عواقب الربيع العربي…انهيار للدولة العربية القومية المستقرة؟
يرى الباحث في جامعة هارفارد نواف عبيد أنه رغم كل التفاؤل الذي لاح قبل عامين بحلول الربيع العربي لكن الواقع السياسي المشؤوم ربما يجعل مفهوم الدولة القومية متضارباً مع العالم العربي الجديد الناشئ، وأن السؤال الملح بات الآن: كيف تتمكن المنطقة من الحفاظ على استقرارها في غياب دولة قومية مستقرة؟
كان ما يُعرف بالربيع العربي سبباً في توليد موجة من الأمل بين المناضلين من أجل فرض قيم الديمقراطية على الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في العالم العربي.
ولكن الآن، بعد تغيير الزعامات في تونس ومصر وليبيا واليمن، وفي ظل حرب أهلية وحشية تدور رحاها في سوريا، والأجواء المشحونة على نحو متزايد في البحرين والسودان والأردن والعراق، كَثُر الحديث عن تحول كبير ــ وأمل في التحسن ــ في طبيعة الدولة العربية وآفاق نجاحها.
بيد أن الأمل ــ “ذلك الشيء المكسو بالريش”، كما وصفته الشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون ــ لا يشبه الحقائق على الأرض في كثير من الأحيان إلا قليلا. وبالنظر إلى أرض الواقع فيبدو أن جمال الربيع العربي أخلى السبيل لشتاء قارص يكاد لا يُحتمل.
واقع سياسي مشؤوم؟
فبرغم كل التفاؤل الذي لاح قبل عامين، فإن الواقع السياسي المشؤوم ربما يجعل مفهوم الدولة القومية متضارباً مع العالم العربي الجديد الناشئ. ونتيجة لهذا فقد أصبح السؤال الملح الآن هو كيف تتمكن المنطقة من الحفاظ على استقرارها في غياب دولة قومية مستقرة.
ناشطات جماعة “الإخوان المسلمون” في الأردن. د ب أ
في الأردن، كانت الشرعية الدينية للنظام الملكي الهاشمي كافية لتدعيم الدولة في مواجهة التحدي المتنامي الذي تفرضه جماعة الإخوان المسلمين، في حين كان الخوف من امتداد العنف الإقليمي إلى المملكة سبباً في كبح شهية عامة الناس في الأردن مؤقتاً للتمرد والعصيان.
لا شك أن المشاكل التي تواجهها الدول العربية تتفاوت من حيث الدرجة والنوع. فبعض الدول، مثل مصر وتونس، تتمتع بمؤسسات راسخة تاريخياً تساعدها في توجيه عملية بناء المؤسسات في مرحلة ما بعد الصراع وتمنع الانهيار الكامل للدولة.
وتبدو دول أخرى، مثل البحرين والأردن، مستقرة نسبيا. ولكن أغلبها تعاني من انكماش مأساوي في الناتج وسط قيود مالية شديدة وأنظمة نقدية تكاد تشرف على الانهيار، وهو ما يعمل على تقويض عنصرين متممين من عناصر الدولة القومية الناجحة: الاستقلال الاقتصادي والنمو المدعوم ذاتيا.
وعلاوة على ذلك، فقد انتخبت كل دولة زعماء (أو ثائرين نالوا تأييداً واسع النطاق) تربطهم علاقات بالحركة الإسلامية الثورية المنتشرة على مستوى العالم العربي والمعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين (أو في حالة البحرين، بالأهداف الإسلامية الثورية في إيران).
خضوع لإيديولوجية دينية
ومن ثَم فقد أصبحت هذه الدول خاضعة لإيديولوجية دينية تسمو على الدولة القومية، ولا تخضع لمنظمات قادرة على وضع خطط قابلة للتطبيق من أجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي، والازدهار الاقتصادي، والأمن السياسي داخل الحدود الوطنية.
وبالفعل، أسفر الضعف الناجم عن هذا عن تفكك السودان مؤخراً إلى دولتين. فكان الحكم الاستبدادي والانقسام الاجتماعي القائم على أسس دينية في السودان، إلى جانب المصاعب الاقتصادية والعجز السياسي، سبباً في التعجيل بانهيار سلطة الحكومة المركزية في الجنوب الذي تسكنه أغلبية مسيحية.
ويبدو أن العملية نفسها تجري الآن ولو بوتيرة أبطأ في العراق، وسط نضال مستمر من أجل توحيد عرقيتين، العرب والأكراد، فضلاً عن أتباع الإسلام السُنّي والشيعي، في دولة قومية واحدة. وتتآكل السلطة المركزية تدريجياً بفعل انقسام البلاد المستمر إلى مناطق عرقية وطائفية، مع قيام دولة كردية ذات سيادة بحكم الأمر الواقع في الشمال.
مناطقية انفصالية
ومن ناحية أخرى، تتضاءل في اليمن إمكانية قيام سلطة مركزية قوية، في ظل المشاكل العديدة المستعصية التي تواجهها البلاد ــ من الانقسامات الداخلية والحركات الانفصالية إلى ظهور أفرع لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، فضلاً عن الاقتصاد الفاشل. والآن أصبح كل من الجنوب (عدن) والشرق (حضرموت) على مسار نحو الاستقلال، وهو ما من شأنه أن يجر اليمن إلى صراع انفصالي آخر بعد ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً من الوحدة الهشة بين شطري البلاد.
وفي ليبيا، كان انهيار نظام العقيد معمر القذافي سبباً في إلقاء البلاد إلى آتون الفوضى والقضاء على القسم الأعظم من سلطة الحكومة المركزية. فلا يزال القانون غائباً عن الجنوب، في حين يتولى المجلس الإقليمي في بنغازي حكم الشرق؛ ويبقى الغرب فقط خاضعاً للحكومة الضعيفة التماسك في طرابلس.
يشهد العراق منذ ديسمبر/ كانون الأول 2012 احتجاجات من المواطنين السُّنة يطالبون فيها باستقالة رئيس الحكومة نوري المالكي وإطلاق سراح المعتقلين ووقف التمييز ضدهم.
ويتفاقم الوضع سوءاً في سوريا، حيث حصدت أكثر الثورات العربية دموية أرواح أكثر من خمسة وسبعين ألف إنسان بالفعل، وهو ما يرجع في الأساس إلى سلوك نظام الرئيس بشّار الأسد المستبد. ومع تلاشي الدولة السورية، فإن الانهيار الحتمي للنظام سوف يؤدي إلى تقطيع أوصال البلاد بشكل دائم، فتنشأ دولة كردية بحكم الأمر الواقع في شمال شرق البلاد، ويتكون جيب مستقل في الشرق تحت سيطرة العلويين الناجين، فضلاً عن كيان منفصل للدروز في الجنوب.
لا حصانة من التقلبات
ورغم إظهار البحرين والأردن لقدر أعظم من الاستقرار النسبي، فإن أياً منهما ليست محصنة ضد التقلبات. فالثورة الشيعية في البحرين، والتي اختطفها فصيل انتهازي انتقامي إيراني، فشلت في استحثاث انهيار نظام خليفة الملكي. وفي الأردن، كانت الشرعية الدينية للنظام الملكي الهاشمي كافية لتدعيم الدولة في مواجهة التحدي المتنامي الذي تفرضه جماعة الإخوان المسلمين، في حين كان الخوف من امتداد العنف الإقليمي إلى المملكة سبباً في كبح شهية عامة الناس في الأردن مؤقتاً للتمرد والعصيان.
غير أن الدولتين تفتقران إلى العائدات المحلية اللازمة لدعم المؤسسات القائمة هناك. وإذا كانت كل منهما راغبة في البقاء إلى القرن المقبل، فربما كان لزاماً عليهما الاندراج ضمن اتحاد تدعمه دولة قومية أكبر وأكثر قوة ورسوخا.
وعلاوة على هذا فإن التفكك الذي شهدته المنطقة بالفعل ــ وسوف تظل تشهده بلا أدنى شك ــ سوف يتردد صداه خارج الخريطة العربية مع إنشاء دولة كردية ذات سيادة. والواقع أن مثل هذه الدولة، سواء قامت بحكم الأمر الواقع أو باعتراف رسمي واسع النطاق، سوف تخلف تأثيراً دائماً على حدود العالم العربي (سوريا والعراق) والشرق الأوسط عموما (تركيا وإيران).
لقد نجح الربيع العربي في الإطاحة ببعض الأنظمة، ولكنه فشل في الإطاحة بأنظمة أخرى. بيد أن الأمر الأكثر أهمية هو أن الربيع العربي ألقى بظلال عميقة من الشك، في كل مكان من العالم العربي ــ وخارجه ــ على قدرة الدولة القومية على البقاء. والآن ربما ولت أيام الثورات؛ واقتربت أيام الحساب.
نواف عبيد
ترجمة: إبراهيم محمد علي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: بروجيكت سينديكيت 2013