عودة الحرب الأميركية على الإرهاب
حسن منيمنة
أحد أهم «الإنجازات» التي حققها الرئيس الأميركي باراك أوباما، في مسعاه الدؤوب للتمايز عن مسار سلفه جورج دبليو بوش هو إنهاء «الحرب على الإرهاب» بوصفها حرباً تهويلية عقيمة لم تحقق من النتائج إلا تأصيل العداء للولايات المتحدة في أكثر من موقع. طبعاً، هذا الإنجاز كان لفظياً في معظمه. فإن ابتعدت دوائر الحكم في واشنطن عن استعمال أية مفردة مشبوهة في هذا السياق، فإن الطائرات من دون طيار استمرت في مساعيها لاستهداف قادة الحركات المصنفة إرهابية في سياقٍ أقل ما يوصف به أنه مبهم على أكثر من صعيد.
فسمة حرب أوباما القائمة إلى حد كبير على هذه الطائرات واغتيالاتها الممنهجة لقادة التنظيمات، هي أنها أقصت الرأي العام في الولايات المتحدة عن استقبال جثامين قتلى من الجنود الأميركيين سقطوا في مواجهات مع الأعداء، وأوحت بالتالي لهذا الرأي العام بأن الرئيس أبعد شبح الحرب عنه. أما واقع أن هذه الطائرات من دون طيار تحصد أعداداً مضاعفة من الضحايا المدنيين من أجل تحقيق إصاباتها المتعمدة، فأمر يبقى مقبولاً في شكل عام في الوسط الأميركي والذي يبني على اقتناع بأن حكومته لا تستهدف هؤلاء بل تبذل جهدها لتجنب الإيقاع بهم. والتقويم الذاتي الضمني لأداء الحكومة الأميركية في هذا المضمار كان إيجابياً. فهي تمكنت من قتل العديد من القادة الميدانيين للحركات المعادية، وإن عمدت هذه الحركات إلى استبدالهم بعد كل موجة استهداف فإن الاستبدال راح يأتي تباعاً بقيادات أقل خبرة وبروزاً، فيما فترات بقائها من دون قيادات بديلة باتت تطول أكثر فأكثر. بالتالي، ثمة اطمئنان استتب في أوساط حكومة أوباما إلى أن المواجهة الاستنزافية بين الجانبين، الأميركي والمعادي، أصبحت لمصلحة الولايات المتحدة، وأن تنظيم «القاعدة» تحديداً دخل في دائرة الاحتواء التي تزداد ضيقاً مع مرور الزمن بما يسمح بتوقع الانتهاء منه كخطر قائم.
هذا النجاح المفترض أدّى إلى التراخي في أكثر من شأن، وقد يكون الأهم التقليل من أهمية الترابط بين الملفات الشائكة في منطقة الشرق الأوسط، تماشياً مع رغبة لدى الحكومة الأميركية، وأوباما تحديداً، في فك الارتباط مع هذه المنطقة التي تستهلك الكثير من طاقات الحكومات الأميركية المتعاقبة. ففي حين لا ينكر المسؤولون عن متابعة قضايا الشرق الأوسط في الحكومة الأميركية تداخل بعض أوجهها، فإنهم في توصيفهم لأوضاعها وطرحهم لسبل معالجتها يميلون إلى تفنيدها وتخصيص كل منها بتوجه منفرد. فضمان أمن إسرائيل هو الأولوية الراسخة، فيما الحرب على تنظيم «القاعدة» شأن ذو أولوية قصوى، وكذلك تطويق إيران، والعمل لتثبيت النظم الناشئة في الدول التي شهدت التحولات شأنٌ ذو أولوية أقل، أما الحرب في سورية فلا ترقى إلى مستوى الأولوية، ومعالجة القضية الفلسطينية، خارج إطار الحاجة الأمنية الإسرائيلية، إلى أن صمّم وزير الخارجية جون كيري على خلاف ذلك، شأن عضال خارج إطار الأولوية التنفيذية.
وفرز القضايا بما يسمح بتخصيص كل منها بتوجه مختزل ساهم في الوهم الذي تحقق حول النجاح المفترض. ففيما كان تنظيم «القاعدة» يعيد تقويم أدائه وإخفاقاته في إطار التحولات التي شهدتها المنطقة، ويسعى إلى تبديل صيغه المعتمدة بما يتوافق مع الواقع الجديد، كانت المقاربة الأميركية في شأنه منفصمة بين تقومين مستقلين، أولهما مطمئن إلى النجاح في دحر التنظيم ميدانياً، والآخر، في إطار متابعة تشكيلة القوى السياسية في النظم الجديدة، يقلل من أهمية التنظيمات المتماهية مع فكر «القاعدة» ومنهجه باعتبارها على هامش الحياة السياسية.
لا شك أن حرب الطائرات من دون طيار أنجزت ما يتيح لأوباما تبديد أي اتهام حول تفريطه بالأمن الوطني للولايات المتحدة. لكن النجاح كان في تحجيم صيغة اعتمدها تنظيم «القاعدة» في دور معين، لا في القضاء على التنظيم نفسه. ففي مرحلة أولية كان التنظيم أقرب إلى المركزية، ثم بعد استهدافه في أعقاب اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١، والحرب التي تلتها في أفغانستان، انتقل التنظيم إلى صيغة الشبكة المتراخية من التشكيلات المسلحة المتجانسة، وهي التي اجتهدت منظومة الطائرات من دون طيار في استهدافها. غير أنه منذ بدء التحولات في المنطقة، يعود تنظيم «القاعدة»، وبعد انكفاء اقتضته المرحلة، للبروز بأشكال متوازية بتسميات مختلفة، من مشاركة في العمل الثوري في سورية ومالي، إلى إقامة «إمارات» في سورية واليمن وسيناء، مروراً بالعمل الإرهابي في العراق، وصولاً إلى الانتظام في إطار مجموعات سياسية علنية في ليبيا وتونس وغزة وغيرها من الأماكن.
وإذا كان منحى الفرز في التوجهات ساهم في تأخير تولّد اقتناع لدى الحكومة الأميركية حول نجاح «القاعدة» بالانتقال إلى صيغة جديدة متنوعة الأشكال، فإن التحذير الصادر عن أجهزة الرصد الاستخبارية في الولايات المتحدة، والذي يفيد بأن إحدى البعثات الأميركية قد تتعرض لاستهداف وشيك، وضع حكومة أوباما في موقع المقتصر على رد الفعل الوقائي، إذ أقدمت على إغلاق البعثات المعنية، وتقييد تحرك العاملين فيها في أكثر من موقع.
ورد الفعل كان لا بد منه لتجنب صخب معارض في واشنطن في حال وقوع العملية المرتقبة، لا سيما أن تداعيات الاعتداء على البعثة في بنغازي ومقتل السفير الأميركي وزملائه فيها قبل أقل من عام لا تزال تستهلك الرصيد السياسي للرئيس وطاقمه.
غير أن تجربة بنغازي التي حاول طاقم الرئيس من دون جدوى تجاوزها باعتبارها حالة استثنائية، هي التي أرغمت الحكومة الأميركية، وإن على مضض، على الإقرار بأن احتواء خطر «القاعدة» لم يتحقق. وبهذا يكون أوباما ألزم نفسه بإحدى معركتين، فإما مواجهة نقد منهك من خصوم يتهمونه بالتفريط بالأمن الوطني، وإما العودة، في شكل لا يقتصر على الطائرات من دون طيار، إلى الحرب التي كان سلفه اتُّهِم بالمبالغة في استدعائها.
الحياة