غسان الجباعي عن «الثقافة والاستبداد»: ثقافة المستبد أم استبداد المثقف؟/ أحمد الحسين
يسعى كتاب غسّان الجباعي «الثقافة والاستبداد» إلى مناقشة مجموعة من المصطلحات، كثيرة الاستعمال، مثل الحرية والثقافة والمثقف والاستبداد والثورة، ليس بصفتها مصطلحات أكاديمية يريد أن يقدم فيها جديداً مفاهيمياً، بل يريد أن يسائلها في ضوء الحراك اليومي الذي تشهده الثقافة العربية في ظل المتغيرات الكثيرة، التي نجدها، نتيجة التحوّلات السياسية والاجتماعية والفكرية، التي كشفت عن تغيّر مركز القرار والسلطة. ويلفت الكتابُ النظر إلى عُرْف جارٍ يتمثل في أن الحديث عن المناسبات غالباً ما ارتبط بالوقوف على العلاقة الملتبسة بين النص الأدبي والمناسبة، ليدلّل على أن الكتاب السياسي والفكري قد يخضع لمثل هذا الاعتبار، فيظل سرعة ما يحدث عالمياً. غير أنَّ أثر المناسبة، وطريقة تأثيرها، قد يكون مختلفاً، بالنسبة إلى الكتب التي تتناول الأحداث الحارة.
إعادة نظر
يحاول الكاتب إعادة النظر في عدد من المصطلحات القارّة، موضّحاً أن شيوعها وكثرة استعمالها لا يعفي الباحث والمتلقي معاً من ضرورة التوقف عندها وتحديدها، فالثقافة «مفهوم متغيّر في ذاته، تفاعليّ وانقلابيّ في علاقته مع السلطات السياسية والمجتمعية المتخلفة» والمثقفون علامات ورموز تُعَرَّف بهم المجتمعات، وقسم منهم يصبح رمزاً لـ»جغرافيا، أو تاريخ، أو دولة». من هنا فإنَّ ذكر ألمانيا ارتبط بهيغل وبريخت، وفرنسا تذكر مع بلزاك وفولتير وسارتر، والحضارة العربية ترتبط بالمتنبي والجاحظ والفارابي وابن رشد وصولاً إلى جبران ومحمود درويش.
يناقش المؤلف تطوّر مفهوم المثقف مثلاً؛ حيث إنه «كلّ ماله علاقة بالجهد الذهني أو العقلي أو الفكري بمعزل عن العواطف والمشاعر والأحاسيس». ويصل إلى الحديث عن كيفية حضور مصطلح الإنتلجسنسيا بصفته دالاً على الأشخاص الذين يؤهِّلهم عملهم ليقوموا بأعمال ذهنية، وتصبح الثقافة مهنتهم واختصاصهم، وصولاً إلى المثقف العضوي عند غرامشي الذي أكَّد أن المسؤولية تقع على المثقف لتحقيق أهداف المجتمع وتطلعاته، وبذلك يختلف عن المثقف التقليدي الذي يكرّر نفسه، باعتبار الثقافة عملاً جماهيرياً نضالياً، وصولاً إلى فوكو، الذي رأى أنَّ المثقف هو من «يجسّد ضمير البشرية، ويحرك وعيها ويهدي المجتمع إلى الحقيقة، ويدافع عنها ويحميها ويبشّر بها».
مركزية التجربة السورية
يضع كتاب «الثقافة والاستبداد» الكثير من المصطلحات التي يناقشها محط اختبار أمام تجربة الثورة السورية، بصفتها تجربة معاشة وضعت المثقف والمسؤول معاً، والمواطن كذلك على محك الموقف، كأنها تقول له: لابدّ من رأي، حيث يضيء على تجربة الحراك السوري، ويقدّم لمحة تاريخية عن تاريخ الاستبداد في الخمسين سنة الأخيرة من تاريخ سوريا، ويرصد عدداً من القرارات المتعلقة بعسكرة المؤسسات وسلب قراراتها، إذ تحوَّلتْ «سلطة الأب القائد وأجهزته الأمنية والعسكرية وتحولت معه الثقافة السورية مثلها مثل كل شيء إلى طائر كريم مقصوص الجناح».
يفصّل الكاتب في الحديث عن مفهوم السلطة، وسلطات الانقلاب وسماتها من منع واستبداد وتقديس، ومايرافقها من قهر وتسلط، وصولاً إلى مفهوم الدولة وارتباطها بالتخلي عن الكثير من الشخصاني لصالح العام.
ولا يمكن مقاربة التجربة السورية دون الوصول إلى المثقف الملتزم والنخبوي والمقاوم والممانع والانتهازي، كونها مصطلحات مفصلية في الخطاب الذي أنتجته تلك التجربة، ويبسط المؤلف القول في الحديث عن مفهوم المثقف النخبوي والانتهازي، وكيف أن عدداً من السلطات المستبدة تريد صناعة مثقفيها، «أنصاف الموهوبين»، ليصل إلى مادعاه «المثقف الحقيقي»، حيث يحاول الكاتب أن يجيب على سؤال أوّلي: «هل يوجد مثقف حقيقي ومثقف مزيَّف؟»يجيب بثقة:»نعم، مثلما يوجد زيت حقيقي وزيت مغشوش، وأستاذ جامعة حقيقي وآخر مزيف حصل على شهادته بالواسطة». ويتابع دفاعه عن أطروحته بالقول: «المثقف الحقيقي هو الذي ينتمي وينتج الثقافة الحقيقية»، ليصل إلى المثقف الإنساني الذي يتسم بكونه داعية للإنسانية بمنظار وطنيته وخصوصيته الجغرافية والتاريخية والبيئويّة، فيحرص على تحقيق هويته وإثباتها بين حدّيْن متنافريْن هما: المغالاة والخصوصية، والعزلة والانفتاح.
السلطة والحرية
يبدأالكاتب حديثه عن هذين المفهومين بمقولة شهيرة لوزير نازيّ: «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسَّستُ مسدسي»، حيث يرصد عدداً كبيراً من صور العلاقات الإشكالية بين حالة الوعي والثقافة من جهة، والسلطة من جهة أخرى، مقراً بحتمية يصعب التسليم بها، تتمثل في «وجودية صراع السلطة والثقافة»، موضّحاً أن تزاوج رأس المال مع السلطة يولّد بالضرورة حالة من الفساد، تهتمّ بتكميم الأفواه، كي تحقق مشاريعها، وتهتمّ بالوقت نفسه بتسويق أسماء فارغة تحت مسمّى الثقافة، ليصل إلى دور المثقف، حيث يستشهد بمقولة لـ جيفارا: «المثقّف الذي يلوذ بالصمت أكثر خراباً من النظام الديكتاتوري القمعي، الذي يمارس القتل والعنف ضد أبناء شعبه». إنه يتحدَّث عن مثقف نهَّاز، وعن مثقَّف كبير، لكن مواقفه صغيرة أو خاطئة أو انتهازيّة، في محاولة لتوضيح صورة بعض المثقفين السوريين والعرب الذين لم يهتموا بالثورة السورية، أو سوّغوا للقاتل فعله، أو سوى ذلك.
«مادَخَلْنَا»: طريقة حياة
يرى المؤلف أنّ الحرية شرط أساسيّ وملزم، وأنَّ السلطات المتنوّعة عبر العصور، لا تختلف عن بعضها، إلّا من خلال علاقتها بالحرية، وهي تنقسم إلى سلطتيْن، سلطة تحافظ على حق الناس، وسلطة تحرمهم من هذا الحق. ويتحدَّث الكاتب عبر أكثر من موضع عن جماعة «ما دخلنا» التي علا صوتها مع اندلاع الثورة السورية، موضحاً أنها الجماعة الأكثر ضرراً وتسويغاً للحاكم، ويرى أنَّ هناك مصيراً مشتركاً بين الحرية ووجود الإنسان، الذي إنْ فقد حريته يصبح مثل سواه من الكائنات، التي بلا عقل وترهن نفسها للاشيء، وأن تحييد المثقف نفسه عن الدور الذي ينتظره في اللحظات المفصلية في حركة كل بلد يحمل في طيّاته انسحاباً من دور هو الأجدر للقيام به.
ويفصِّل في الحديث عن الحرية وحرية التعبير والحرية السيكولوجية وحرية المتلقي من سطوة الكاتب، والشراكة في العمل الثقافي، وتبدو طروحات الكاتب في مواضع عدّة أقرب إلى المشتهى منها من الواقع، فـ»المثقف لا يمكن أن يكون حراً إذا كانت جماهيره مجموعة من العبيد. وهذا لا يعني أن المثقف سوبرمان أو شخص مثالي خارق لا يشبه البشر!».
«لا» التي لا تكفي
يفصّل الكاتب القول في مفهوم الجمهور وارتباطه بعلم الاجتماع، وكيف تمت إزاحة المصطلح، ليدخل عالم السياسة وكرة القدم والقادة، إضافة إلى رصد الجوانب الجماهيرية في الثقافة، مفرقاً بين السياسة والثقافة، من حيث كون الأولى فنّ الممكن والثانية فنّ المشتهى أو اللازم، وأنَّ جمهور الثقافة هو «مجموعة من الأفراد الأحرار الذين يملكون القدرة على التنوّع والتمايز والاختيار».
ويبدو في أكثر من موضع أن مقاربات «الجباعي أقرب إلى مطارحات مهموم بالوجع الثقافي، الثقافة بالنسبة إليه طريق حياة، لديه تجربة طويلة في الاشتغال الثقافي، حيث ابتعد فيما قدَّمه عن رؤى المفكر، شديدة التماسك، التي تمتلك خطة بحث واضحة ولغة مكّثفة، بل هي في جوانب كثيرة منها أقرب إلى الحالات التأمّلية، رغم الجهد الكبير المبذول في تحديد المصطلحات ومحاولة الوصول إلى نتائج وعرض آراء عدة في الموضوع الواحد، وقبل كل شيء هو قارئ قرأ آلاف الصفحات، فيرى أنَّ» كلمة «لا» سياسية في وجه الاستبداد لا تكفي، إذا كانت آلية تفكيرنا وإبداعنا وفق الشروط والمواصفات التي حدّدها الاستبداد مسبقاً، بل يجب أن نقول «لا» إبداعية في وجه القوالب الفكرية والفنية السائدة التي أسَّستها سلطة الاستبداد واعتمدت على الرفض وحده، فالتجديد والتجريب هما جوهر الرفض في العمل الثقافي والإبداعي.
الاستبداد من منظار التجربة السورية
يكون الحديث في هذا الموضع سورياً محضاً، منطلقاً من التجربة السورية، وكيف أن حافظ الأسد اتخذ عدداً من القرارات التي تكرّس استبداده، وهنا يعيدنا الكاتب إلى مقدمة كتابه، إذ يعرض الكثير من القرارات الصادرة، وينبّه إلى أنَّ «الأب القائد»جعل كل شيء في يده، وبذلك ينبّه إلى أنَّ المماهاة بين القائد والحزب كانت مطية لحافظ الأسد، ولم يكن للحزب من دور غير التغطية على ما يقوم به، فهو منذ البداية أسَّس «حكمه معتمداً على أجهزة الأمن والجيش العقائدي والحزب القائد عند الضرورة». ويستعرض الكاتب ألواناً من الظلم التي أصابت السوريين، وعدّ ذلك نوعاً من الاستبداد الذي عرَّفه ماديسون بالقول «جمع السلطات والصلاحيات من تنفيذية واستشارية وقضائية بيد واحدة»، وكيف أن سلَّم القيم يتبدَّل في مثل هذه الظروف، لتصبح القوّة فوق الفكر، وتغدو وظيفة الدولة ومؤسساتها التشريعية وسواها في خدمة الطاغية، مستحضراً عدداً من المقولات المشهورة للكواكبي في موضوعة الاستبداد، حيث يصل الكاتب إلى نتيجة مؤدّاها أنَّ الاستبداد استبدادان: خارجي وداخلي، ليؤكد على نتيجة يقينيّة برأيه، ربما نسبيّة، بعين الباحث، تقبل أكثر من وجهة نظر، تمثلت في قوله إنَّ «الاستبداد الخارجي الذي مارسته وتمارسه الإدارة الأمريكية اليوم على العالم، يشبه إلى حدّ كبير الاستبداد الذي تمارسه الأنظمة العربيّة على شعوبها».
غسان الجباعي: «الثقافة والاستبداد». دار نون، رأس الخيمة،2015.
136 صفحة.