غرافيتي الإنتفاضات” لهاني نعيم: الفنّ الشارعي يخوض ثوراته
روجيه عوطة
لم تقف الجدران على الحياد مع اندلاع الثورات العربية، بل شرعت فراغها للمنتفضين في الشارع، الذين أسقطوا عنها تهمة إخفائها “آذان الحاكم”، وجعلوها إلى دفتر لعيون الناس. فقد عبرت التحركات الشارعية عن لغتها الخاصة بأساليب فنية مختلفة، ولاسيما الفن البصري، الذي مارسه المنتفضون في الشارع، والميدان، وعلى شاشة الحاسوب. وبما أن السلطة هندست الفضاء العام وثبتت الجدران المقصية إلى أطرافه، كان من الضروري إسترداده من خلال اجتياز بواباته، والنفاذ إلى الهوامش الجدارية كي تشارك في الثورة ضد متون الإستبداد.
يوثّق هاني نعيم في “غرافيتي الإنتفاضات، رحلة إلى كواليس لغة الشارع”، الصادر عن “الدار العربية للعلوم. ناشرون”، ولادة لغة الشارع البصرية، وتبدلاتها في المجتمعات الثائرة، معتمداً على شهادات وصور، حصل عليها بالتواصل مع الكثير من الناشطين والفنانين. يؤرخ لمعارك الفن الشارعي والمواجهات التي يخوضها ضد السلطات المنتشرة داخل الفضاء المجتمعي، محاولاً الإلمام بالعلاقة التي تجمع بين الغرافيتي والمدن المنتفضة. لا يقتصر كتابه على مدينة واحدة، بل ينتقل من بلد إلى آخر، لرصد الحرب الفنية، وجولات الغرافيتي، التي تخترق الزمن العام، فتفتح عيون الأفراد، التي أغلقتها السرعة المدينية، وتتحوّل من وسيلة فيزيولوجية، لا قيمة شارعية لها، إلى عضو بصري، يحدق في الجدران، ويغوص في صفحاتها الفنية.
النتيجة الأولى للعصيان الشارعي كانت فك إسم الطاغية عن الفضاء العام، بحيث لم تعد الأماكن مقترنة بشخصه وصفاته. فعندما انتفضت المناطق السورية، حطمت العلاقة الإسمية بين الديكتاتور والبلد، إذ انفرطت “سوريا الأسد”، وأصبحت قرى ومدناً وأحياء، في مقدمتها كفرنبل، التي مثلت لاوعي الثورة السورية، وكان للافتاتها وشعاراتها البصرية قيمة خلاّقة. وبسبب انفصال الأمكنة عن مركزية المستبد، تحوّلت ميادين للتظاهرات والممارسات العصيانية الأخرى. وهذا ما شهده ميدان التحرير في القاهرة، الذي عايش الحدث اللاسلطوي في مصر، وأصبح على إثره وسطاً فنياً، خصوصاً أن جدران مدينته انشقت عن النظام وصوره، وساهمت في حض المجتمع على مناهضة الديكتاتور وطرده من الحكم.
إلا أن الفن البصري ليس طارئاً على المجتمع المصري، إذ يشير نعيم إلى تاريخ الرسم الفرعوني، وطقوسه الدينية والإجتماعية، ما جعل التجربة الغرافيتية المصرية تتقدم على باقي التجارب الشرق أوسطية، ولاسيما أن الدلالة المحلية في الفن الشارعي لا تزال شبه ثابتة، إذ تنطوي على معاني الفرح والسخرية، التي ميّزت الغرافيتي الميداني. ويُضاف إلى الوعي البصري التاريخي، انحلال اللغة الشفهية، وفقدانها قدرة التعبير عن قمع السلطات المختلفة. والحال، أن الإنتفاضات أخرجت الدلالات المكبوتة في اللغة، وغيّرتها إلى صور ورسوم، تنقذ عيون المارة من أغباش الصورة الرسمية، وخدعها البصرية. فمثلما حوّل النظام المواطنين إلى أرقام “قومية”، صيّر رسومهم الذاتية إلى رسم واحد، رأسه، أي القائد، دائم الحضور في كل مكان.
من العبارات التي انفكت عن المكبوت الكلامي، تسمية “البقرة الضاحكة”La Vache qui rit ، التي أطلقها المجتمع المصري على الرئيس. فكان الأفراد يتناقلون هذه العبارة كاستعارة عن الديكتاتور، ويعلّقون عليها شفهياً. ويوم اندلعت ثورتهم، انتقلت التسمية من الفضاء الصوتي إلى الفضاء البصري، فرسم أحد الغرافيتيين البقرة الضاحكة وشعار الحزب الوطني الحاكم، وكان وجه مبارك يتوسط الرسم. وبعد سقوط الطاغية، ظهرت صور ورسوم جديدة، ترفض الحكم العسكري، وتحتج على التحالف الظلامي بين الجيش والإسلاميين. كما استعاد الفنانون عبارة “إرحل” الثورية، وكتبوها على الجدران، كرسالة أولى من الشعب إلى المجلس العسكري. يبيّن الكاتب أن صورة جمال عبد النصر غابت عن هذه الحملات الغرافيتية، ما يعني أنها خارج اللاوعي البصري، والخطاب المجتمعي المكبوت. تالياً، لن تُترجم إلى رسم أو عبارة جدارية.
بأسلوب سردي تأريخي، يعبر نعيم من بلد إلى آخر، محدداً تقلبات الغرافيتي، وتغيّراتها في الفضاءات العامة، التي تشابكت في السياق الثوري، وخلقت وعياً بصرياً، كان قد حضر في كل المدن، المنتفضة أو المشجعة على الإنتفاضة. فقد صمم ناشطان، واحد في بيروت وآخر في القاهرة، رسماً غرافيتياً، يتضمن عبارة “ملك الغابة راكب دبابة”، إلى جانبها صورة هتلرية لبشار الأسد. انتشر هذا الرسم على جدران بيروت، والقاهرة، ثم انتقل إلى غزة الفلسطينية، قبل أن يصل إلى جدة السعودية، ويجتاز حدود الشرق الأوسط، ويُطبع على جدارٍ في برلين الأوروبية. كانت حملة “ملك الغابة راكب دبابة” عابرة للحدود والهويات، فاتحدت الشوارع ضد طاغية دمشق، وتضامنت مع الثورة السورية بصرياً.
في رحتله إلى كواليس اللغة الشارعية، لا يحصر نعيم معركة الغرافيتي بمواجهة النظام السياسي فحسب، بل يخصص قسماً من كتابه عن السلطة التجارية التي تستثمر الفنون الجدارية، وتزيحها عن غاياتها التحررية. فقد أصبح الغرافيتي سلعة إعلانية، معرضةً للتتجير على يد الشركات الباحثة عن المستهلكين. في بيروت مثلاُ، طبعت شركة “أديداس” رسماً غرافيتياً في أحد أزقة شارع الحمراء. وفي القاهرة، استخدمت شركة “بيبسي أند كو” الفن الشارعي من أجل الترويج لمنتاجاتها. رأى الكثيرون من الفنانين أن السلطات تهدد الغرافيتي، ولاسيما أنه فن مضاد للسيستام القائم في المجتمع. لهذا السبب، كانت أثمان إنتشاره على الجدران باهظة، فـ”رجل البخاخ” في سوريا، قتلته الميليشيات النظامية، وتعرض عدد كبير من الفنانين المجهولين للإعتقال والتعذيب في المدن المنتفضة. إذ باشرت السلطة حربها ضد اللاوعي البصري، بعدما خسرت الجدران وآذانها. لكن، من المؤكد أن العيون التي حدقت في وجه الطاغية، فاضحةً إياه، لن تُقتلع حتى لو أغلقت على مجزرة، وأن لغة الناس الجديدة لن تهدأ، حتى لو أصبح لآذان الديكتاتور جدران خاصة بها.
النهار