غازات النظام وأقنعة الثوار
زهير قصيباتي
إن كانت براغماتية الغرب تعادل حماية مصالحه، ولو اقتضت نفاقاً في مقاربة أوضاع العرب في حقبة «الربيع العربي» ومآسيه وارتداداته العنيفة على ضحايا الاستبداد، فإيران لا تتلكأ ايضاً في سباق المصالح، والاجتهاد في ديبلوماسية صياد الفرص والقضايا العربية، لإعلاء انتهازية لا تتبدَّل منذ إعلان «الجمهورية الإسلامية»، على أنقاض حكم شاه القمع.
وإذ يدشّن الرئيس الإيراني المنتخب حسن روحاني عهده بفتح ذراعيه للنظام السوري، ويؤازره لكي يواجها معاً «المؤامرات»، تصرّ طهران على أولوية إلقاء المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد، السلاح لفتح طريق الحل… تطلب إذاً استسلامهم قبل الحوار!
لا شيء يتبدّل في طهران البراغماتية، لا أصولية الممانعة ولا رعاية حلفها، ولا شيء تبدّل في أصولية المكيافيللية الغربية التي شجّعت المعارضين للأسد على خوض معركة إسقاطه حتى النهاية، ثم تركتهم تحت فضاء البراميل المتفجّرة. وقد يبقى سقوط خمسة آلاف قتيل سوري كل شهر، ثمناً أقل لدى الغرب من انتصارات «جبهة النصرة»، أو تحكّمها بالصراع في سورية وعليها، أو إعلان دويلة لـ «القاعدة»، وما على الأمم المتحدة سوى المثابرة على نداءات الاستغاثة باسم شعب ما زال تحت سيف الإبادة.
وإن واجهت «أصولية» المصالح لدى الغرب صفعةً ما، فهي مجرد صفعة عابرة ولو في ثوب فضيحة. خبِرها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون أمس، بعد ساعات على أوامر عاجلة بتأمين أقنعة للثوار في سورية، لتقيهم غازات النظام السامة. أما الصدمة المعيبة ففي تقرير للبرلمان البريطاني كشف بيع لندن دولاً بينها سورية خلال سنوات ماضية، مواد تصلح لتصنيع سلاح كيماوي.
وبين غازات النظام وبراميله المتفجرة، وشبح مخططات «النصرة» و «القاعدة» وأخواتهما، وإخلاص إيران في الاستماتة دفاعاً عن «الشرعية» في دمشق المتأبطة شر «المؤامرات»… يتفرّج العالم ومعهم العرب على محرقة العرب.
أي أصولية أبشع من إبادة شعب دفاعاً عن «نظام علماني»؟! وهل يمكن زواج الجمهورية الإسلامية في إيران وعلمانية «البعث» السوري، إلا أن يلد دولاً فاشلة ومعاقة، إن لم ينجِب دويلات، أبطالها قراصنة الإتجار بالدين، وإباحة القتل، بـ «فتاوى» كفر؟
يكتمل إذاً حلف الأصوليات والكفر بحرمة النفس والدم وبحقوق كل إنسان. لكنه ليس كل مشهد «الربيع»، ففي زوايا أخرى على خريطة الثورات العربية، ينهض استبداد جديد، برماح المنتفضين على عهود الديكتاتورية. يغلق رجال ميليشيات وزارة الداخلية الليبية كأنها دكان لأصحاب السطوة في حقبة ما بعد الزعيم الأوحد، يحتل مسلّحون حقلاً نفطياً ليبياً، يغدو ملكَهم حتى تلبية مطالبهم، وتتحول الحقوق إلى إتاوة.
ومن الديموقراطية على طريقة فلتان المسلحين حول أسوار الشرعية في طرابلس الغرب، إلى ديموقراطية ياسمين ذبُلت سريعاً بفضل «حكمة» حزب حركة النهضة، وترويع نصف المجتمع بتحجيم حقوق المرأة، وترويع صروح العلم باسم الشريعة.
بشرعية المنتصرين على الديكتاتورية في «ربيع» الاستئثار، نحن المستبدين الجدد، نعطي الحقوق ونحجبها، نوزّع الدول ومؤسساتها حصصاً، فتتحول الأوطان غنائم حرب. نفصّل الدساتير على مقاس الأحزاب، وعرّابها من كان سبّاقاً الى احتضان الثورة… فخطفها وسرق الدولة. من يقف ضدنا عميل، ولو كان شعباً.
شعب «عميل»؟ ليس في التاريخ مثل هذه الأعجوبة. إنها ثمرة زواج الأصولية و «العلمانية» الممانعة في منطقة العرب. وأما نحن، المستبدين الجدد، فلا بأس أن نكون «عملاء» طوعاً، كلما اقتضت حسابات حزبنا أو جماعتنا أن نكون في بيدر الأجنبي. حتى إذا افترقت مصالح الراعي عنا، احتمينا بشعار الشريعة.
ولنا في درس «الإخوان» عِبرة: «عودة مرسي الى القصر أولاً، وبعدها نرضي كل الأطراف»، قالها قيادي في الجماعة… فخطأها الذي اكتشفته أنها لم توزع «كعكة» مصر، ولو بالنزر اليسير على «جبهة الإنقاذ»، في الوقت المناسب، لإنقاذ «شرعية الرئيس»!
هكذا يبدو القصر إدارة لتعاونيات حزبية لا لإدارة أكبر دولة عربية. وفيما يحوّل رجال الميليشيات في ليبيا المحررة، الوزارات دكاكين يمسكون بمفاتيحها، تصر تيارات الإسلام السياسي في تونس على دستور يؤسس لمشروع ثورة.
نحن المستبدين الجدد، لن نقمَع إلا بسيف الحرية، فهي لكي تكون كذلك لا بد أن تعوّضنا ما تكبدته شعوب على مدى عقود القمع. وأما أن نتفرّج على المحرقة بأيدي «الأصولية العلمانية»، فلا بأس أن ينهمك كل «منتصرٍ» بساحته، وأن يصدق البسطاء خرافة النزاع السنّي- الشيعي، والسنّي- العلوي، والإسلامي- المسيحي. هي مجرد أداة تتقلب أدوارها، في فصول المحرقة الكبرى.
أما زلنا نجهل أبطال الاستبداد والإبادة؟… لكلٍّ جماعته.
الحياة