صفحات الثقافةعزيز تبسي

عين على السفينة …عين على الأمواج العاتيات كذلك

 

عزيز تبسي

تنتشل (مي عبد القادر الحافظ)تجربتها من ظلمة الأقبية ومجاهل سراديب أفرع المخابرات،تصنفها وتصففها على الورق،كأنها عروس تفرد جهازها وهداياها،وهي بعض من جروحها وآلامها العميقة،لتتهيأ للقاء المرتجى بالحرية،مكتفية بسرد نقيضها والسخرية منه.لا تملك في هذه المحنة سوى التذكر والكتابة،بما يشمله هذا الفعل من قوة تحرر ذاتي،بالقدرة على إسترداد التجربة ومعاينتها ونقدها.

يبقى السجن،كمحطة خارج الزمن المتدفق أو المتعثر في الخارج،مكاناً مناسباً لإستعادة الزمن الضائع،بما يشمله من صراع وجودي مع سكونيته وتبدده،وهو صراع في عمقه صراع ضد الإلغاء، والتحويل القسري إلى الرقم الأصم،الذي يؤخذ بدلالة الزنزانة والمهجع،أو سمة من لون الثياب،حين ينادى على السجين”صاحب القميص الأصفر”أو “صاحب الشعر المنفوش”،كتابة هي رد على ثقافة المستودع،بعد أن يُخطف الناس من بيوتهم وأماكن عملهم وأمسيات أصدقائهم وصباحاهم،ويرمون هناك ليتكدسوا كصناديق وأكياس وحوائج لا يفطن إليها إلا حين إستدعائها للتحقيق أو النقل إلى فرع تحقيق آخر،أو الرمي النهائي في السجن،حيث تنتحب الحياة في أكبر مدفن بشري تنتجه الأنظمة الفاشية في بلاد الشام،لتخنق به أنفاس الحياة الصاعدة كدخان من جمرات الأنفاس المحروقة.

تأخذ الكتابة والتذكر موقع الفعل الإعتراضي على الإلغاء والتدجين والسحق،والإحتجاج على الهرس تحت النعل العسكري الثقيل الذي يلغي الخصوصية الحنونة،المؤتلفة مع كينونتها.لست رقماً،لست صاحب القميص الأصفر والشعر المنفوش….أنا لي أهل وعائلة وأصدقاء.لست نكرة،لي،أو،بالأحرى كان لي، قبل تأتوا بي إلى هنا، طفولة ويفاعة وشباب وحياة عريضة وأحلام تتوسع كل يوم.

التحقيق والزنازنين الضيقة والسفح اليومي لمياه الكرامة الآدمية،وسحبها برعونة إلى بلاليع الصرف الفاشي.هي إذاً ملاحم صغيرة،حين نقارنها بالفتوحات الحربية والمعارك العسكرية وتسلق الإنقلابيون شجرة الحكم إلى الأبد،تأخذ شرطها من اللاتكافؤ الحاسم بين القوة الفيزيائية التي يحملها الجسد في عضلاته وأعصابه وجدارة أعضاؤه بالنجاة من الإمتحان القهري،وبين آلة معدة بمزيج من تقنيات الحداثة النازية وبهائمية أنظمة القمع ودساكر المحميات الإمبريالية،التي تستحسن إرتداء القفطان الوطني والتحجب بعمامته،للسحق وإستخلاص أكاسير الألم.”لم يكن يعرف هول المعاناة في الفروع،إنها ليست سجناً بقدر ماهي إستباحة للنفس البشرية،لم يكن يعرف الإذلال الذي يتعرض له السجين في الفرع ليثبت إنسانيته”ص164.

