عودة إلى مفهوم العلمانيّة/ شكري المبخوت
تحفل الثقافة العربيّة بضروب من الالتباس المفهوميّ التي تقوم في الغالب حاجزا أمام رؤية الواقع وفهمه للسير حثيثا في اتجاه تغييره. ولا يعود ذلك إلى غياب المرجعيّات العلميّة بقدر ما يعود إلى اندراج الكثير من هذه المفاهيم في سياقات تأويليّة يحكمها صراع إيديولوجيّ حادّ في واقع مأزوم لا يجد إلى خلاصه سبيلا. ومن هنا تتأتّى أهمّيّة توفير أدوات بيداغوجيّة ذات طابع تبسيطيّ يوضّح هذه المفاهيم ويعيد طرح القضايا القابعة وراءها عسى أن يكون النقاش في شأنها أدقّ وأوضح فيكون الصراع الفكريّ والإيديولوجيّ قادرا على تجاوز الضدّيّة القاتلة ليتّجه نحو تأليف مناسب. فربّ قيمة أو هدف أو مقصد نصل إليه من طرق مختلفة ولكن سوء الفهم يفرز سوء تفاهم يغذّي خلافا وهميّا.
تبسيط المعرفة في سياق معقّد
يندرج كتاب محمّد الشريف فرجاني “العلمنة والعلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة” (دار التنوير، 2017) ضمن هذا التوجّه العامّ بخلفيّاته المعرفيّة وأسلوبه التبسيطيّ ومقصده الجدليّ – الجداليّ في آن واحد.
وقد يسّرت اجتماع هذه الصفات الثلاث في كتاب فرجانيّ عنايته في كتاباته منذ ربع قرن تقريبا بالبحث في العلاقة بين الإسلام واللاّئكيّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان وما بين الدينيّ والسياسيّ عموما من قضايا فهو أستاذ العلوم السياسيّة بجامعة ليون الثانية (فرنسا).
بيد أنّ هذا الزاد المعرفيّ وهذه الخبرة البحثيّة الأكاديميّة وجدا في الصحافي محمّد معالي، معدّ الكتاب ومترجمه، ما يسّر للباحث التخفّف من أثقال الجهاز المفهوميّ والتوثيقيّ والمنهجيّ ليقدّم الباحث، في إيجاز، المعطيات الأساسيّة حول مسألة مسارات العلمنة والتوضيحات المفيدة حول مفهوم العلمانيّة ويعرض، باختصار، الوقائع التاريخيّة ومختلف المواقف الكاشفة عمّا وراء المناكفات الإيديولوجيّة التي صاحبتها.
بيد أنّ هذين الجانبين الأكاديميّ والتبسيطيّ لا ينفيان أنّ المؤلّف وصاحبَه قد ركبا مركبا زلوقا. فالقضيّة ما تزال تثير جدلا يبدو عقيما. لذلك لم يخل الكتاب من مسحة جداليّة استعاد فيها الكاتب فصولا من صراع التحديثيّين والتقليديّين في الفضاء الإسلاميّ. وملخّصه هو الحاجة إلى الفصل بين الدين والسياسة لإقامة مجتمع ديمقراطيّ مؤسّس على الحرّيات ومفهوم المواطنة لدى البعض وتمسّك البعض الآخر بتصوّر قوامه إخضاع السياسة، بما هي تدبير للشأن العامّ، إلى مقتضيات الدين سواء في التشريع، على اعتبار الشريعة مصدرا وحيدا له، أو التنظيم السياسيّ، باسم الخلافة تارة وباسم الدولة الإسلاميّة تارة أخرى.
إنّ هذه العودة إلى مفهوم العلمانيّة في هذا الكتاب لم تكن منفصلة عمّا شهدته تونس ومصر بعد الربيع العربيّ من نقاش حول الدستور ومواصفاته ونمطيْ الحكم والمجتمع فيهما.
المواجهة والخلافة
يبدو اللبس الذي عمل محمد الشريف فرجاني على الإبانة عنه في شأن مفهوم العلمانيّة عائدا في جانب كبير منه إلى ارتباط المفهوم بأصوله الاجتماعيّة التاريخيّة على اعتباره إجابة عن سؤال العلاقة بين الدين والسياسة في السياق الأوروبّيّ.
إنّ هذه العلاقة الثابتة تاريخيّا بين التصوّر المقترح وسياقه الأوروبيّ جعلت العرب والمسلمين يتلقّون العلمانيّة من غزاة ومستعمرين فأحيوا في النفوس ذكرى الحروب الصليبيّة. ولم تزد الأيّام، أمام عنجهيّة القوى الاستعماريّة وتدمير مناطق كثيرة من العالم العربيّ الإسلاميّ، هذا الاعتقاد إلاّ رسوخا. فما يهدّده مفهوم العلمانيّة في ضمائر المسلمين إنّما هو الهويّة الثقافيّة ومقوّمها الدينيّ.
فلمّا كان مدار العلمانيّة على ترتيب العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع فقد فرض السياق التاريخيّ ومحاربة الاستعمار، بشكله القديم والجديد، بناء جدول مفهوميّ تكون فيه العلمانيّة على صلة بالوضعيّة والإلحاد وما إلى هذا من التصوّرات الإيديولوجيّة السلبيّة التي اعتبرت تدميرا للهويّة الثقافيّة والدينيّة للمجتمعات العربيّة الإسلاميّة.
ورغم ما يولّده هذا الخلط المتعمّد أحيانا من قلّة إدراك لحقيقة العلمانيّة في الغرب نفسه، علاوة على واقعها في العالم الإسلاميّ، فإنّه سبب آخر مؤثّر في بناء معرفة واضحة للمشكلة والتقدّم بحلول ناجعة لها. فالغرب بمقتضى هذا التصوّر يصبح كلاّ متجانسا لا يعيش، بأشكال مختلفة، صراعا بين المؤسّسة الدينيّة والمؤسّسة السياسيّة وينقلب العالم الإسلاميّ بدوره كلاّ متجانسا لا يتيح أيّ إمكانيّة لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والدين.
وبالعودة إلى وقائع التاريخ يبيّن فرجاني أنّ سنة إلغاء الخلافة مثّلت منعرجا حاسما في انقسام الفاعلين في الفضاء الإسلاميّ إلى مؤيّد للعلمانيّة ومناهض لها. وهو أمر مفهوم بحكم أنّ كمال أتاتورك بعد أن ألغى الجانب السياسيّ من الخلافة سنة 1923 وأتبعه بإلغاء الجانب الدينيّ لإعلان اللاّئكيّة في الجمهوريّة التركيّة قد فتح المجال في العالم الإسلاميّ السنّي من إندونيسيا إلى شمال إفريقيا لطرح المشكلة من زاوية أخرى.
فقد اعتبر المسلمون أنّ الإسلام صار بلا حاكم “يحرس الدين ويسوس الدنيا”. ومذّاك صارت الخلافة ركنا من أركان الدين وتوثّقت الصلة أكثر فأكثر بين إمامة الصلاة والإمامة العظمى. وفي هذا السياق أيضا يفهم موقف مفكّر مثل علي عبد الرازق في مناهضته للخلافة إذ اعتبر الإسلام لا يفتقر إليها وإن كانت هذه المؤسّسة السياسيّة تفتقر إلى الشرعيّة الدينيّة. ويشهد التاريخ على أنّ فشل مؤتمر الخلافة الذي عقد بالقاهرة في شهر مايو/أيار من سنة 1926 كان إيذانا بأنّ أمر الخلافة قد حسم في الواقع. وبهذا نفهم لمَ لمْ تعد أهمّ حركة دينيّة سياسيّة في العالم الإسلاميّ السنّيّ، وهي حركة الإخوان المسلمين، تطالب بالخلافة بعد أن نادت بها لفترة من الزمن واقتصرت على المطالبة بدولة إسلاميّة.
وهنا دخلت مسألة العلمانيّة مرحلة أخرى جديدة. فقد صار شعار الدولة الإسلاميّة يعني تطبيق الشريعة الإسلاميّة. والمفارقة أنّ دلالة الشريعة على القانون ارتبطت تاريخيّا بوضع المدوّنات القانونيّة وتوحيد المحاكم. وهي عمليّة تثبت تاريخيّا تدرّجا في بناء الدولة الحديثة وتمثّل عند التدقيق ضربا من ضروب العلمنة. بل إنّ تأويل الشريعة على أنّها القانون هو من تأويل السلطات الاستعماريّة نفسها سواء في الجزائر مع الفرنسيّين أو في شبه القارة الهنديّة مع البريطانيين (ما سموه “القانون المحمّدي”).
وتدلّ تجارب كثيرة في العالم الإسلاميّ (تونس ومصر وتركيا وإيران…إلخ) على أن الصراع كان قائما بين السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة ولكن بهيمنة السياسيّ على الدينيّ أوّل الأمر قصد اكتساب الشرعيّة منه ثم انقلب الأمر لتدور مطالب النخب الدينيّة على الهيمنة على الفضاءت كلّها بما في ذلك الفضاءات التي كانت تتمتّع حتّى في القرون الوسطى ببعض الاستقلاليّة (كالفنّ والعلم مثلا). والمفارقة حسب فرجاني أنّ ما وقع هو أدلجة للدين على سبيل ردّ الفعل على حركة العلمنة التي شهدتها مجتمعات إسلاميّة كثيرة، وهذه الأدلجة إن هي إلاّ ضرب من علمنة الدين.
وعلى سبيل الاستشراف يلاحظ فرجاني، مستندا إلى الباحث الإيراني الفرنسي فرهاد خسروخاور، أنّ هذا الإفراط في أدلجة الدين والمطالبة بهيمنته على كل الفضاءات ستتلوهما مرحلة أخرى هي مطالبة رجال الدين أنفسهم، حين تصطدم الإيديولوجيّة الدينيّة بالواقع وتعقيداته فتفشل، بفصل الدين عن السياسة حماية للدين من مفاسد السياسة ( ص ص 63 – 64).
فرنسا دار إسلام!
لم يدخل محمد الشريف فرجاني، رغم الطابع الجداليّ لكتابه، في ممحاكات إيديولوجيّة تعامل العلمانيّة كما تعامل العقائد. فهي عنده “سيرورة تاريخيّة” تتنزّل في السياقات الاجتماعيّة والتاريخيّة. وليست عقيدة دولة من الدول بل هي ضدّ كل الدول العقائديّة سواء أكانت باسم الدين أو باسم أيّ فلسفة أخرى لأنها لا تعني معاداة الدين بل تضمن الحريّات بما في ذلك حرية العقيدة والضمير.
وينضاف إلى هذا الجانب النظريّ جانب آخر يكشف عن أنّ حركة العلمنة في العالم الإسلاميّ متأصّلة في الإرث المدنيّ لعصر النهضة. فقد خلا الدستور التونسي لسنة 1861 (وقبله عهد الأمان لسنة 1857) وإعلان الحقوق في الدولة العثمانيّة (خطّي شريف غولخانة سنة 1839 وخطّي هاميوني سنة 1856) من إشارات إلى الشريعة والقانون الإسلاميّ رغم أنّها استمدّت من المنظومة الدينيّة ما به برّرت مثل هذه الإصلاحات ذات الطابع العلماني. فالجوهريّ في العلمنة باعتبارها مسارا تحديثيّا تاريخيّا هو العمل على أن يحقّق كلّ حقل (العلميّ والفنّي والسياسيّ والدينيّ… إلخ) استقلاله.
ويروي فرجاني أنّ بعض الإسلاميين التونسيّين من أتباع حركة “النهضة” حين كانوا في فرنسا منفيّين رأوا فيها “دار إسلام” تتيح لهم ممارسة ما يعتقدونه من الدين دون أن تتدخّل في ذلك الدولة الفرنسيّة في حين أنّ تونس وتركيا والجزائر مثلا لم تكن تمكّنهم من ذلك. (ص ص 111 – 112).
ورغم أنّ محمّد الشريف الفرجاني لم يتوسّع في بيان الفروق بين التجارب العالميّة في ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة والروابط الخفيّة القائمة إلى الآن في المجتمعات التي عرفت حركة علمنة أفرزت نظما مختلفة، فإنّ في الأمر مجالا للتدبّر. أفلا يكون المثال الفرنسيّ، وإن كان أكثر الأمثلة راديكاليّة في تبنّي اللاّئكيّة، مجرّد مثال عمّا يمكن أن تكون عليه العلاقة بين الدين والدولة؟
* أكاديميّ وروائيّ تونسيّ
ضفة ثالثة