غبريال غارثيا ماركيز مشتغلاً في مهنة المتاعب
رلى راشد
“نام والداي قريري العيون ما إن قيل لهما ان العامل في الصحافة يكسب ما يكفي ليؤمّن عيشه الكريم. بينما لم يكفني راتبي الشهري كمتدرّب، في واقع الحال، أكثر من أسبوع”. ها هنا صوت غبريال غارثيا ماركيز يقصّ من موقعه الصحافي فترة اشتغاله في مهنة المتاعب بين العوز المادي واعتناق هيئة الصحافيين المتثائبة عندما تصير المثابرة على تدخين السيجار تلو الآخر وجعل الأقدام تستريح على الطاولة، شيئا من الطقس الإجباري. لكن ذلك برمته لم يثنه عن تحرير النصوص البديعة كأنها تمارين صغيرة على الجداريات الروائية العظيمة اللاحقة، تستعيدها انطولوجيا “غابو الصحافي” الصادرة أخيرا.
لم يأتِ الكاتب الكولومبي الى الصحافة بدافع من الحاجة أو المصادفة، وإنما في حركة إرادية، كما يروي في مقابلة مع “راديو هافانا” في 1976. أكد آنذاك أن الصحافة تعلّق مبكر ووحيد ولا غنى عنه، كأن الأدب جاء امتدادا لها. والحال ان تكريم غارثيا ماركيز بنوبل للآداب في 1982 شمل دوره الصحافي والكتابيّ في آن واحد ولم يبخل خطاب الأكاديمية الأسوجية في استوكهولم في امتداح “صحافي ناشط جدا وخصب جاءت نصوصه ابتكارية ومستفزّة أحياناً ولم ترتضِ بالتيمات السياسية فقط”.
في الثالثة والعشرين ترك غارثيا ماركيز دراسة الحقوق، ليلتحق بمطبوعات محدودة الإنتشار حيث تودد الى مضمار لم يكن يعرف عنه الكثير. كتب في “ايل اونيفرسال دي كاراتاخينا” بين عامي 1948 و1949 وبدءا من 1950 في “ايل ايرالدو دي بارانكييا” حيث التزم الإيقاع اليومي واكتشف نبض الشارع وإلحاح الالتصاق بالحياة خصوصا.
تصدر انطولوجيا “غابو الصحافي” لدى “مؤسسة الصحافة الجديدة الإيبرو-أميركانية” (أف ان بي اي) بالقشتالية في كولومبيا والمكسيك أولا، لتتوالى طبعاتها لاحقا في بلدان سواها بين 2013 و2014. اختار محتوى المقالات كتّاب ومعلّقون مدعوون بينما تناول نص لجيرالد مارتن (صاحب سيرة “غبريال غارثيا ماركيز، حياة”) تجربة اكاتب الكولومبي من معيار تقويمي. هذا ما فعلته أيضا أسماء بارزة أخرى من أوروبا والأميركتين، من مثل انطونيو مونيوث مولينا من إسبانيا وجون لي اندرسون من الولايات المتحدة الأميركية وخوسيه سالغار من كولومبيا وآخرين. ليس ما يوقّعه “غابو” (لقبه الأثير) من نصوص صحافية في المختارات، تجارب عادية حيث يسطو اليومي على اللغة لتأتي المحصلة كلاماً مألوفا. إنها المدخل الى أدب يستوعب المعيش بل ويتنفسه ويتّخذ شكل التعليقات والتقارير والعواميد والخبر، وقد جاءت الى فلكه التأليفي لتمكث.
تعرّف القراء إلى جوانب عدة من عمل غارثيا ماركيز الصحافي، من طريق سلسلة تقارير بأسلوب قصصي نشرت في 1955 في “ايل اسبيكتادور” عنوانها “قصة غرق” حيث روى حكاية بحّار بإسم لويس أليخاندرو فيلاسكو اعتقل عشرة أيام في بحر الكاريبي، من دون مأكل أو مشرب. دخلوا عالم الإتجار بالمخدرات أيضا حيث العنف عملة رائجة، في نص “حكاية اعتقال”. لكن الجزء الأكبر الباقي من منجزه، وهو كناية عن مئات المقالات والتعليقات والمقالات بدءا من 1948 عندما بدأ مراسلة صحيفة “ايل اونيفرسال دي كاراتاخينا”، فلم يتمتع بالاعتراف المستحق. تكرّس غارثيا ماركيز صحافيا ذائع الصيت في كولومبيا غير انه لم يتسنَّ لسوى حفنة من القراء وفي معظمهم من الكتّاب والباحثين، الإطلاع على مقالاته المبكرة. يتبدّى هذا النسق من التغافل خطأ جسيما، لأن المرور بهذه الصفحات يعيدنا الى شخصية ضاعت الى اليوم. تسهّل المختارات بلوغ أفضل نصوص الكاتب الكولومبي الصحافية وتضعها في مكانها المناسب: على صلة وشيجة بأحسن رواياته وقصصه القصيرة وحكاياته. شكّلت هذه النصوص منبت لغته وخياله الفسيح وفكاهته الماهرة، وحرّكها فضول مستفيض وتنوّع في التيمات صار نادرا راهنا.
مشى غارثيا ماركيز من الصحافة الى الأدب. في دفع منها غادر بلاده ووصل الى القارة القديمة أوروبا مراسلاً، ليتنقل بعدذاك الى فنزويلا وكوبا في مطلع الثورة الكوبية، فإلى اميركا اللاتينية قبل أن يقصد نيويورك صحبة أسرته حيث اشتغل في مكتب وكالة “الصحافة اللاتينية” التي أطلقها النظام الكوبي الحديث. عند ابتعاده من الصحافة وجد الشجاعة ليجتاز الحدود الأميركية في اتجاه الجنوب ويستقر في المكسيك حيث يأخذ فترة سماح من الصحافة لأعوام ينجز خلالها روايته المرجعية “مئة عام من الوحدة”. لكنه تحبّب الى الصحافة مجددا في التزام سياسي لا لبس فيه واندفاع لافت، فوقّع كمّا من المقالات وأنشأ مجلتي “الترناتيفا” و”كامبيو” في كولومبيا.
في “غابو الصحافي” نتابع سيرة الصحافي غارثيا ماركيز في أدق دقائقها. نلاحق المراسل والمعلّق وكاتب العمود والمراسل الدولي والمحرر في صحف أجنبية. في مقالاته كما في تعليقاته، في الأعوام الاولى في الاقل، سخّر غارثيا ماركيز جلّ ما اكتشفه في قراءاته الأدبية، ليبلور لغة خاصة ويطوّر موضوعات محتملة. نقرأ في أسلوبه وبين السطور، اطلاعه على فولكنر وولف وبروست وكابوت وبورخيس وكافكا وسواهم. بينما تدلنا تجربته الفتية في “ايل ايرالدو دي بارانكييا” الى أسرة بوندييا وشخصيات أخرى ستسكن أدبه، والى أصول أفكار محددة أفاض في التطرق إليها في “مئة عام من العزلة”، ناهيك باهتمامه بالثقافة الشعبية في منطقة الكاريبي.
في سيرته الذاتية “عِشتُ لأرويها” يذكر غارثيا ماركيز احدى عشرة مرة رئيس تحرير صحيفة “ايل اسبيكتادور” خوسيه سالغار. في حين لا يتسنى لسالغار نسيان صحافي شاب ابن عامل التلغراف وفد الى مكتبه في 1953 تكلله هالة أدبية. صحّح نصوص المتدرّب بالقلم الأحمر، من دون أن يعي أنه سيقطف بعد 29 عاما أرفع التكريمات الأدبية.
“ليس أفضل الصحافيين مَن يكتب الحدث أولا، وإنما من يكتبه على أفضل نحو”: تلك وصية الصحافي غارثيا ماركيز في عصر وسائل التواصل الإجتماعي ونهَم الأسبقيّة.
النهار