عوائق وإشكاليات مشروع «دولة الخلافة الإسلامية» في سوريا/ عماد مفرح مصطفى
ترتبط ولادة أية «دولة إسلامية« في سوريا بعدة اعتبارات سياسية وايديولوجية متباينة، وعوامل داخلية وخارجية متداخلة، بعضها يتعلق بتكوين المجتمع السوري وثقافته، وبعضها الآخر يرتبط بحساسية المنطقة ومكانتها ضمن حسابات القوى الإقليمية والدولية.
وإذ تتضح المواقف الدولية في رفضها لهكذا مشروع، يتردد السؤال حول الإمكانية السياسية لتلك التنظيمات الداعية إلى تأسيس «دولة الخلافة«، وقدرتها على احتواء الجغرافيا الأهلية السورية المتميزة بتدخلاتها الاثنية والمذهبية، وتنوعاتها الايديولوجية والعقائدية. فطبيعة هذا المطلب القائم على الاستثمار في «الوعي الطائفي« ـ بعد أن وفر العنف الممارس من قبل النظام تحولا نوعيا في الثقافة الدينية من «الاعتدال« إلى «التطرف والإنغلاق«ـ غير كاف لإكساب تلك التنظيمات القدرة الموضوعية والسياسية في تأسيس «دولة مركزية إسلامية«. وقد تبين من خلال خارطة توزع سلطة تلك القوى على الارض في الوقت الحالي، طبيعتها المناطقية و«عصبويتها« الزائدة، إلى جانب ضعفها المعرفي والحضاري اللازم للسيطرة على تباينات المجتمع السوري.
يمكن القول إن العائق الأكبر لمشروع «دولة الخلافة الاسلامية«، ربما، يكمن في النظرة «الدينية« الجامدة لتلك التنظيمات إلى الصراع السوري، وتحديده «بوعي طائفي« وايديولوجي غير سياسي، وهو ما يمكن تلمسه في مقولة «حكم الأقلية العلوية للأكثرية السنية«، من دون البحث في طبيعة النظام القائم، والافتراض بأن التوجه لقيام «دولة إسلامية«، هو طموح كل «أهل السنة« في سوريا، من دون الخوض في تاريخية موقعهم ودورهم السياسي المهم في سوريا، كشعب وليس كطائفة. يضاف إلى ذلك، أن الأغلبية «السنية« باتت تتخوف من الطريقة العنفية المتبعة في طرح «المشروع« وآفاقه، وقد اظهرت الممارسات الإرهابية لعناصر «داعش« ودولتها الملثمة ضد السكان المدنيين، ذلك التنافر الحاد بين ما يتميز به «السنة« من ديناميكية وتفاعلية في المجتمع السوري، وما يمثله مشروع تلك الجماعات من انغلاق وتطرف.
ثمة عائق أخر، يرتبط بالطبيعة الايديولوجية (الشمولية) لمشروع «الدولة الاسلامية«، وتقاطعها بذلك مع مشروع «البعث« في الحكم، حيث الاستثمار في السلطة وصولا إلى خلق الديكتاتوريات، التي تسخر كل إمكانيات «الدولة« في معركتها من أجل البقاء على سدة الحكم، مع مباركة نفوذ فئة معينة تدير «الدولة العميقة« وتخترق المجتمع وتأسره بالخوف والهواجس. بهذا الاتجاه، يبتعد مشروع «الدولة الإسلامية« عن السياسة، وعن امكانية بناء وتأسيس عقد اجتماعي جديد، ذلك أن التعدد القومي والديني في سوريا، لم يعد بالإمكان طمسه بهيمنة ايديولوجية تدعي تمثيلها للاغلبية السكانية. لا بالطريقة «البعثية« في جعل الاستبداد وعنفه يتكفلان بإركاع وإخضاع التناقضات السورية للنظرة السلطوية، ولا بالتجاهل وفرض هوية ايديولوجية جديدة. وقد دفع السوريون الأثمان الباهظة في سبيل الحصول على هوية سياسية جديدة ومتجددة.
كذلك، من شأن التنافس «الطبقي« المغلَّف باختلافات ايديولوجية وسياسية بين التيارات الإسلامية «السورية« نفسها، أن تؤثر على «شرعية« ومشروعية هذه «الدولة«، فالحركات «الجهادية« ذات المنبت الريفي، والمتبنية لمفاهيم «الدولة الاسلامية« بقوة وعنف، كانت على الدوام في تنافس مع «جماعة الأخوان المسلمين« ذات المنبت «المدني«، على تمثيل «السنة« في سوريا. وهذا التنافس، وإن لم تظهر مفاعيله على الساحة السورية في الوقت الحالي، فأن انعكاساته بدأت تظهر بشكل جلي في العلاقة غير المتجانسة بين المكون السياسي في المعارضة، حيث «جماعة الإخوان المسلمين« التي حصلت على النسبة الغالبة فيه، وبين المكون العسكري، حيث «التنظيمات الجهادية« تمثل قوتها الكاسحة.
اللافت، أن طبيعة الحكم المستقبلي في سوريا، شكل الهاجس الأبرز، والمكان الأكثر حساسية، وقد استثمرت فيها جميع القوى، بدءا من النظام والقوى الغربية وانتهاء بفصائل المعارضة، حيث فرضت إشكالية قيام دولة «اسلامية« تأثيرات متباينة ومتناقضة، فهي من جهة شكلت الذريعة الغربية في منع التدخل، ومن جهة أخرى، شكلت الحافز المهم في الدعم العربي والإسلامي ويخاصة على المستوى الشعبي. وبذلك شكل هذا المطلب، أحد العوامل المعقدة للصراع، مثلما اعتبره البعض، مطالبة تصب في صالح النظام، فهي تعطي «الشرعنة« الجزئية لادعاءات النظام حول «تطرف« الثورة.
واقع الحال، أن القوى الدولية ترفض مشروع «الدولة الإسلامية« في سوريا، ليس من باب حرصها على السوريين، ومخافة ان يستبدل استبداد «البعث« باستبداد « التنظيمات الإسلامية المتطرفة«، بل من طبيعة أهداف هذه التنظيمات «الجهادية« العابرة للحدود والأقاليم.
صحيح أن بعض القوى الإقليمية تبارك تلك الفصائل في معركتها ضد النظام، وتغض الطرف عن دخول «الجهاديين«، لكن كل ذلك يتم وفق معادلة حرب الاستنزاف، وليس على قاعدة الانتصار العسكري الكاسح، فكل تلك التنظيمات «المتطرفة«، ليست سوى أوراق تحرق في «المحرقة« السورية، وسيتم الاستغناء عنها في الوقت المناسب. حدث هذا في افغانستان والعراق وكوسوفو.
والحقيقة، أن محاولة بعض الكتائب الاسلامية «المتطرفة« بناء سلطة «دولتها« كأمر واقع، فرضت مسؤوليات كبيرة على كاهل الثورة السورية وخياراتها الديموقراطية، وطرحت اسئلة حول امكانية الثورة وقواها الذاتية الدافعة في تحفيز العوامل الداخلية والخارجية، من أجل بناء دولة مدنية وديمقراطية. وقد بات واضحا أن «القوى الإسلامية« تحاول دفع سوريا باتجاه دولة دينية على شاكلة إيران، والتي ستصبح بحكم أمر الواقع دولة طائفية و«ثيوقراطية« في المستقبل، بينما تحاول إيران وحلفاؤها تحقيق حلم «أفغنة« سوريا وتحويلها إلى دولة ميليشيات متناحرة.
يفترض من أية مقاربة لنزعة تأسيس «الدولة الاسلامية« الإقرار بأثر السياسات التمييزية التاريخية لسلطة الحالية بحق العرب «السنة« ومحاولتها المستمرة، تحويل أي صراع سياسي لهم مع الحكم إلى صراع أهلي ومذهبي، إلى جانب الإقرار بالأثر السلبي للعلمانيين «الطائفيين« في سوريا الذين اعتبروا وظيفتهم الأولى، محاربة الثقافة الدينية «السنية« دون غيرها من المذاهب والأديان والطوائف، ووفقا لذلك، تم إشاعة صورة نمطية حول تلك الثقافة الدينية بكونها «رجعية« وخطرة، ما انعكس على ضعف الخيار «العلماني« ضمن الخطاب المعارض في الثورة السورية وتحولاتها. ومهما يكن، فإن عدم اتضاح وانضاج الخيارات السياسية للحل على الساحة السورية، الذاخرة بإشكاليات الاجتماع السياسي، لا تبرر لأي طرف كان، فرض مشروعه كخيار دستوري على سوريا المستقبل، تحت حكم وقوة السلاح.
المستقبل