسف عبد لكي ودرسه في الرسم/ فاروق يوسف
سيحلو للرسام السوري يوسف عبد لكي أن يضع جمهور معرضه الجديد في بيروت (قاعة تانيت) موضع الاستفهام الحائر. لقد فاجأهم بحضوره رساماً لا باعتباره معتقلاً سابقاً. قبل أشهر لم يكن هناك سؤال يعلو على السؤال الذي يتعلق بمصير عبد لكي بعد أن اعتقلته السلطات السورية في طريق عودته إلى دمشق من طرطوس. لم يكن هناك سوء فهم ولا تشابه أسماء. غير أن الرسام الذي درب يديه على حرفة الرسم، كان قد عرف أن خيال الرسم سيدبر له منافي جمالية أخرى، لن يكون فيها مجرد اسم في قائمة المعتقلين السابقين.
أنا على يقين من أن عبد لكي وهو الذي مر بتجربة السجن في شبابه سيضحكه سؤال من نوع «ما الذي تركته تجربة السجن الأخيرة من أثر عليه»؟ قال إنها تجربة شخصية. وهو يقصد تحييد الرسم. هذا الرسام الذي قضى زمناً طويلاً وهو يحاور جلاديه من خلال الرسم وانتقل بعدها إلى هناءة تصوير الحياة الصامتة، لم يعد يملك الوقت للثرثرة السياسية.
لا بأس أن يرتكب المشاهدون الأخطاء في تفسير صوره.
كان يرى بطريقة نجهلها. لذلك لن تكون المعاني التي نتوقعها لتشكل حدوداً لمملكته. لهذا الرسام بلاغته الحاذقة، وهي بلاغة تحرص دائماً على أن يكون الرسم، باعتباره حرفة حاضراً في كل التفاصيل. بالنسبة لعبد لكي لا يغني شيء آخر عن الرسم. لن تكون الأفكار، مهما كانت تلك الأفكار عظيمة بديلة عن الرسم.
لم يسم معرضه. غير أنه أشار إلى أن رسوم ذلك المعرض كانت قد أنجزت بين عامي 2011 و2013 وما بينهما كانت الثورة السورية قد تدحرجت من المنطقة التي تسكنها الحمامة إلى المنطقة التي تظللها السكين. غير أن ذلك لن يكون سوى افتراء رمزي على تجربة، سيكون فيها الرسام وهو الذي عُرف بمعارضته الدائمة متهماً بالاعتراض السلبي.
يبدو الرسام هنا منحازاً إلى الرسم، باعتباره ثورة وليس مجرد أداة.
هذا رسام يرسم بطريقة استثنائية. ما يقع في الحياة لن يكون سوى ذريعة للرسم الذي سيكون في إمكانه أن يغير طريقتنا في النظر إلى الحياة ذاتها. يسأله الصحافي عن جورنيكا سورية فيقول إن الوقت لا يزال مبكراً. هناك طبيعته الصامتة التي لا تزال تسكن بين الخطوط. هناك تحد يعيشه عبد لكي كل لحظة: أن يكون رساماً.
وهو التحدي الذي لا يفهمه الكثيرون، ممن يرون الفن بضاعة سياسية.
لقد اكتشف عبد لكي أثناء أيام اعتقاله كم كان محبوباً، غير أنه لا يرغب في أن يتاجر بذلك الحب. قال: «لم تلهمني أيام الاعتقال رسوماً» كما لو أنه يريدنا أن نعود إلى حقيقة الرسم. وهي حقيقته رساماً. سيقول لنا: «أنا هنا. مثلما كنت دائماً» وهي الحقيقة التي تنطق بها رسومه. كانت إنسانيته أكبر من أن تختزلها أيام قضاها في معتقل عشوائي. لا يفكر عبد لكي في أن يكون رسام ثورة سرقتها الصفقات المشبوهة.
يرسم عبد لكي لا رغبة في الوصف، بل لأنه قرر ومنذ زمن طويل أن يكون الرسم خياره في القبض على معنى الحياة. كان عبد لكي يرسم لكي يصف. وكان ذلك يحدث بسبب شغف الرسام بالحياة. «أنها تستحق أن توصف» قال لي ذات مرة في منفاه الباريسي وكررها في ساروجة بدمشق حين جلسنا في مقهى شعبي.
مشكلتنا معه هي ذاتها مشكلتنا مع الرسم.
يتخيله كثيرون رساماً سياسياً، وهو نوع من التمني الذي ينكره عبد لكي بنفسه. لن يسمح الرجل المولع بالجمال للسياسة أن تبتلع حياته كلها. سيكتفي بشيء من ثرثراتها لكي ينتهي بروحه إلى الجمال مخلصاً.
الحياة