صفحات الرأي

عودة خطاب الخطابات/ محمد الأسعد

 

 

منذ أن طرح صاموئيل هنتنغتون (1927 – 2008) نظريته الموصوفة في “صدام الحضارات” (محاضرة له في عام 1992، طوّرها في كتاب حمل عنوان “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام الدولي” في عام 1996)، وحتى الزمن الراهن؛ اتخذ لبّ هذه النظرية وملخّصه “أن هويات البشر الثقافية والدينية ستكون المصدر الرئيس للصدام في عالم ما بعد الحرب الباردة”، شكّل أداة تحليل في يد من يطلق عليهم صنّاع الرأي العام.

وحتى في الوطن العربي، شهدت هذه النظرية إقبالاً كادت تتحول معه إلى “عقيدة دينية”، يأخذ بها مهرّجون من كل حدب وصوب؛ بحيث يخيل لأي مراقب محايد أن هذه النظرية صنعت خصّيصاً لثقافة مغفلين من طراز المغفلين العرب.

إذ تحت تأثير أفكار هنتنغتون سحب الماركسي والقومي ورجل الدين والليبرالي من التداول كل أدوات التحليل القائمة على الاقتصاد والاجتماع البشريين (وهي أدوات التحليل الحقيقية منذ أيام ابن خلدون)، وانكبوا على خرافة أن أسباب الصدام والصراع تكمن في اختلاف الثقافات والديانات وألوان جلود الناس، وربما في اختلاف مقاسات أحذيتهم.

حين يهيمن خطابٌ من هذا النوع، بل ومن أي نوع آخر، ويصبح مصدر كل الخطابات الفرعية في كل مناحي الحياة، يُطلق عليه اسم “خطاب الخطابات”، ويصبح الحكم على شرعية أي خطاب أو معناه معلقاً بالشروط التي حدّدها أصحاب خطاب الخطابات، فمن يعود إلى العلم والعقل ويقول بأن استخدام أدوات الدين والمذهب والعرق لفهم نتائج توحش النظم الرأسمالية وحروبها وكوارثها هو تضليل وخداع، يُطرد فوراً من عالم الفكر والسياسة والوظائف و”العقل” وينبذ في أحسن الأحوال.

المذهل بشأن “خطاب الخطابات” هذا وأدوات تحليله المصنعة لتكون شبه خرز ملوّن بين أيدي قردة، أن صاحبه الأول هو الأميركي بازل ماثيس في كتاب عن “الإسلام اليافع” بوصفه دراسة في “صدام الحضارات” الصادر عام 1926! ثم أعاد له الحياة المستشرق ورجل المخابرات برنارد لويس عام 1990 في مقالة له في مجلة أتلانتك، إلى أن نضجت الأجواء كما يبدو لوضعه موضع الاستخدام على يد هنتنغتون عام 1992، في وقت كانت فيه الرأسمالية قد بدأت عصراً من التوحش احتاجت فيه كما هي عادتها إلى خطاب مضلل من هذا النوع.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى