صفحات الرأي

غرامشي وخيانة الرفاق/ دلال البزري

 

أنطونيو غرامشي (1891-1937)، السكرتير العام للحزب الشيوعي الإيطالي، قبل أن يمضى آخر أيامه في السجون الفاشية، حيث كتب “دفاتر السجن”، هو مرجع الشيوعيين النقديين الخلاقين؛ وهذا الكتاب غذى فكراً متنوع المجالات، يتراوح بين فكر اليسار واليسار المتطرف، وبين الفكر الأكاديمي في الجامعات الأنغلو ساكسونية، التي خصصت له كرسي “الدراسات الثقافية”، و”الدراسات حول التهميش”. و”دفاتر السجن” كان طموحه تجديد الفكر الشيوعي الأوروبي وقتها، عبر المسّ بواحدة من العقائد الشيوعية الثابتة: فكرة ان الإقتصاد أو النشاط الإقتصادي للفرد أو الجماعات يحدّد مصير أصحابه بصورة نهائية. غرامشي أراد أن يعدّل من أثر العامل الإقتصادي على المصائر المجتمعة، بأن أعطى للعاملين الثقافي والأيديولوجي حصة في رسم خطوط هذه المصائر؛ وكانت هذه المحاولة ترمي الى رسم “طريق إيطاليا إلى الشيوعية”.

قبل وفاته، طلب غرامشي من المقربين منه بأن يقوموا بطباعة دفاتره بطريقة معينة تحترم كل مضمونها وتفاصيلها. سلم هذه الدفاتر لزوجته، ولكنه كان يخشى بأن تقع بين أيادي بالميرو توغلياتي (1893-1964)، الذي كان سيرث دوره في قيادة الحزب الشيوعي الإيطالي فور وفاته؛ ذلك ان توغلياتي ستاليني متشدد، يذعن لكافة التعليمات الصادرة عن الكومنيترن” (الأممية الشيوعية، وقتها، بقيادة الأخ الأكبر، ستالين). حامت شكوك شيوعية قليلة حول دوره اللاحق في انتزاع هذه الدفاتر من أيادي زوجة غرامشي، ملاحظات من هنا، مقالات شبه محجوبة من هناك… ولكن هذه الشكوك لم تبلغ ولا مرة حدود الريبة الصريحة المدعمة بنهج صارم في البحث عن صحتها. هذا ما حصل مؤخراً مع المؤرخ الإيطالي فرانكو لوبيبارو، الذي أصدر كتاباً عنوانه “سجنا غرامشي الإثنين”، يدعم فيه فكرة التلاعب بـ”دفاتر السجن”، من قبل توغلياتي، ويكشف عن العلاقة المريبة التي قامت بين غرامشي وقيادة حزبه، الإيطالية منها والسوفياتية. كان غرامشي يعلم، ومن سجنه، انه مراقَب من المخابرات الإيطالية والسوفياتية، وكان يكتب في رسائله المشفرة إلى زوجة أخيه وإلى صديقه العالم الإقتصادي بييرو سفرا، بأن استمرار بقائه في السجن هو من عمل رفاقه، وغرضهم إبقاءه “خارج اللعبة”. من هنا عنوان الكتاب “سجنا غرامشي الاثنين”، أي السجن الفاشي، الملموس، والسجن الرفاق الشيوعيين، الخفي. وفي تمحيص دقيق للدفاتر وللرسائل المشفرة، يطرح المؤرخ فرضية قوية عن إمكانية أن يكون واحد من دفاتر السجن الثلاثة والثلاثين قد إختفى، وان تدخلاً مباشراً في نصوص الدفاتر قد حصل.

إذن، مفكر وقائد شيوعي، تتبدل نظرته إلى عقيدته نفسها وهو في سجن أعدائه، يفكّر ويكتب من خارج الخط المقدس لهذا الحزب، يقضي في السجن، تتلاعب القيادة اللاحقة لهذا الحزب بحريته وبمحتويات ما كتب خلال إقامته في السجن… ومع ذلك تنجح بعض مفاهيمه في النفاذ إلى أجيال وبلدان وثقافات متنوعة… تكريم استثنائي لمفكر كان ضحية قدره.

لكن قصة غرامشي المثيرة هذه تدفع، من جهة أخرى، إلى توسيع مجالات التفكير بموضوع كتابة التاريخ: معروف ومكرر حتى الثمالة ان المنتصر يكتب التاريخ. ودائماً ما يكون المنتصر هذا هو الحاكم المطلق، الذي يسود على العباد والبلاد. ولكن، تحت سقف هذا المنتصر، هناك منتصرون صغاراً، هم عادة مناهضون له، وخاسرون السلطة المطلقة، ولكنهم في معسكرهم منتصرون على خصومهم الداخليين، أي انهم ما زالوا يقفون على رأس المناهضين لسلطتهم الداخلية المطلقة، وهم الذين يكتبون تاريخهم وتاريخ معسكرهم. هذا ما حصل مع بالميرو توغلياتي، إذ انه حفاظاً على موقعه، على قداسة “خطه”، أي على بركة ستالين، صاحب القرار الشيوعي، كان المطلوب منه، ليس أن يتجسس على رفيقه، ويطيل أمد سجنه حتى موته، فحسب، إنما أيضاً أن يزوِّر دفاتره، أن يكتب تاريخاً آخر، غير التاريخ الذي رآه غريمه ومنافسه في الحزب.

اليوم، وفي تفاصيل الحياة الحزبية الشيوعية، خذ مثلاً حياً: ماهر الحجار، “المرشح” الشيوعي السوري ضد بشار الأسد في الإنتخابات الرئاسية المقبلة: ماذا يمكن أن يقول، أن يكتب حول تاريخ الشيوعيين السوريين؟ كيف سيصنّف الأخيار منهم والأشرار؟ هل سيسحب، أثناء الحملة الإنتخابية، وربما بعدها أيضاً، “الوثائق التاريخية” التي تؤكد تاريخ التلاحم المشترك بين الحزبين البعثي والشيوعي في فلسطين والجولان والتنمية والحريات…؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى