عودة النظام إلى النظام/ عمر قدور
بعد تمهيد لعودته إلى دمشق عبر قناة “العالم” الإيرانية، عاد شيخ عشائر البكارة في سوريا “نواف البشير” إلى دمشق، ليظهر على قناة “الدنيا” التابعة للنظام بعد إلقائه كلمة موجزة يعبّر فيها عن ندمه على عمله في المعارضة. على قناة الدنيا لا يتوانى البشير عن اتهام المعارضة بالخيانة، ويعيد حرفياً المقولات التي يرددها النظام عن استهدافه بمؤامرة دولية تشترك فيها إسرائيل، ويتساءل للدلالة على وطنية النظام عما يجعل إسرائيل تقصف بعض مواقعه أحياناً بينما لا تقصف مراكز المعارضة؟
قصة البشير مع المعارضة كانت قد بدأت قبل أكثر من عشر سنوات، على خلفية انضمامه آنذاك إلى “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”، وبقي من ناشطي الإعلان غداة اعتقال عدد كبير من زملائه. وفي الأشهر الأولى من الثورة اعتقله النظام، ليفرج عنه بعد بث تسجيل مهين له وهو قيد الاعتقال على القناة ذاتها التي تحدث إلى مراسلها الأسبوع الماضي، بحيث كرر ما قاله في التسجيل الأول المهين، طوعاً هذه المرة.
تتزامن عودة البشير مع ما يسميه ناشطون سوريون “موسم العودة إلى حضن الوطن”، وتعبير حضن الوطن هنا للسخرية من النظام الذي يستخدمه، مع توقعات بعودة شخصيات أخرى مع التسوية التي ترعاها موسكو. لكن السخرية التي تقلل من شأن عودة هؤلاء ليست معياراً نقدياً، وتكاد تختصر الأمر بالجانب الأخلاقي مُختزلة إياهم إلى انتهازيين على المستوى الشخصي، ومختزلة مواقفهم بركوب موجة الثورة عندما بدت رابحة ومغادرتها إذ تبدو خاسرة.
نواف البشير، على سبيل المثال، كان قد شكّل جيشاً احتُسب ذات يوم على فصائل الجيش الحر، ولا يُسجّل لجيشه ذاك سوى مهاجمة مناطق ذات غالبية كردية وارتكاب انتهاكات في حق الأهالي، ما منح شرعية شعبية لميليشيات كردية تعمل بالتنسيق مع النظام، وفعلت كل ما بوسعها لإجهاض ثورة الأكراد ضده. ولو أوتي البشير من الدعم ما أوتي به أحد شيوخ العشائر الآخرين لربما تسلم منصباً مؤثراً جداً في مؤسسات المعارضة، الأمر الذي حصل مع “أحمد عاصي الجربا”، وهو كما نعلم تسلم رئاسة ائتلاف المعارضة مدة سنة، محمولاً على دعم الكتلة الديمقراطية فيه! قبل أن يغادر الائتلاف وينشئ حزبه الخاص بأهداف مغايرة جداً للتي كان يمثّلها بحكم موقعه السابق.
نظرياً قد تتسع الثورة للجميع، أما أمر تمثيلها فشأن مختلف، ولا يجوز أن يعتلي صدارة التمثيل السياسي أشخاص يستمدون مكانتهم مما قبل السياسة. ومن دون النيل مما هو شخصي لا يمكن الزعم بأن شيوخ العشائر السوريين لامسوا السياسة سوى من بوابة العلاقة التقليدية مع السلطة. ذلك ينطبق على شيوخ العشائر، مثلما ينطبق على شيوخ الدين والطوائف، ولا ينسى كثيرون من السوريين تولية رئاسة ائتلاف المعارضة أولاً لرجل دين، وصف حينها بالاعتدال، وكأن الاعتدال الديني مؤهل كافٍ للعمل في السياسة، ولا ينسى كثيرون من السوريين أن الشيخ المذكور قد أعلن أنه “بيّت استخارة” وهو مقدم على قرار مهم حينها؛ أيضاً السخرية من موضوع الاستخارة وقتها على وسائل التواصل الاجتماعي غير كافية لترميم الصورة التي قدمها عن مؤسسة تنال إعترافاً دولياً كممثل عن الثورة.