أجهزة اختصت التنقيب في المنجم الإنساني وسبر أغواره،لا لإكتشاف أسرار جماله وروعته التي صنعتها ونقحتها الطبيعية عبر ملايين السنين،بل للوصول إلى أبشع طريقة في سحقه وتدميره وإحتقاره.ليستمتع الجلادون وهم عينهم القتلة في لحظات أخرى حين يرون هذا الكائن الذي إنتخبته الطبيعة وعطرته بمجد أطيابها منهاراً،عارياً،متوسلاً،يهذي بالشفاعة من ذنب لم يرتكبه ويطلب الصفح،لأنه خط بأصابع مختلجة،على جدار الليل الفاشي الكتيم،كلمات الرجاء،متوسلاً بها مخرجاً شعبياً لإختناق تاريخي،لا يكاد ينبلج حتى يهمزه الليل على خاصرتيه،ويضمه إلى عباءته السوداء،ويستمتع الفاشيون حين تصلهم الوشايات من أعوانهم،أن سجناءهم يقضون أوقاتهم المديدة في الحمام،يزيلون بالماء والصابون آثار التهم التي رموهم بها في غرف التحقيق.

أسست (مي الحافظ)حكايتها على البنية العميقة للهوية فلسطين-المخيم،عبر الجغرافيا الهامشية لمخيم النيرب في حلب،وهو بقايا ثكنة للجيش الفرنسي،الذي إستخدم في قسم منها إصطبلات لخيوله وقسم لتخزين معداته الحربية وحوائجه،هنا يجري إعداد المكان على عجل ليستوعب الفلسطينيين المهجرين من قضاء عكا.والعائلات المنتزعة من أرزاقها،والتي لم تعد تملك سوى قوة عملها،تقايضها بالعيش،وتكافح لإنتزاع مكان للحياة لها ولأطفالها .ولكنها لا تريد إختزال فلسطين إلى بساتين ليمون وبرتقال.تصنع هوية، هي مزيج من الآمال والذكريات والحنين والأرض التي سرقت عام1948 ووسعت منهوباتها1967، والقضية التي تبقى ثابتة بتغير زاويا النظر إليها،والتحرر حين يتوسع مداه على الشعوب المضطهدة وآمالها الواحدة.

من الأسرة الصغيرة وطموح كبيرها إعتماد التعليم وسيلة للتغلب على مصاعب الحياة وظروفها المتجددة،لتتجاوزها بدأب وصبر،إلى أزقة المخيم ومدرسته والتنقل خارجه،إلى الجامعة والأصدقاء وحركة فتح والتفكير بالعمل الثوري بأمثولة الشهيدة دلال المغربي…ونلمس أنه ليس قدر للقدمين التعثر في حفر الشوارع المعتمة،بل هو قدر حركات سياسية وشعوب لا تنفك عنها حبال الإضطهاد والقهر وحركة التاريخ برمتها كذلك،لا شئ يسير بما يتمناه الأطفال الموعودين بحفنات من السكاكر والعودة إلى الوطن كخاتمة لرحلة ربيعية مبهجة.

تستقوي بالماضي،بما يشكله من عودة إنتقائية حنونة إلى دفء الأسرة والأب الرائق والأخوة الذين واللواتي يزنرون الحياة بنطاق من طمأنينة،على الحاضر المعاش في المطاردة والأقبية والمحققين والسجناء المتعددي الإنتماءات والولاءات،الكرماء والبخلاء،الطيبون والشريرون،القبحاء والجميلون،والحياة هنا تفارق مصائر تلك النبتة البرية المتحايلة على شروطها القسرية والمتغلبة عليها،لترمى برعونة كخرقة مبللة بالدم والصديد والدموع تحت الأقدام العارية المسلوخة بالعصي والكرابيج.

لكن تبقى البنت-الأنثى المستقوى عليها بأخلاق يلوكها ضباط مخابرات”كعلكة القرباط”،في مشهد خانق،حين يستدعيها المحقق مطمشة إلى غرفته،ويطالبها جلوس القرفصاء،لتواجهها ثلاث أصوات متباينة تنهال عليها وفق هدف واحد،تحطيمها نفسياً والنيل من كرامتها”إخترتم أوكار التخفي لتمارسوا الإباحية”وترد عليهم”لكنكم إعتقلتوني من بيتي ومن بين أهلي وإخوتي”….ويتمدد الحديث بهدف واحد تثبيت الإهانات وسحق الآدمية، ليأمرها الضابط بعده بالوقوف ورفع الطميشة عن عينيها والإستدارة للخلف،لترى مالم تتوقع رؤيته إلا بعد خروجها من هنا،والدها ومربيها ومثالها الأعلى جالساً ودموعه تترقرق في عينيه،وكان قد تابع الإستجواب من أوله.

كما الجراحون حين يحولون الجثة بين مشارطهم إلى مادة تعليمية،لسبر مجاهيل الكائن الحي الذي كانته،تجد( مي الحافظ)فرصة الإنفكاك النسبي عن التجربة،بعد أخذ مسافة كافية لرصدها وتأملها والتخفف من سحرها وجاذبيتها،لتقدم نقداً لها:

“الرفيق الذي إنهار وتسبب بإعتقال معظم الرفاق والرفيقات كان يعتبر قبل إعتقاله نجم الحزب”ص98.

النقد هو حصيلة وعي بالتجربة والإحاطة بشروطها،وعيش التجربة لايحقق بمفرده ذلك،قد يقدم المادة الأولية للنقد لا النقد ذاته،إحالة تفسير تحطم تجربة سياسية إلى موضوعة مخالفات تنظيمية،فيه الكثير من التبسيطية،التنظيمات الحديدية من خارج المثال الذي نتابعه،لم تعفها من التصفية التنظيمية وهي تخوض مواجهة غير متكافئة،اليسار الألماني في مواجهة النازية/الجمهوريين في مواجهة الملكيين في إسبانيا/….الموضوعة ليست في إحالتها إلى علوم وتقنيات الإدارة التنظيمية،التنظيم السياسي ليس غاية في ذاته،إنه أداة تساعد في تحقيق المشروع السياسي جزئياً أو كلياً،وربما في شروط معينة تعيق ذاك المشروع الثوري وتتحول إلى عامل رجعي-محافظ.هل هي مصادفة،أنه لم ينجح أي تنظيم في مواجهة الفاشية المحلية،ومعظمها أوصله الصراع إلى النتيجة ذاتها،التصفية التنظيمية الجزئية أو الكلية،أو الشلل التام،وهي بعمومها تنظيمات لم تنقصها الكفاحية العالية والتضحيات العظيمة.

وتبحث كذلك في متسع وقتها،عن فرصة أخرى للنقد،وهي ترى اليسار التائه،يسارها الذي تتمناه قوياً معافى،يتعقب أثر طريقه في سراب جديد،يسعف به جرحه التاريخي بضماد من خفيف الكلام ليواجه به،مهمة تاريخية ثقيلة.

“منذ العشرينات من القرن الماضي،بدأ تاريخ الأحزاب اليسارية،واليوم تتذكر تلك المعارضة شعار إحياء المجتمع المدني والأهلي؟رغم صحة تلك الذكرى.لكن هل المجتمع المدني ظاهرة جديدة؟أم أنه في عداد المنسيات عن ذهنية ما يعرف بقوى المعارضة؟أم أنه موضة وتقليعة عملنا السياسي؟؟؟”ص81

حلب تشرين الثاني 2012

لم ننتهي بعد

قبل إرسال هذا المقال للنشر،تصاعدت الأنباء من مخيم اليرموك،إتصلت بمي للإطمئنان عليها وعلى من هم/هن حولها،أجابتني بصوت متقطع،هو عينه صوت سيزيف يندفع خلف صخرته التي لا تكف عن الإنزلاق إلى الحضيض:أنا في الشارع بعد إنذار الجيش بضرورة إخلاء المخيم قبل السادسة صباحاً،معي حقيبتي وبطانية،وأبحث عن سيارة أجرة تنقلني إلى بيت صديقة مازال عندها مكاناً واسعاً لإستقبالي،سأحدثك فيما بعد.من السماعة وصلني صوت الرصاص والقنابل وغاب صوتها في الملحمة، حيث تصنع الحرية لا من الخزف هذه المرة، بل من البازلت المعجون رغماً عنه بالدم.

*رواية-عينك على السفينة-مي عبد القادر الحافظ-2006 إصدار خاص.

حلب كانون الأول2012.

\خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى