صفحات الثقافة

عَلَم ..ـ علمان ..ـ أعلام!


جمال سعيد ()

-1-

لعلي قرأت أو تخيلت أو رأيت يوماً سجيناً بقضية غريبة، ولنسمها تجاوزاً: “قضية العلم”

قال السجين الذي تلفع بعلم فاخر، انتزعه من بين ساريتين أعدتا خصيصاً لكي يربط عليهما، فبدا كصليب منذور للهواء والغبار: “هل خلق القماش ليلعب به الهواء أم ليستر أجسادنا؟ كيف سيفهم سيادته أن البرد وحده هو الذي دفعني لأخذ القماش المشدود على صدر الريح…هذا علم كما قالوا لي، ما المشكلة في أن أدفئه ويدفئني …كلانا نعاني البرد! يقول هؤلاء الرجال الذين يجلسون وراء طاولاتهم “كلاماً كبيراً” عن إهانة رمز الأمة ورمز كرامتها … وعن المؤامرة التي دفعتني لنزع العلم المربوط بين عمودين …البرد سبب كل علة كما يقولون، ولكن كيف سيفهمها سيادته؟” وفي سياق دفاعه عن نفسه قال الرجل: “ألم يتم الاحتفال بحضور الرجل المخيف دون هذا العلم؟ وهل كان الرجل سيقول شيئاً آخر، قال ما يريد وصفق الناس كعادتهم، فلم كل هذا الاستياء؟” وعندما اتهم بتحقير رئيس البلاد في المحكمة، وهي تهمة وصفها صحفي معتمد :” أشد خطورة، تثبت بما لا يقبل الجدل أن هذا المتآمر الدنيء، إنما هو أداة لتنفيذ المؤامرة التي تحاك ضد الأمة منذ زمن بعيد” أما السجين فقد قال: “هل يعتبر وصف سيادته بأنه رجل إهانة؟” ثم خاطب السماء قائلاً:” لماذا خلقت البرد يا إلهي؟ ألم تر ما الذي فعله؟”

-2-

أثناء حرب غزة تجمع بعض الشباب ورسموا العلم الأميركي باستخدام قطعة قماش بيضاء، وبخاخات ملونة، ثم أقاموا طقساً لإحراق العلم بعد رسمه، وترافق ذلك مع هتافات معادية للإمبريالية. في المرة الأولى لفت الطقس انتباه أحد المارة وتحدث عن أسلافنا الذين كانوا يرسمون الطريدة المصابة بسهامهم قبل الخروج إلى الصيد، وعندما تكرر الأمر مراراً أرسل لهم رسالة مفادها: العلم الذي تحرقونه لا يفيء بظله الرئيس أو الإدارة الأميريكية بل الشعب الأميركي برمته، فهل أنتم على عداء مع هذا الشعب؟ وهل تعتقدون أن تحرير الأرض العربية يتم بعد النسخة الثالثة والسبعين بعد الألف؟ ألم تكن “راشيل كوري” تضع هذا العلم على صدرها عندما جرفتها الجرافة الاسرائيلية؟ أم أنكم تدارون عجزكم فتطرحون على أنفسكم المهمات السهلة؟ هل تعملون ما من شأنه أن يتيح لكم تحرير أنفسكم من القيود التي لا تتيح لكم التنفس إلا بمشيئة الحاكم الذي تسبحون باسمه، وهل يتيح لكم الحاكم فرصة محاربة العدو؟ اتهم الأبطال، الذين كرروا حرق العلم الأميركي مراراً، صاحب الرسالة بأنه متحالف مع الإمبريالية. ولم يجن الرجل من الحلف المزعوم غير الشتائم والملاحقة والإهانة، في حين زادت أرصدة ممولي حرق العلم في بنوك الإمبريالية على سبيل محاربتها وبلا هوادة! وحين تظاهر الناس ضد الجور والاستبداد، لم يعدموا من يصرخ في وجه تظاهراتهم: نحن أحرقنا العلم الأميركي، ما الذي فعلتموه أنتم؟ … التظاهر حق لأعداء الإمبريالية فقط، إنما في الزمان والمكان المناسبين”

-3-

لم يبدل التونسيون والمصريون واليمنيون أعلام بلدانهم، بل أطاحوا بالرؤساء “التاريخيين”، كخطوة أولى لمشروع إقامة دول المواطنة. لعل الليبيون كانوا على حق في تبديل العلم المصمت الأخضر في إطار تجاوزهم لمشروع “الحكم الأخضر المستمر” لملك ملوك أفريقيا ..ثائر الخيمة والصحراء الذي “لا يتمتع بأي منصب” حسب تصريحه، هو قائد الثورة فحسب! العلم الليبي الجديد أغنى بالألوان والرموز من المستطيل الأخضر الذي سبقه، ولكنه بدأ حياته الجديدة أو انبعث كراية “حرب” كلفت ليبيا عدداً من القتلى يتبدل تبعاً لموقف الراوي، ولكنه لا يزيد في كل الأحوال عن عدد أولئك الذين كانت تتأهب جحافل القذافي التي تعصب رؤوسها بالراية الخضراء، لإبادتهم في بنغازي!

-4-

في رواية أورويل الشهيرة يستطيع “الأخ الأكبر ” أن يخفي ما يسميه “حقيقة” بما يملكه من أدوات، لإخفاء الحقائق وتصنيع الحقائق الجديدة والبديلة، كما اختفت أعلام قطر و”شكراً قطر” من منطقة من لبنان، وكما اختفت صور سياحية من تركيا تملأ اللوحات الإعلانية الضخمة الموزعة في سوريا وتوحدها عبارة “تركيا جنة الله على الأرض”، وكما اختفى “اتحاد الجمهوريات العربية” وعلمه عن ساريات دول الاتحاد المذكور دون أن يحل رسمياً.

-5-

تعرف السوريون على العلم الكردي في السنة الأخيرة، ووصفته طفلة عربية بالقول ” علم حلو ولكن رسمه صعب! إذا حولوا الشمس التي بقلبه إلى دائرة بلا مسننات سيكون رسمه أسهل!” ورغم أن السلطة في السنة الأخيرة صنعت نسخاً طويلة للغاية من العلم السوري، وشكل المتظاهرون العلم بأجسادهم في ساحة العاصي، صار السوريون يحملون علمين علم الاستقلال الذي بقي “يرفرف” على سواري الأعلام حتى مجيء عبد الناصر كحاكم لسوريا، والعلم المعتمد في الدستور الرسمي “يتم احترام المادة المتعلقة بالعلم والتي نص عليها الدستور من قبل السلطات المعنية”. العلم الرسمي المرفوع على سواري الدوائر الرسمية وفي المسيرات المؤيدة هو علم الحقبة الناصرية نفسه، أو علم الجمهورية العربية المتحدة، الذي فاء بظله على سوريا منذ أيام عبد الناصر، “حمل جمال عبد الناصر ألقاباً عديدة مثل “زعيم الأمة” و”الزعيم الأسمر” و”الزعيم الخالد و”رائد القومية العربية وبطل السلام العالمي!” ووعد بتحرير كامل التراب الفلسطيني، ودك قلب تل أبيب بصواريخ القاهر والظافر والناصر. وتحت ظلال علم الوحدة تم حل الأحزاب السياسية والبرلمان وتعطيل الحياة السياسية في سوريا! وتحت ظلاله، “وبعد الانفصال” احتل الصهاينة سيناء!

في شوارع سوريا الآن علمان سوريان وأعلام أخرى. واهتمام شعبي ونخبوي بالأعلام لم تشهده سوريا منذ زمن بعيد. ففي الفضائيات وعلى الأرض يتلفع السوريون بأحد العلمين وكأنه وشاح أو شال، ويحيطون معاصمهم به، ويعلقونه على ياقات ستراتهم، ويرسمونه على الجدران ويعطونه شكل حمامة أو طير جارح إلخ … إلخ.

علم سوري بنجمتين خضراوين وآخر بثلاث نجوم حمراء. تتشارك الألوان نفسها في صياغة كل منهما وفي حين يدل أحدهما على الاستقلال عن الفرنسيين، إذ كان بديلاً لعلم الانتداب الذي يحتل العلم الفرنسي زاوية منه، ويدل على دستور 1951 الذي عاشت في ظله جمهورية أتاحت للأحزاب القومية والشيوعية وغيرها فرصة نشاط سياسي علني وحظيت بالتمثيل في البرلمان الذي حاسب مرة الرئيس شكري بك القوتلي لأن زوجته استخدمت سيارة حكومية للتنزه في الغوطة مع صويحباتها، وحدد ذلك الدستور صلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في سورية، وحد من صلاحيات مقام الرئاسة، ووسع صلاحيات رئاسة مجلس الوزراء بالمقارنة مع آخر نسخة من الدستور السوري. يدل الثاني على حلم الوحدة العربية، الذي وعدت الأحزاب القومية بتحقيقه، ويذكر بدولة الوحدة التي تلفعت بنصرة “فلسطين.. قضية العرب الأولى” ووعدت بتحقيق حلم عربي (كلنا يعرف ما الذي تحقق منه) والتي أعادت رسم القرار السياسي بما هو صلاحية القائد الخالد “عبد الناصر” وهو قرار يتعلق بجوهره كما رسمه الإعلام بالتصدي للمؤامرة الاستعمارية، التي تطورت لتصبح “المؤامرة الإمبريالية الشرسة” وهو العلم الذي اقترن بصورة الحاكم على مداخل المؤسسات الرسمية برمتها، وتطبع عليه حالياً صورة الرئيس السوري لدى استخدامه في مسيرات التأييد.

ويرفع في مسيرات التأييد أعلام أخرى منها راية صفراء “لا تمثل رسمياً أي دولة” رسم عليها بندقية باللون الأخضر وغالباً ما ترافقها صورة رجل ملتح يضع عمامة سوداء ويبتسم للمصور، وعلم روسيا وعلم الصين. أما مظاهرات المعارضة فقد شهدت علم تركيا وعلم قطر وأكثر من شعار لأكثر من قناة إخبارية! وفي حين اتهم الإعلام الرسمي المعارضة برفع علم إسرائيل نفت المعارضة الأمر بحدة. وبقيت إسرائيل العدو المحتل لأرض سورية في نظر كل السوريين، وبقي علمها بمثابة جذام أو طاعون سياسي يقتل من يقترب منه!

-6-

قال الرجل الذي سجن لأنه تلفع بالعلم بعد أن خرج من السجن: “الأعلام قماش، ولكنها ليست أي قماش! اسألوني أنا!”، وقال الرجل المدمن على متابعة الأخبار: العلم آخر همي، ولي أن أقول: العلم الذي يفيء الرعايا في دولة الرعايا أقرب إلى الإكسسوار، أما العلم الذي يظلل المواطنين فهو رمز مهما كانت ألوانه وتشكيلاته. ثم ختم بالقول: طبعاً أتمنى أن يكون علم المواطنة جميلاً وموضع احترام وإعجاب الناس جميعاً، ثم رمى رأسه على راحة يده.. وغفا!

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى