غليان سوري على نار استشراقية
صبحي حديدي
في محاضرة (أقرب إلى خطبة عصماء، كما يتوجب القول، بدلالة العنوان على الأقلّ: ‘سيادة القانون والتنمية: أزمنة التحدّي والفرصة’)، ألقتها في جامعة قطر، الدوحة، مؤخراً؛ أعلنت هيلين كلارك، مديرة برنامج الأمم المتحدة للتنمية أنّ ‘سيرورات سياسية واقتصادية واجتماعية، هامّة ومثار جدل واسع، تتواصل على امتداد المنطقة، في بلدان تقتفي دروب تحوّلات سريعة بعد سقوط أنظمة، وفي بلدان أخرى تتبع مسار إصلاح أكثر تدرّجاً’. وموقع البرنامج الرسمي على الإنترنت، والذي نقل فقرات من محاضرة كلارك، يشدّد أكثر على هذه النبرة الحيادية المفرطة التي اتسمت بها لغة السيدة المديرة، فيشرح أنّ الفقرة السابقة تشير إلى ‘الاضطراب الإقليمي خلال العام الماضي، والذي ما يزال يغلي في سورية’!
لم تلجأ كلارك إلى استخدام تعبير ‘الربيع العربي’، الرائج في الغرب، والمفضّل على سواه لأنه يدغدغ الكثير من التنميطات الاستشراقية؛ ولكنها اعتمدت ما هو أسوأ، في الواقع، لأنّ وصف انتفاضات العرب بـ’الاضطراب الإقليمي’ يعيد الذاكرة إلى سلسلة الكليشيهات اللفظية الرديئة، الخاوية من المعنى الملموس، وحمّالة الكثير من الدلالات السلبية، والقدحية. وأمّا توصيف ‘الاضطراب’ هذا بأنه ‘يغلي’ في سورية، فإنه يحيل المرء إلى معجم ديماغوجي وتضليلي بائس، لا يليق إلا بوسائل إعلام النظام السوري، التابعة أو الحليفة. هذا أذا تجاوز المرء حقيقة امتناع كلارك (وهي التي كانت رئيسة وزراء نيوزيلندا، في حقبة سابقة!) عن توصيف طبائع الأنظمة التي سقطت، وما إذا كانت سلطة القانون قد انتُهكت فيها، بافتراض أنّ أيّ ‘قانون’ ساد أصلاً، في أيّ يوم.
والحال أنّ أقوال كلارك تشكّل ردّة صريحة (بدل أن تكون خطوة متقدمة، بحكم متغيّرات العالم العربي أوّلاً)، عن خلاصات كان البرنامج قد توصّل إليها في تقارير سابقة؛ خاصة ما اتصل منها بتنميطات التنمية، وبعض ما يكتنفها من ‘أساطير’، بين شرق وغرب، وثقافة وأخرى. ففي تقرير سابق، شهير، بعنوان ‘الحرّية الثقافية في عالم اليوم المتنوّع’، سعى المؤلفون إلى نقض نظريات صدام الحضارات، كما بحثوا في مسائل الهوية على امتداد العالم، وإشكاليات تعدّد الهويات، واختلاف السياسات الثقافية التي تسود في عالم اليوم، بصدد الانفتاح أو الانغلاق، والتعدّد أو التعصّب، وكيف يمكن للتنوّع الثقافي أن يكون ميدانا خصباً للتنمية…
وفي السطور الأولى من التقرير ثمة هذه الفقرة المدهشة: ‘في زمن تتردّد فيه بقوّة، وبشكل يثير القلق، أصداء فكرة صراع الثقافات على نطاق كوني، فإنّ العثور على إجابات للأسئلة القديمة، بصدد أفضل وسائل الإدارة وتخفيف حدّة الصراعات حول اللغة والدين والثقافة والأصل العرقي، يكتسب أهمية متجددة. وهذه ليست قضية مجرّدة في نظر المشتغلين بالتنمية’. وبالفعل، التقرير يخطو خطوة فكرية غير مألوفة حين يستعرض خمس أساطير حول ‘التنافر’ الذي يعيق التنمية الإنسانية والسياسية، والثقافية، ثمّ يسعى إلى تقويضها واحدة تلو الأخرى:
ـ الأسطورة الأولى مفادها أنّ هويّات البشر الإثنية تتنافس مع ارتباطهم بالدولة، ولهذا يوجد نوع من التنافر بين الإقرار بالتنوّع وتوحيد الدولة.
ـ الأسطورة الثانية تقول إنّ المجموعات الإثنية ميّالة إلى النزاع العنيف مع بعضها البعض بسبب صراع القِيَم، ولهذا يوجد نوع من التنافر بين احترام التنوّع وتوطيد السلم.
ـ الأسطورة الثالثة تذهب إلى الحرية الثقافية ذاتها، التي تتطلّب الدفاع عن الممارسات التقليدية؛ ولهذا يمكن أن يوجد نوع من التنافر بين الإقرار بالتعددية الثقافية، وقبول أولويات إنسانية تنموية أخرى مثل التقدّم والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ـ الأسطورة الرابعة ترى أنّ البلدان المتعددة إثنياً أقلّ من سواها قدرة على التنمية، ولذلك يوجد تنافر بين احترام التنوّع وتوطيد التنمية.
ـ والأسطورة الخامسة تجزم أنّ بعــــض الثقافات أكثر ملاءمة من سواها لتحقيق التقدّم التنموي، وبعض الثقافات لديها موروث من القِيَم الديمقراطية لا يتوفّر عند سواها؛ ولهذا يوجد تنافر بين الحفاظ على بعض الثقافات، وإشاعة التنمية والديمقراطية.
هذا التقرير لم يكن تسفيهاً مباشراً لآراء صمويل هنتنغتون ونظرية صراع الحضارات، فحسب؛ بل اعتُبر، أيضاً، مساجلة معلَنة ضدّ معظم آراء كبير مستشرقي عصورنا، برنارد لويس، حول ‘التنافر’ الذي يُبقي المجتمعات المسلمة بمنأى عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وإذْ تبدو كلارك وكأنها تردّنا ـ اليوم، وفي خضمّ ‘الاضطراب الإقليمي’، دون سواه! ـ إلى تنظيرات هنتنغتون ولويس؛ فإنّ الارتداد هذا ليس رجعة إلى وراء فقط، بل هو ردّة مجّانية، صانعة تنافر مجّاني بين الثقافات والقِيَم.
ويبقى، في كلّ حال، أنّ تقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية، حتى تلك التي لا تكتفي بالسطح وتغوص في عمق المشكلات، تظلّ أشبه بمزامير تُتلى في وادٍ قفر غير ذي زرع. هل نفعت الأرقام الرهيبة التي تقول، مثلاً، إنّ 50 في المــئة من سكان الأرض، أي قرابة ثلاثة مليارات من البشر، يعيشون على أقلّ من دولارين ونصف يومياً؛ وأنّ 22 ألف طــــفل يموتــــون يومياً، بسبب الفقر؟ وهل حقيقة اقتراب ضحــــايا النظام السوري من رقم الـ 50 ألف شهيد، يمكن أن تفلح في تليين عريكة كلارك، وإقناعها بأنّ ما يجري في سورية ليس محض غليان… على نار استشراقية؟