كان حافظ الأسد منذ بدء انقلابه، ومنذ تعيين أول مجلس شعب في عهده، قد بدأ نسج شبكة مصالح مع شيوخ العشائر، ومع شيوخ الطوائف، فضلاً عن طبقة رجال الدين السنة. وكان ذلك يُفهم على نطاق واسع بأنه إنعاش للروابط العصبية دون الوطنية، ويمكن القول بأنه حقق نجاحاً باهراً ظهرت آثاره بالانقسام المجتمعي الذي رافق بداية الثورة وما يزال مستمراً.
في فيلم عمر أميرالاي” الحياة اليومية لقرية سورية” عام 1974، وهو فيلم تسجيلي، يلتقي بضابط بعثي يشغل منصب “مدير ناحية” في المنطقة الشرقية ويسأله عن العشائرية، يجيب الضابط البعثي بأن حزبه ضد العشائرية، لكنه يميز بين عشائرية سلبية وأخرى إيجابية! في الأولى تقتتل العشائر وتثأر من بعضها، وفي الثانية “تتنافس” العشائر في حب الوطن وفعل العطاء.
الطريف أن أطروحات فكرية رافقت تشكيل ما سمّي “لجان إحياء المجتمع المدني”، التي كانت بمثابة نواة لإعلان دمشق اللاحق، تنص على تمكن النظام من إجهاض مؤسسات المجتمع المدني السورية، بخلاف تنظيمات “المجتمع الأهلي”، وكان ثمة تيار يدعو إلى الاستثمار في التجمعات الأهلية القائمة كبديل عن المجتمع المدني المتوخى. ولم يتم الانتباه وقتها، أو لاحقاً، إلى أن النظام سبق الجميع بأربعين عاماً على هذا الصعيد، وأنه يملك من مفاتيح القوة والتهديد ما يجعله أكثر فاعلية، فضلاً عن أن تلك التجمعات الأهلية لا بد أن تجد مصلحتها معه أكثر بكثير من المصلحة مع تغيير جذري يهدد سلطتها. في الواقع، كان التشتت المناطقي، الذي ارتبط خاصة بتجربة عسكرة الثورة، دليلاً إضافياً على نجاح النظام في تغريب السوريين عن بعضهم، وأيضاً في إنعاش كافة الروابط دون الوطنية. اتخاذ ذلك التشتت حجة على عدم طائفية السنة تحديداً يتجاهل نجاح النظام، ويستلهم الصراع الشيعي السني في المنطقة أكثر مما يجيب على العجز عن تغليب الرابطة الوطنية التي يستهدفها النظام.
آخر ما يمكن الاستفادة منه في مناسبة عودة البشير وأمثاله استرجاع ذلك التناقض بين أقوالهم مع إعادة تموضعهم، فهم أول من يدركه ولا يبالي به، ولا يفيد أيضاً التلويح بالعامل الأخلاقي لأن من يقرر الاصطفاف مع نظام قتل مئات الآلاف لا ينظر إلى الأمور بمعيار الأخلاق. ربما يتحقق بعض الجدوى بعودتهم إلى النظام إذا أدت إلى نقمة لدى أبناء العشيرة، وأدى ذلك إلى تخلخل الرابط الذي تمثله المشيخة. هذا يتطلب أيضاً مشروعاً وطنياً ناشئاً قادراً على استيعاب صعاليك العشائر والطوائف من كل صوب، مشروعاً يعيد التأكيد على الحقوق التي نادت بها الثورة بوصفها حقوق أفراد في المقام الأول، قبل أن تتقدم الجماعات الطائفية والعرقية لتجهز عليها، سواءً الجماعات التي كانت منذ البداية في صف النظام، أو تلك التي وقفت ضده إلى حين.
المدن