صفحات الرأي

عود على بدء/ دلال البزري

 الثورة السورية باتت تُعرف بعلمِها العائد إلى ما قبل “الثورة” البعثية؛ انه الخط الأخضر الواقع أعلى العلم والنجوم الحمراء، بدل الأحمر في الأعلى والنجوم الخضراء في العلم النظامي. بل يذهب “الجهاديون” أبعد من ذلك في الزمن، فيرفعون ما يعتقدونه انه علم الرسول عند فتحه لمكة، العائد إلى ما قبل الإمبراطوريات الثلاث، الأموية والعباسية والعثمانية، إلى ما قبل عصرنا بطبيعة الحال. والعلم هذا ليس سوى تغيير بسيط في مكونات الصراع، الذي تحول إلى مذاهب وأعراق وإثنيات تتصارع في ما بينها على الهيمنة، أو الإنتصار… فغابت عن هذا الصراع صورة المواطن والدولة والمؤسسة وكل حيثياتهم. يمكن ان تهز رأسك، وتقول بأن الأمر طبيعي، نظراً لتاريخ بلاد الشام، التي لم تعرف لا أمة ولا دولة قبل أن يملي عليها المستعمر أن تكونهما. أو أن تتابع، مثل الكثيرين من كارهي الإستعمار الغربي، بأن بلاد الشام الجديدة هذه محت الحدود التي فرضها المستعمرون، والتي عرفت خطوطها باتفاقية سايكس-بيكو المشؤومة؛ وقد تلتها بعد ذلك، إمعانا في إخضاع المنطقة بتقسيمها، الصهيونية التي ضربت خاصرة بلاد الشام الجنوبية بتأسيس إسرائيل. يمكن البناء على هذه الحجة الكثير… ولكن لا يمكن إلا الموافقة على ان بلاد الشام هذه، باستعادتها رموز وانقسامات ما قبل دولها “الحديثة”، ألما بعد استقلالية، لا تفعل غير العودة إلى نفسها.

وبلاد الشام الآن ليست استثناء؛ الثورة المصرية تمشي على خطاها في مرحلتها الإنتقالية. مصر أيضاً عادت الى عصر ما قبل تأسيس دولتها الحديثة؛ ليس بعلمها الذي بقي على ما كان عليه، ولا في اسمها، وقد بقيت “جمهورية” و”عربية”؛ إنما في المناخ والرموز، وفي السيناريوهات التي أوجدتها عملية الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي. هذا الأخير طمح إلى العودة لعصر الخلافة، ولكن إسقاطه على يد العسكر أنزل على مصر روح عصر الضباط الأحرار الذي أتى ومعه الإستقلال عن الإستعمار البريطاني. لا حاجة بنا الى تكرار كل الأوصاف الناصرية العائدة. يكفي لنا مثل وواقعة منسجمة معه: الأول ان المنافس غير الجدي الوحيد للمرشح “الناصري” عبد الفتاح السيسي، هو مرشح ناصري آخر، حمدين صباحي. أما السيناريوهات المحتملة في حال الفوز الأكيد للسيسي بالرئاسة، فهي كلها تدور حول طريقة تصرفه بالإرث الناصري: هل يسير في طريق عبد الناصر؟ أم يتكيف سلبياً، مع الظاهرة الناصرية؟ أم يتكيف إيجابياً معها؟ (تساؤلات الكاتب المصري صلاح سالم).

أما الواقعة، فهي الحرب المفتوحة التي يخوضها الرئيس المقبل الأكيد ضد “الإخوان المسلمين”. ضعْ جانباً حجج الإرهاب والسياقات المعاصرة لها. فالحرب على الإخوان تستمد كل مشروعيتها التاريخية من هذا الإرث الناصري بالذات. ألم يكن عبد الناصر يلاحق “الإخوان”، يسجنهم، يصدر أحكام إعدام بالـ”أخطر” من بينهم؟

كأن الإرث الناصري هو رموز وإيحاءات ومناخات… لا سياق وتجربة وميدان. وكأن حسني مبارك وأنور السادات لم يمرا من هنا. كأن الإرث الثقيل للـ”دولة العميقة”، والعائد إلى عصر محمد علي، وقبله الفراعنة، لم يأخذ من هذه “الدولة” شيئاً، لم يعطها غير التسلط.

فاذا قلنا ان الشوام عادوا، بعد الثورات الى طبيعتهم الما قبل استقلالية، منقسمين الى عصبيات متنوعة، فان المصريين عادوا الى ما كانوا عليه منذ ستين عاماً، على طبائع السياسة والمناخات والمقولات التي كانت سائدة وقتها. طبعا لا النقطة التي عاد إليها الشوام تخاطب العصر، إلا بما يخدم أصحاب المشاريع الخائضين في غمارها، ولا المصريين عادوا إلى عبد الناصر، بل شبّه لهم.

ولكن السؤال يبقى: لماذا؟ لماذا تكون الثورة طريقاً الى ماض محدد؟ لماذا يعود السوريون والمصريون، فضلاً عن الليبيين واليمنيين، الى أزمنة الخلف، فيما الثورة هي وثبة الى الأمام؟ ما الذي يجمع بين هذه الثورات، غير انها عربية؟ الجواب في اندفاعات الثورة، في مبررها ووجودها: من أن الزمن الذي مرّ على منطقتنا منذ استقلالها وحتى الآن، لم يعرف لا بناء دولة ولا قانون ولا مؤسسات. هو زمن لعب على واجهة الدولة والقانون والمؤسسات. لعب فقط. وكانت لعبة طويلة مملة نسجت من أوهام وأكاذيب وقمع. فكانت سلطات لا دول أو قوانين أو مؤسسات.

تخرج الشعوب الثائرة من العصر الذي سبقها وكأنها كانت موضوعة في ثلاجة درجة حرارتها أربعين تحت الصفر؛ بقيت على ما كانت عليه يوم تجليدها، وعندما التهمتها النار الثورية ذاب هذا الثلج، ليطلع علينا ذاك الذي بقي كما كان منذ نصف قرن، أو قبله بكثير، عندما كان يصفنا المستشرقون الأشرار بأننا لا نحسن حكم أنفسنا؛ منظرين بذلك، بشكل علمي لا ريب فيه، لإستعمار بلادنا والتحكم بمصائرنا… والشبه كبير، بين الأمس واليوم، وإن كان أبطال الاستعمار القدماء قد تطعموا باستعمارات من نوع جديد.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى