صفحات الثقافة

غطرسة الوضيع: “سلطتي بوطن”


محمد كيتلة

لم يعرف الطاغية بعد، ما اسم هذه البلاد التي يوجعها بالرصاص وُيؤرق لياليها بقصف البشر وأحلامهم، بتدمير القرى والبساتين وزارعيها وفي جعل البيوت والمدارس والجامعات مرتعاً ونهباً للهباء… ولا أظنه عرف يوماً من هم الذين يحرثون أرضها ويأكلون الحصى إن هي أمحلت…ومن المحال أن يكون قد أكل من تينها وعنبها وزيتونها، ومن رابع المستحيلات المتخيلة أو الممكنة، أن تكون أصابعه  قد لامست غيمة أو نجمة وهو مستلق على سطح بيت من تراب وطين، لأن من يسكن القصر أبد الدهر لن يعرف الحياة بعيداً عنه، فقد يضيع  أو يفترسه الشعب الذي هدم أسوار القصر بحثاً عن الحرية خلف الأبواب الموصدةً وأمام العتبات الموصلة لفضاء وآفاق الحرية…. ومن هو المعتوه الذي يصدق، أ ن من يدوس على رقاب وظهور ورؤوس الشعب، رأى يوماً ياسمين الشام أوتعمد بالورد الجوري والحبق..أو دلكته أمه بزيت الزيتون بسبب نزلة صدرية، وهل يعرف مثل هذا الوحش المدلل طعم اليانسون والنعناع ؟؟  لكن الطاغية الصغير يعرف ما يملك، وخاصة هذه الأسود المفترسة التي سرحها من حراسة الحصون والقصور والسجون والمعتقلات، وأطلق لها الأعنة  لتحرث البشر وتحرق الأرض… ولم ترف له جفن، بل تركها تمشي بخيلاء الذئاب والضباع في المدن والقرى لتأكل وتفتك وتقتل ما يلذ لها ويطيب، من الأحياء والأموات، وأجاز لها نبش قبور الشهداء لأسباب لم تعرف بعد، وأوعز لها بإختطاف جرحى الحرية والكرامة من المستشفيات والبيوت المطفأة، وتصفيتها في الشوارع والأزقة مع من يداوي ويداري جروحاتها ونزفها، كيلا تفلت من ذاكراتهم بعضاً من مشاهد الحرب في الأيام القادمة، وما ترسب في الروح والخاصرة من صور للجرائم التي تبكي الحجر الأصم.. وحده من يعرف، أن القتلة لن يعودوا هذه المرة إلى أقفاصهم، إلا إذا إقتضت الضرورة – وهي على الطريق – من أجل حراسة الممرات التي سيختفي فيها  بعد أن أفتضح وهزئ وتقزم وبات في حيرة من أمر البلاد التي لفظته ولعنت تاريخه  وتاريخ من كلله بإكليل الخيانة والعار.

” إما أنا أو لا وطن… نموت ونهلك معاً.. أزلزل الأرض ولا أستسلم، سلطتي بوطن”

هذا هو الديكتاتور، بعنجية متلعثمة، ومن طراز فظيع، وبكل ما فيه من عيوب فاضحة خرقاء، ومن  كياسة بلهاء، وزيف وفجور ووقاحة، وإعوجاج يفقأ العين، ويوجع القلب فوق أوجاعه ومآسيه، ويصيب النفس بأذى يصعب إحتماله أو تناسيه، من فرط البلادة في إدارة الظهر للوطن والمواطن… هو هو لاغيره، كقاطع وطن وسفاك شعب ووطن، أفاك محتال في صنع القرار المضاد لمصالح شعب ينزف جسداً ودماً ويقطر دمعاً وينز وطناً، مخاتل بارع في إنهاء وطن أتخمه بالفساد ورجال الأعمال العاطلين عن معرفة الوطن وماهيتة ، وفي  جعله واحة لإستجمام  رؤوس الأموال المهربة  بعد تعريضه  للخسارة  والدمار والهلاك..  هذه ليست عنجهية دكتاتور، بل همجية ثور يصارع سكرات الموت الأخيرة، ليثبت لنفسه وللعالم كله، كم هومختلف وشديد الإختلاف عن بقية الطغاة ، لا يُسلم ولو أحرقت سورية كلها ولا يستسلم  من دون دمار.. هذا هو الديكتاتور، متكبر ومتجبر، عنيد شرس، يتنمر على الشعب الأبي، ويستأسد على قهره وفقره .. واضح إلى حد العمى لمن لا يعرفه ولا يعرف قسوته والكيفية التي فرض وبسط بها سطوته على العباد،وسيطرته الكلية على مقدرات البلاد  وما فيها من حياة وأحياء ، واضح وبلا خجل، لمن لا يقدرالمدى الذي وصل إليه في إستبداده وعناده، وبعد أن غلب عليه الجنون، جنون العظمة والإستكبار…. يقفل أبواب الرؤية ، و يسد نوافذ السمع ويحجب عنه أي مصدرلا يجلب الراحة لقصره وعرشه، مهابة السقوط صريع مخاوفه وهواجسه ولامبالاته، وما بان منه من نظرات الثعالب …شدد عليه الحراسة مستنفراً الحراس ورجالات الأمن الشبيحة الأشاوس، وجنرالات الجيش البطلجية السفلة والقبضايات، منذ نزل الشعب الدامي الحافي إلى الشوارع متوعداً مهدداً ، يأمره بالرحيل، بإرادة حرة واحدة ولغة يتناولون مفرداتها من معاناتهم وبؤسهم ،يبسطونها على الورق والصدور، يكتبونها على السماء معمد ة بالدم وصراخ الأطفال وآهات النساء، لغة  تبتعد عن قواميس السياسة وأحزابها التي تتطفل على معاناتهم وأنينهم الصادي، على الجباه والأيادي التي ترفع مشاعل اللهب والغضب لأعالي السماء المكفهرة بشموخ وكبرياء، لم تر مثله البلاد ومنذ الإستقلال عن المحتل الأول…

توحش الوحش المتغطرس واستشرس، أفصح عن حماقة لم يأت بها طاغية أو ديكتاتورمن قبل، ولا من بعد، لم يعد يأنس لنصيحة صديق  ولم يسلس لموعظةً دكتاتور هارب وآخر وراء القضبان ولا ذلك المقتول، فسقط في محراب وجهه وبان القناع، وتكشفت أباطيل الكياسة والرياسة، وأحابيل الزيف والخداع ، ظهر الإستبداد في أفظع أشكاله وصوره المرعبة ،على وجوه الضحايا التي شوهت وأجسادها التي تقطعت، تجلت فظائعه ومواهبه، فأبدع وتفوق على جميع الطغاة، متحدياً عبقرية هتلر الجهنمية في إفناء الأرض وما عليها، ولسان حاله يقول : أنا سوررية  وسورية أنا، نهلك معاً  أو نبقى فوق الهلاك وفي الهلاك جميعاً، سلطتي بوطن.. والجوقة من حوله يرددون النغمة  تلو النغمة، عن ظهرقلب وتقى وورع، وبلا زيادة أو نقصان: أنت أنت سورية.

هذا هو الديكتاتور، يقف على أبوب القيامة متنصتاً على تاريخ سورية الجديد، وعلى هذه الجموع البشرية الهادرة، التي تعرت من خوفها وذعرها، ويتمها وفقرها، بعد أن عافت ذلها وقهرها، وبعد أن ضاقت بعذاباتها وصبرها الطويل عليه، وعلى من أورثه دم أبناء وبنات الضحايا ليكمل سيرورة الدم والمجازر.

وهو كما البقية من الطغاة البرابرة، يرى بعينين ذئبيتين، وبوجه متأصل في اللؤم،  يعرف نهايته ويتعامى عنها ويتغابى، يتقنع ببراءة البلهاء، ويعمل جاهداً ليقنع ذاته المهترئة، بأنه لا يرى، مستأنساً بأسلافه من الطغاة الحمقى، ولأنه طاغية إبن طاغية ، وقف على منصة الدم بغطرسة الوضيع ليقول : سلطتي بوطن !!

هذا هو الديكتاتور الذي لا يستسلم بسهولة،  وعلى إستعداد متزايد وبلا كلل أو ملل لساعة السقوط أو الهرب، أن يخوض الحرب إلى ما لا نهاية وبلا هوادة، فهي أول حرب له وآخر حرب مع شعب أعلن إنتصاره عليه منذ أن أسقطه أرضاً بكلمة واحدة: حرية .

منذ الخامس عشر من آذار بات يرتعد خوفاً في سجن وحشيته وأنانيته المقيتة المفرطة، ويقينه أن لا أحد في سورية يراه عارياً، مكللاً  بخيباته، مجللاً ببطانته الخرقاء وزبانيته، المجردين من الإسم والشرف، لم يقتنع بعد، أن الواقع القديم قد إندثر، بطلعة شعب واحد متماسك صبور وغيور على البلاد، وصار هو الحاضر الذي سيولد منه المستقبل الواعد، الصامد في الساحات، ساخطاً لاعناً متحدياً صارخاً متوعداً: إرحل، الشعب يريد إعدام الرئيس .

 كاتب فلسطيني يقيم في كندا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى