صفحات الرأي

عودة إلى سؤال أدوار المثقفين/ كمال عبد اللطيف

 

لاحظنا، في الآونة الأخيرة، وفي ظل المعارك القائمة في المجتمعات العربية، عودة إلى التساؤل عن أدوار المثقفين والمهام المنوطة بهم. ولاحظنا أنها عودة تضمر تصورات وأحكاماً كثيرة تحتاج إلى بعض الفحص النقدي، والمراجعة المستوعبة للمتغيرات التي تراكمت في التاريخ. ونفترض أننا عندما نغير صيغة السؤال، ونُحوِّله إلى أدوار المعرفة في التاريخ، نصبح أمام معطيات لا تمنح المثقفين أي امتياز في الفعل التاريخي، مقارنة مع باقي الفاعلين في المجتمع، بمختلف أصنافهم ومواقعهم.

ضمن هذا السياق، لا يمكننا أن نتصور أن أدوار المثقفين في المجتمع والتاريخ تفوق أدوار باقي الفاعلين. فقد تختلف أدوار المثقفين عن أدوار السياسيين في أطوار تاريخية معينة، إلا أنها، في تصورنا، تظل دائماً عنواناً دالاً على تنوع المعارك والمهام المطروحة أمام النخب في المجتمع وتعددها. وقد تحصل بين مختلف الفاعلين درجات من التكامل والإسناد المتبادل في أزمنة أخرى، حيث يتمم فعل الواحد منهما أفعال الآخرين. والأمر لا يتعلق، هنا، بفاعلين اثنين فقط، المثقف والسياسي، إنه يتعلق بمختلف الفاعلين المنخرطين في عمليات التحول في التاريخ.

نحتاج في أزمنة الأزمات، وفي الأطوار الانتقالية في التاريخ، إلى الفعل الجماعي المركَّب، بل لنقل الفعل المؤسَّسي المنظم، الذي يستوعب ممكنات الإبداع الفردية والجماعية، ويعمل على صهرها، ومنحها النجاعة التاريخية المطلوبة، حيث لا يصبح مجدياً الركون إلى المواقف المجزَّأة والمجزِئّة، أو الاختيارات التفضيلية التي تضع بعض الأدوار في خانة الامتياز، أو تمنحها صفة الفعل الاستثنائي الأقرب إلى الفعل اللاتاريخي.

” ينبغي أن نعترف، في هذا السياق، بأن أوضاع المثقفين في المغرب، وفي العالم العربي، اليوم، تعتبر جزءاً من وضعية التراجع العامة، الحاصلة في الواقع العربي، فالمثقف الفرد والمثقف المؤسسة تؤطرهما معاً جملة من الشروط التاريخية والسياسية، وتترك نتائجها في مبادراتهم ومجمل إنتاجهم”

لا يمتلك المثقفون أدواراً خارقة في التاريخ، ونعتقد أن قيمة ثقافات مبدعة وفاعلة كثيرة تستمد من الروافع الاجتماعية التاريخية التي تمنحها القوة والاستمرارية، قوة الفعل المساند، والفعل المُعَانِدِ، فعل الإبداع الذي لا تردّه الكوابح الصلبة، ولا الاختيارات السريعة والسهلة.

ينبغي أن نعترف، في هذا السياق، بأن أوضاع المثقفين في المغرب، وفي العالم العربي، اليوم، تعتبر جزءاً من وضعية التراجع العامة، الحاصلة في الواقع العربي، فالمثقف الفرد والمثقف المؤسسة تؤطرهما معاً جملة من الشروط التاريخية والسياسية، وتترك نتائجها في مبادراتهم ومجمل إنتاجهم. يضاف إلى ذلك أنه لا يمكننا الفصل بين الفاعل السياسي والفاعل في المجال الثقافي، وبصورة مطلقة، مثلما أنه لا يمكن الفصل بين الفاعل الاقتصادي والفاعل في مستوى الإنتاج الرمزي للمجتمع، فالأزمة عامة وشاملة، والعمل على تخطيها، وتخطي نتائجها يتطلب اشتراك الجميع في المنازلات الكبرى.

ما يدفعنا، أيضاً، لتعميق مسألة التشكيك في جدوى السؤال المتعلق بدور المثقفين، هو اعتقادنا بأن الزمن الثقافي يختلف عن الزمن العام، وعن الزمن السياسي المباشر خصوصاً. فنحن نفترض أن الزمن الثقافي يتميز بصيرورته المنغرسة في أزمنة المدى المتوسط والطويل، خلافاً لأزمنة الفعل السياسي المباشر، الموصولة بالحاضر في جريانه وغليانه. ومعنى هذا أن تغيير الذهنيات وأنماط الوعي يقتضي زمناً أطول من زمن المبادرة السياسية والفعل السياسي القاطع، ولهذا السبب، ينبغي أن نفكر في أدوار المثقفين ووظائفهم، ضمن أزمنة المدى المتوسط والطويل، حيث تتواصل المخاضات والتناقضات والأفعال المتضادة، راسمةً ملامح وعي مختلط، حيث لا يحصل الفرز ولا ترفع الازدواجيات والتوترات، إلا في سياقات زمنية تغطي العقود بدل السنوات.

يترتب عن التصور الذي نحن بصدد تعيين قسماته العامة، أن الفعل الثقافي يمتلك مواصفاتٍ تميزه عن مواصفات الأفعال التاريخية الأخرى، من دون أن يمنحه هذا التميز أي امتياز. ويسلتزم الوعي بهذا الأمر مبدأ التفكير بكثير من الاحتياط والتنسيب في مسألة وظيفة الثقافة، وأدوار المثقفين في التاريخ والمجتمع.

لا نريد أن تفهم التحفظات التي وضعنا على صيغة سؤال التفكير في أدوار المثقفين العرب في مواجهة محن مجتمعاتهم التاريخية، أننا بصدد ترتيب معطياتٍ تنتمي إلى الأفق الفكري العدمي، بل إننا نتوخى منها نقد التصورات التي تعتبر أن في إمكان المثقف إنتاج تصورات الخلاص المنقدة، فهذا الموقف يُسيء، في نظرنا، إلى وظيفة الفكر النقدي في التاريخ، وهو موقف يرتبط بأنظمة في الثقافة وفي التاريخ عفا عنها الزمن.

ولعلنا في المغرب وفي العالم العربي، ونحن نواجه إشكالات ما بعد انفجارات 2011، بكل تداعياتها المتمثلة في مآزقها ومآثرها، في أمس الحاجة إلى تعزيز دوائر الفكر النقدي والتاريخي، في مقاربة أسئلة ما بعد ثورات 2011، ضمن إطار من العمل الثقافي المؤسسي، المفتوح على فاعلية الفكر الحر، المستوعب لتجاربنا وتجارب الآخرين في المعرفة والسياسة والتاريخ، عسى أن نتمكن من فهم ما جرى في السنوات الأخيرة، باعتباره الخطوة الأساس في عملية مواجهة مختلف عللنا التاريخية، القديم منها والمستجد.

لا ينبغي أن نغفل، هنا، التأكيد على الطابع المركَّب للتحولات الجارية في واقعنا، حيث تصبح أدوار الفاعل السياسي ومختلف الفاعلين في حقل إنتاج الرموز المادية والرمزية متداخلة، ولا تعود هناك إمكانية لتصور وجود خلاصٍ خارج فعل المواجهة المركَّبة بكل ما تقتضيه من يقظة ونقد، بل بكل ما تقتضيه، أحياناً، من تدرج أو قطائع وأفعال فاصلة، ذلك أن التاريخ، كما نتصوره، يمتلك القدرة على استيعاب فكر التبرير، فكر التدرج والمرحلية، مثلما يمتلك، بالطريقة نفسها، القدرة على دعم القطائع والتشريع لها.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى