غوطة الإدلبي وانتفاضة الشام
صبحي حديدي
بين الخصال الأبرز لأعمال ألفة الإدلبي (1912ـ2007)، الروائية والقاصّة السورية الرائدة، أنّ مدوّنتها السردية كانت أشبه بسجلّ لذاكرة الشام، ـ كما يحلو لنا، نحن السوريين، أن نسمّي عاصمة بلدنا ـ لا يشمل معالم أحيائها وأزّقتها وعمارتها وخرائطها وتواريخها، فحسب؛ بل يخلّد حياتها اليومية في أكثر تقاليدها أصالة، وأغنى عاداتها تمثيلاً للإنسان، في مظاهر العيش كما في بواطن الوجود. وفي واحدة من الطيات الأجمل، والأصدق، لذلك الباطن البشري جاء التقاط الإدلبي لتحوّلات الحارة الشامية، تحت وطأة عوامل شتى متداخلة، سياسية واجتماعية وثقافية، فضلاً عن ذلك العنصر الخاصّ الحاسم: انخراط الشام في أعمال المقاومة، السرّية والعلنية، ضدّ الانتداب الفرنسي، وانطلاق الثورة السورية الكبرى (‘ذاك النفير إلى الدنيا أنِ اضطربي’، كما سيقول سعيد عقل بعدئذ).
والقصة القصيرة ‘الحقد الكبير’، من مجموعة ‘وداعاً يا دمشق’، 1963، واحدة من أعذب النماذج في تمثيل حسّ المقاومة ذاك، أو بالأحرى: ثقافة المقاومة، كما ترعرعت في نفوس الكبار، ثمّ تناقلها الصغار، على نحو بالغ الشفافية في أبعاده الإنسانية، متخفف من الخطاب التقريري والحماسة الجوفاء. الشخصية الرئيسية في القصة رجل مقاوِم بامتياز، ولكنه ليس مثالاً ملحمياً ذا صفات بطولية فائقة، ومفتعَلة، بل هو ببساطة: ‘أبو حامد، بائع الحليب الجوال، بقامته المائلة قليلاً على وعاء الحليب الكبير المعلق على كتفه وسرواله الأزرق، وقد شدّ عليه زناراً أحمر، وارتدى فوقه ميتاناً مخططاً بالأبيض والاسود، وعينيه الصغيرتين اللامعتين تحت حاجبيه الكثيفين، وصوته الحنون وهو ينادي بنغمة ممطوطة: حليب، حليب’.
وأبو حامد ‘رجل طيب، فقير وأبو عيال، يذهب كلّ يوم قبل شروق الشمس ماشياً إلى الغوطة ليبتاع حليبه من ثدي البقرة مباشرة’؛ لكن انحيازه إلى الثورة يبدأ من معطى إنساني بسيط، وتلقائي، هو الحزن على أعداد الشهداء التي تتزايد: ‘في المعركة التي جرت البارحة في قلب الغوطة استشهد ثلاثة من أولاد الميدان، وخمسة من أولاد الشاغور، وسبعة من الغوطة.. أنا أعرفهم جميعاً.. كل شاب والله مثل النخلة! هؤلاء الشهداء يا أفندي هم شباب أهل الجنة.. يا ليتني أصبح واحداً منهم!’، يهمس أبو حامد. ولن يطول به الزمن، بالفعل، إذْ سيلتحق بركب الشهداء، وسيبصره الطفل (الصوت السارد في القصة) معلّقاً على مشنقة في ساحة المرجة. كذلك لن يمرّ وقت طويل قبل أن يسمع السارد: ‘حليب.. حليب.. كان للصوت نفس النغمة الممطوطة والجرس الحنون، ولكنه كان ينتهي بأنّة مرتجفة حزينة. عرفتُ الصوت حالاً، كان صوت صديقي حامد الابن الأكبر للحلاب الشهير’. وفي ذروة أخرى تُكمل معادلة القصة، سوف يكتشف الفتى السارد أنّ أباه ليس غائباً بداعي السفر أو الأعمال، بل لأنه التحق بالمقاومة الشعبية!
وفي المصادفات العجيبة للانتفاضة السورية، حالها في ذلك حال معظم منعطفات التاريخ الكبرى، أنّ عسكر النظام السوري وأجهزته الأمنية وشبيحته كانوا قد باشروا عملية اجتياح وحشية للغوطة الشامية، في الأيام ذاتها التي تسجّل الذكرى الخامسة لرحيل الإدلبي، وكانت قد أغمضت عينيها للمرّة الأخيرة يوم 22 آذار (مارس)، في صقيع العاصمة الفرنسية باريس، وليس وسط عبق الياسمين في حيّ الصالحية الدمشقي العريق، حيث وُلدت. هي مفارقة أليمة، محزنة ومأساوية، ولكنها بنت الواقع وحده، أن يقارن أبناء الغوطة بين احتلال فرنسي أجنبي، واحتلال (لا يتردد الكثيرون في اعتباره أبشع، أشدّ همجية، وأبعد عاقبة) تنفّذه عصابة من طغاة سورية ومجرميها وفاسديها، ضدّ الغالبية الساحقة من أبناء الوطن الواحد.
وذكرى رحيل الإدلبي تستوجب استذكار مكانتها الأدبية، فهي انتمت إلى جيل أدب الخمسينيات السوري الذي شــــهد نهوضاً ملموساً، وممــــيّزاً تماماً، في عدد النساء كاتبات القصة والرواية، من جانب أوّل؛ وكذلك النــــوعية الفنّية العالية، والمفاجئة حتى بمعايير أزمنتنا الراهنة، لتلك الكتابات، من جانب ثانٍ. بين أبرز الأسماء كانت ماري عجمي (1888ـ1965)، نازك العابد بيهم (1887ـ1959)، وداد سكاكيني (1913ـ1991) صاحبة ‘أروى بنت الخطوب’ الذي يُعدّ أوّل عمل نسوي جدير بحمل صفة الرواية بالمعنى الفنّي للمصطلح، وسلمى الحفار الكزبري (1923ـ2006). وهذا هو الرعيل الذي سيمهّد الدرب لكاتبات الجيل التالي، الستينيات والسبعينيات، من أمثال قمر كيلاني، ناديا خوست، دلال حاتم، ليلى صايا سالم، غادة السمان، وسواهنّ.
جيل الإدلبي كان قد مثّل أطوار التأسيس والريادة في الجانب الفنّي، كما تولى تقديم المزيد من مبـــــادرات تحرير المرأة وانعتاقها في الجانب الاجتماعي، وراكم بالتالي الكثير من المدلولات الثقافية ـ السياسية الناجــمة عن ائتلاف هذين الجانبين. وأطوار التأسيس تلك كانت، أيضاً، مراحل متدرجة في ترسيخ الشكل وتطوير الأدوات والموضوعات، وكانت مجموعة الإدلبي الأولى ‘قصص شامية’، 1954، هي الأنضج في مستويات فنّية عديدة تشمل تحرير اللغة من إسار البلاغة التقليدية، وتخليص الحكاية من التضخيم العاطفي الميلودرامي، واقتحام موضوعات شبه محرّمة، واعتماد ضمائر سرد متغايرة متبادلة الوظائف…
وفي وسع الإدلبي أن تقرّ عيناً بما سطّره، ويسطّره كلّ يوم، أبناء الغوطة الشماء، حافظي ذكر وذكرى أبو حامد الحلاب، حيث صار ‘الحقد الكبير’ ضدّ الفرنسيين، انتفاضة عارمة ضدّ طغاة الوطن؛ فارقها النوعي، الأكبر، أنها تتسامى على الأحقاد كافة.