“غزوة باريس” تستعجل “الثورة الدينية”؟/ جورج سمعان
الإرهاب الذي ضرب باريس قبل أيام لم يكن مفاجئاً. الصدمة في الضحايا – الهدف. وكان الهدف إقفال هذا الصوت الساخر للمجلة «شارلي ايبدو». نجح المهاجمون ولم ينجحوا. تماماً كما هي حال الحرب الدائرة بلا توقف في مواجهة حركات التطرف منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. نجحوا في تصفية «اعمدة» المجلة، لكنهم استنهضوا العالم دفاعاً عن حرية الرأي، في تظاهرة أمس. ما حصل في العاصمة الفرنسية مشابه لما حدث من قبل في عدد كبير من العواصم طوال عقد ونيف. مسرح العمليات مفتوح على امتداد القارات. ومفتوح للمشاهدين في كل أنحاء المعمورة. أولاً بفضل انتشار هذه الحركات. وثانياً بفضل تكنولوجيا الاتصال الحديثة المتوافرة في كل زاوية وجيب. وهكذا كانت «الغزوة» الأخيرة التي تابعها العالم في شوارع العاصمة الفرنسية فصلاً آخر من تلك الفصول التي بدأت في نيويورك وواشنطن وحتى قبلهما، ثم تكررت في إسبانيا وبريطانيا وأماكن أخرى من أفريقيا إلى بالي في إندونيسيا. وكانت فصلاً من حرب ستطول وتتشعب، ما دام التكفيريون ينهلون من أزمات بلدانهم وسياسات نظمها من جهة، ومن سياسات الآخر الغربي وما تتركه من تداعيات وتطرحه من تحديات من جهة ثانية.
جريمة باريس تؤكد مجدداً أن الحرب «الكونية» على الإرهاب التي أطلقتها الولايات المتحدة بعد «غزوتي» نيويورك وواشنطن لم تصل إلى نهاياتها في حصار حركات التطرف والقضاء عليها ومنع تمددها وانتشارها. حققت نجاحات في مناطق وأخفقت في أخرى. لكن إخفاقها الكبير كان ولا يزال أنها لا تتمتع بقواعد واسعة في بلاد المسلمين. لــــو تحقق لها هذا لكان على الغرب أن يحسب ألف حساب. ولو قدر لها أن تستولي على الحكم في بلد هنا وبلد هناك لكان على العالم أن يستعد لصراعات دينية وحضارية واسعة. لو كانــــت تتمتع بحواضن حقيـــقية، أو بمجتمعات كاملة، لما كانت هذه الحـــروب التــــي يشهدها العالم اليوم تدور بمعظمها في بلاد العرب والمسلمين، قبل أن تكون حدثاً إجرامياً في هذه العاصمة الغربية أو تلك. تدور بين المتشددين المتطرفين وأولئك المعتدلين الرافضين لهم ولأفكارهم وفتاواهم وإيديولوجيتهم وعنفهم. لو توافرت لهم قاعدة واسعة وسط بليون ونصف بليون مسلم ماذا كان سيحل بالسـلم والاستـقرار الدوليين؟
لكن هذه الصورة لا تخفي ما كان عليه العالم العربي ولا يزال من تخلف عن مواكبة متطلبات الحداثة وثورة التكنولوجيا والعولمة بكل تجلياتها، على رغم استثناءات هنا وهناك. لم يشهد العرب التغييرات التي شهدتها أوروبا الوسطى أو الشرقية ووسط آسيا وأميركا اللاتينية بعد انهيار الحرب الباردة الذي تزامن وهذا التقدم العلمي الهائل. ولا حاجة إلى الحديث عن أرقام الأمية في وسط 340 مليون عربي. وبقدر ما شكلت أحداث 11 سبتمبر صدمة للغرب، شكلت هزة كبيرة للحكومات والمجتمعات العربية. ويمكن القول إن الحرب على الإرهاب حققت في العقد الماضي بعض النجاحات. في أفغانستان التي لا تزال تكافح إلى اليوم. وفي العراق حيث قضي على «دولة الزرقاوي». وفي شمال أفريقيا حيث لم تستطع «قاعدة المغرب» من تنفيذ برامجها وأهدافها. وفي شبه الجزيرة العربية سرعان ما طوقت المملكة العربية السعودية وفككت مجموعات لم يتسن لها إكمال برنامجها في هز الاستقرار. كان هدف «القاعدة» ضرب الاستقرار في طول العالم العربي وعرضه وتقويض النظم القائمة ودفعها إلى صدام مع الغرب. حصل خلاف ذلك. لم تكتف دول عربية كثيرة بانخراطها في مواجهة التطرف. تقدمت نحو إصلاحات في برامج التعليم وتحديث كثير من القوانين والبنى من أجل إقفال البؤر والبيئات التي توفر ساحة لنمو أفكار التكفير والتطرف. وقدمت دول أخرى نفسها عصا طويلة وغليظة في مكافحة الإرهاب من دون أن تتخلى عن العنف والسجن والطرد والاضطهاد. أعفت نفسها من إعادة الحياة السياسية وما ينشأ في كنفها من قوى وحريات وديناميات تؤسس لعدالة ومساواة ومكافحة الفساد… وتعامت عن الإصلاح. وسياسة كهذه وفرت أرضية صالحة لقيام حركات الجهاد والتطرف واستمرارها.
هكذا ظلت موجة الإصلاح الخجولة في العالم العربي قاصرة ودون ما أمل به جيل الشباب الذي يشكل الغالبية في المجتمعات العربية. ظل التغيير خجولاً. وحتى الآمال التي أوقدها «الربيع العربي» سرعان ما خبت وحملت خيبات جديدة. ولا شك في أن أحداث السنوات الأربع الأخيرة وتداعياتها وفرت أجواء وفرصاً لإعادة بعث الروح في الحركات التكفيرية. في شمال أفريقيا تبخر ما حققته الحرب على هذه الحركات. تفكك الدولة الليبية بعد سقوط معمر القذافي، وفترة الاضطراب التي رافقت وترافق المرحلة الانتقالية في تونس، عززتا حضور «الجهاديين» والتكفيريين» في المنطقة وفي دول الصحراء ووفرتا لهم السلاح على أنواعه. وهذا ما دفع فرنسا إلى التدخل في مالي لإعادة الأوضاع إلى نصابها، بعدما شارف هذا البلد على السقوط في أيدي جماعات «القاعدة» وأخواتها. وهذا ما يدفع بعض الأصوات العربية والأوروبية إلى المطالبة بالتدخل الخارجي في ليبيا التي تتحول قاعدة خطيرة لكل أنواع «القواعد». ومثل هذا حدث ويحدث في مصر. لم يجد «الإخوان» الذين رفضتهم «ثورة 30 يونيو» سوى التوكؤ على شرائح مهمشة في شبه جزيرة سيناء وغيرها تحولت سلاحاً في أيدي جهاديين من فلول حركات مصرية قديمة، ومن قطاع غزة والشمال الأفريقي برمته.
إلى كل هذه الفوضى التي تعم أنحاء كثيرة في المشرق العربي، كان لقيام «الدولة الإسلامية» أثر كبير في تجديد الفكر التكفيري، أو إعادة بعث «قاعدة» جديدة أكثر عنفاً وتشدداً. وبالطبع كان للسياسة التي نهجتها واشنطن وطهران… ثم نوري المالكي في العراق أثر في تأليب السنّة وكثير من القوى التي شعرت بالاضطهاد. فغضت الطرف عن فلول «دولة الزرقاوي». ومدتها بشباب لم تفتح أمامهم أبواب للعمل والشعور تالياً بالحرية والعدالة والمساواة. ومثل هذا حصل في سورية حيث سياسة الظلم والقهر والتضييق وخنق الحريات والفساد ولدت هذا الجيش من الناقمين والمتطرفين الذين فاقم أعدادهم تلكؤ المجتمع الدولي عن تسوية أزمة حصدت حتى الآن ما يفوق مئتي ألف ضحية فضلاً عن تدمير بلاد بأكملها، وتهجير أكثر من نصف أهلها. وفاقمه أيضاً شعور المنتفضين بأن الغرب وحتى الأشقاء العرب تخلوا عنهم. وكان شعارهم ولا يزال «ما لنا غيرك يا الله»! مثل هذه الأوضاع تفتح الطريق واسعة أمام اليائسين لرفد «أبي بكر البغدادي» و»أبي محمد الجولاني» بالمدد اللازم.
أما اليمن، من حيث صدر «بطلا» الجريمة الأخيرة في باريس، فيقيم في فوضى لم تتوقف من عقدين. بل تفاقمت في السنوات الأخيرة وازدادت تدهوراً في الأشهر الماضية. لم تفلح حرب الطائرات الأميركية من دون طيار في تحجيم انتشار «القاعدة» في جنوب شبه الجزيرة العربية. بل إن الصراعات القبلية والجهوية والمذهبية على السلطة وفرت بيئة مواتية لنمو الإرهاب والفوضى. والتغيير الذي طاول رأس النظام، في ضوء المبادرة الخليجية والمباركة الدولية، لم يكتمل. وسقط اليمن في صراع آخر يهدد وحدته ومستقبله. الحركة الحوثية التي تتلقى دعم إيران تسيطر على مناطق الشمال والعاصمة. ودفع استيلاؤها على هذه المناطق خصومها القبليين والدينيين والسياسيين إلى التحالف مع «القاعدة» والمتشددين.
الجريمة الأخيرة ستحرك مشاعر شرائح واسعة من التيارات القومية المتعصبة في المجتمعات الغربية نحو مزيد من الكراهية للآخر المهاجر والوافد. ولكن يصعب تخيل اندلاع حرب أهلية في المدن والعواصم الغربية التي ستشهد عمليات إرهابية بين حين وآخر لا يغذيها الفكر التكفيري فحسب، بل هذا الكم من الحرمان والتهميش والبطالة التي يعيشها المهاجرون على أطراف العواصم والمدن الغربية. فضلاً عن موجة الاستياء التاريخية من السياسات الغربية حيال الشرق العربي وقضاياه. قد تلجأ أوروبا، كما فعلت أميركا بعد 11 سبتمبر، إلى إجراءات وقوانين مشددة تمس بعض الحريات خصوصاً في مجال التنقل والسفر. وربما رضخت لمطالبات القوميين في الحد من موجات المهاجرين على رغم الحاجة الماسة إلى مثل هذه الموجات لتجديد شباب القارة العجوز وضخ دماء في اقتصاداتها وتوفير عمالة فتية في آلتها الصناعية… أما الحروب فستظل هنا في العالم الإسلامي. فبعيداً عن الحرب في جنوب السودان بين «الإخوة الأعداء» وصراعهم على السلطة والنفوذ. وبعيداً عن الحرب في أوكرانيا بين روسيا الطامحة إلى استعادة مجدها التليد وأوروبا «الناتو». بعيداً عن هاتين الحربين تبقى لنا هنا الحروب كلها: من الصومال حيث «حركة الشباب». إلى نيجيريا حيث «بوكو حرام» تتطلع نحو الكاميرون والنيجر وتشاد. إلى ليبيا حيث «أنصار الشريعة» وعشرات المسميات لحركات تدور في فلك «القاعدة» و«داعش». إلى سيناء حيث «أنصار أو سرايا بيت المقدس». ومن اليمن حيث «قاعدة شبه الجزيرة»، إلى «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية و»جبهة النصرة» في سورية. فضلاً عن حروب «طالبان» التي لم تتوقف لا في أفغانستان ولا في باكستان. كلها حروب تعمق الفوضى والوحشية وتقدم ساحة واسعة لنمو التطرف. وتصدير «المجاهدين» إلى الغرب. وتقدم أجيالاً أخرى من الشباب المسلم يسقط بلا أهداف خصوصاً في أرض «الخلافة».
وإذا لم يكن هناك رابط تنظيمي واحد بين كل هذه الحركات، إلا أن ما يجمع بينها هو أيديولوجية دينية واحدة ومراجع فقهية تكاد تكون واحدة أو متشابهة في قراءتها أو تفسيراتها وفتواها الدينية. هذا الإنفلاش وعدم الارتباط بهيكلية واحدة يحولان دون احتواء هذه الحركات والقضاء عليها في حرب خاطفة وسريعة. وما دامت هذه تصدر عن أزمات وسياسات كثيرة في بلادنا وبلاد الآخرين ستظل الحرب تتشعب وتطول. وما دامت هذه تصدر عن فكر متشدد منحرف لا بد أولاً وأخيراً من «ثورة دينية للتخلص من أفكار ونصوص تم تقديسها على مدى قرون وباتت مصدر قلق للعالم كله»… كما طالب الرئيس عبد الفتاح السيسي العلماء في مصر. فهل حان وقت هذه الثورة؟
الحياة