«غوغل» و «تويتر» جردتا الدولة من هيبتها و «فايسبوك» قوض الديموقراطية التقليدية/ محمد خلف
«… هل تنجو الديموقراطية من خطر الإنترنت؟». تحت هذا العنوان نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريراً يقول: «إن بروز الإنترنت وقوته سرعا اضمحلال المؤسسات التي كانت تمثل قوة وسيطة في الحملات الانتخابية، ولم تعد وسائل الإعلام العريقة والأحزاب السياسية تمارس دورها في تحديد صدق المعلومات».
لم يعد سراً أن شبكات التواصل الاجتماعي تنجح في تغيير الديموقراطية التقليدية، وهذا التغيير ليس مفيداً في جميع الحالات، يمكن رصد التأثيرات التي تحدثها منصات تويتر وفايسبوك وغيرها من وسائل التواصل في السرعة المطلقة في الاتصالات وجذب الجماعات الافتراضية وانعكاساتها الفاعلة على السياسة في شكل عام، فهي تجعل الناس يشعرون بأنهم مشاركون مباشرون في السلطة، ولكنها تؤدي أيضاً إلى تداعي النزعات الشعبوية وتبدد التوقعات اللاعقلانية. يرى الأستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة صوفيا دانيال سميلوف أنه «كما محطات الإذاعة والتلفزيون في الماضي القريب، كذلك منصات ومنابر الاتصالات والتواصل الجديدة (النيوميديا) يمكن النظر أليها بقلق أو أمل». وأضاف: «تمتلك هذه الوسائل إمكان تضخيم الحدث أو التقليل من أهميته، إلا أن تأثيرها سيكون أكثر فعالية في حال قدمت منتوجاً إعلامياً يكون ذي صدقية ومفهوماً على أوسع نطاق».
مأزق الديموقراطية
أجمع محللون على «أن الديموقراطية في مأزق» الآن مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي. وبرأي الأستاذ في كلية الإعلام في جامعة كارولينا الشمالية فيريل غيلوري «أن المعطيات تغيرت لأن النقاش بات يجري على الإنترنت أيضاً». وأظهرت دراسة نشرت ضمن سلسلة (Blogs and Bullets) أعدها مختبر (Peace Tech) الذي استند إلى بيانات هامة من موقعي تويتر وفايسبوك لاستكشاف كيف أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار الخوف والاستقطاب في مصر، الأمر الذي قوض انتقالها الديموقراطي». ويشدد معدو الدراسة على «أن وسائل التواصل الاجتماعي تعترض طريق تدعيم الديموقراطية من خلال تسريع وتكثيف نزعات خطيرة مثل الاستقطاب والخوف وتجريد الخصوم من إنسانيتهم».
لا تتفق الخبيرة الإعلامية فيسيسلافا أنطونوفا مع الآراء التي تنكر دور النيوميديا في نشر الديموقراطية، وتقول: «إن الإنترنت أصبح أحد عوامل تعزيز الديموقراطية عبر توسيعه عملية تدفق المعلومات، وتقديم منصات التواصل أصواتاً جديدة في الحوارات السياسية، وتمكين المواطنين، بل وحتى توفير وسائل قوية وفعالة لجمع التبرعات للمرشحين الأقل شهرة في المعترك السياسي».
أحدث ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وسرعة انتشارها في العالم، نقلة نوعية في الإعلام فتحت أمامه آفاقاً غير مسبوقة، وأعطت مستخدميه فرصاً كبرى للتأثير والانتقال عبر الحدود بلا قيود ولا رقابة إلا في شكل نسبي محدود. إذ أوجد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي قنوات للبث المباشر، في تطور يغير من جوهر النظريات الاتصالية المعروفة، ويوقف احتكار صناعة الرسالة الإعلامية لينقلها إلى مدى أوسع وأكثر شمولية، وبقدرة تأثيرية وتفاعلية لم يتصوّرها خبراء الاتصال بحسب رأي الخبيرة الإعلامية الدكتورة بشرى جميل الراوي.
تشير نتائج الدراسة التي نشرتها «واشنطن بوست» والتي توصل إليها أستاذ القانون بجامعة ستانفورد ناثانيل بيرسيلي إلى «أن صورة الإنترنت الإيجابية تغيرت الآن لتحل محلها صورة المكان الذي يوفر فرصة لنشر المعلومات الكاذبة وتعزيز الخطاب السياسي العدائي والتقسيمي، والمكان الذي يتوافر على زوايا مظلمة يسيطر عليها لاعبون مجهولون، وبعضهم ليسوا بشراً حقيقيين، بل مجرد أدوات إلكترونية يزداد نفوذها الذي يصعب قياسه».
قضم هيبة الدولة وسيادتها
تمتلك السلطة الشرعية هيبة بمعنى أن المواطنين يمنحونها الثقة ويعتقدون بأن قراراتها أفضل لهم من عدم وجودها كإجراءات في الواقع العملي. وبحسب صاحب نظرية «القابلية للاستقلال باعتبارها مضموناً للحرية» جوزيف راز «إن الدولة تشدد دائماً على أنها تمتلك هيبة السلطة على رغم أن هذا الادعاء أجوف في جوهره»، إذ يرى سميلوف «في شكل عام لدى الدولة خبرة أكثر وتجربة أكبر من مواطنيها في قطاع الطاقة النووية أو الخدمات الطبية، بالتالي أن الناس يكونون على حق حينما يعتقدون بأن مؤسسات الحكومة متمكنة وذات خبرة عميقة في هذه المسائل الحساسة، ولكن يجب الإقرار بأن هذا الاستنتاج لا يسري على الجميع، لأنه يوجد دائماً الكثير من الخبراء المؤهلين لتقديم معرفة واسعة ودراسات أكثر عمقاً وتمتلك وزناً أكبر من المؤسسات الحكومية، وهؤلاء بالتحديد قادرون على اتخاذ القرارات الصائبة في ما يتعلق بهذه الموضوعات ذات الأهمية الحساسة لتطوير وتحديث الدولة».
تعكس الدراسات الميدانية لوسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها في العمليات السياسية، حقيقة جديدة تتمثل في أن المرحلة الزمنية الراهنة أصبحت مرهونة بما تنقله وتقدمه وتؤثر فيه النيوميديا ولدرجة تصل إلى حد الارتباك أو التشوش أو الاضطراب الفكري والسلوكي في بعض الأحوال. في كتابهم المعنون POLITICAL TURBULENCE (الاهتزازات السياسية: كيف تعمل وسائل التواصل الاجتماعي على صياغة الفعل الجماعي)، يشير فريق من أربعة باحثين على رأسهم البريطانية الدكتورة هيلين مارغتس أستاذة علم المجتمع والإنترنت في جامعة أوكسفورد إلى «أن وسائل التواصل الاجتماعي تسببت في تغيير مفهوم الديموقراطية، فبينما كانت الممارسة الديموقراطية تنصرف عبر العصور إلى حيث تشمل الوعي بما يدور في المجتمع، وتأكيد شعور المواطنة، وإقرار حقوق الإنسان وتفعيل حس مبادرة المشاركة الإيجابية في الشأن العام نجد الآن أن الميديا الإلكترونية والرقمية قلبت المفاهيم والمصطلحات والموازين». ويخلص مؤلفو الكتاب إلى «أن من واجب الأنظمة الحاكمة أن تتابع المسارات التي تنتهجها وسائل التواصل الاجتماعي».
لاعب (آلي) في الانتخابات
لم تعد الحملات الانتخابية للأحزاب تتكئ فقط على الملصقات أو الدعاية التلفزيونية أو الإذاعية، فهي تخطت الآن وتجاوزت الأساليب التقليدية لتخوض في عالم الإنترنت الفضائي الواسع، فلقد تحول الفايسبوك لاعباً (آلياً) في الانتخابات التشريعية التي ستجرى في ألمانيا في أيلول (سبتمبر) المقبل، لا سيما أن 28 مليون ألماني يستخدمون الفايسبوك، وهو أمر شهدته الانتخابات الرئاسية الفرنسية وقبلها الهولندية.
وترى أنطونوفا: «ليس هناك حزب في العالم يستطيع الآن التخلي أو تجاهل وسائل التواصل الاجتماعي في حملاته الانتخابية». وتطرح تساؤلات في الأوساط السياسية الدولية عن مدى مشاركة الآلات والمكائن في كتابة التعليقات الشبكية التي لا يساهم فيها الإنسان، بل الآلة، إذ إن الكتابات أو التعليقات تنطلق من خلال برامج إلكترونية بمقدورها التدخل والمشاركة في الحوارات والمنتديات كأنها إنسان حقيقي.
يمكن الاستناد إلى مضمون الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب التي أظهرت بوضوح مدى اختلاف البيئة الإعلامية التي نظمت خلالها تلك الحملة مقارنة بالفترة التي كان يسود فيها التلفزيون ووسائل الإعلام التقليدية المقروءة. ويؤكد بيرسيلي: «أن ترامب فهم طبيعة البيئة الجديدة في شكل أفضل من المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون». وقال: «إن تغريدات ترامب أصبحت مما يعتمد عليها في شكل رئيسي للتنبؤ بالقصص الإخبارية ومقالات المدونات لدرجة أنه نجح في تغيير تركيز وسائل الإعلام بعاصفة من التغريدات لصرف الانتباه عن قضايا لا يرغب في إثارتها كونها تكشف ضحالته السياسية».
مصر وإيران والتواصل الاجتماعي
ويورد خبراء العلاقات العامة كنموذج على الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في تحديد اتجاهات الرأي والمزاج الاجتماعي في شكل عام في وتحريفها في اتجاه لا يخدم التطورات الديموقراطية، مثلما حصل مع عملية التحول الديموقراطي في مصر ودورها في تعزيز الانقسام والخوف والعداوات بين المجموعات ذات الانتماء السياسي المتعدد بعد ثورة 25 يناير(كانون الثاني)، بعد أن كانت قد ساهمت في تقريبها مع بعضها البعض خلال بداية الثورة. وتلقي الدراسة التي نشرتها «واشنطن بوست» الضوء على كيفية تخويف العامة حيث قامت مجموعات مختلفة باستخدام منصات التواصل لنقل الصور أو المعلومات المخيفة بصورة غير عادلة عبر أطياف المجتمع السياسي المصري. وقد ارتبط ظهور هذه المنصات بالحركة الشبابية في إيران خلال انتخابات الرئاسة عام 2009، والتي سميت بالإضافة إلى الثورة الخضراء بثورة تويتر، وتطور استخدامها مع انفجار ثورات الربيع العربي. وبرأي مؤلفة كتاب «دور وسائل التواصل الاجتماعي في التحول الحول الديموقراطي العربي» الباحثة التونسية آمال قرامي أن «وسائل الإعلام البديلة بشرت بتمكين الشباب من خلال توفير ما يساعدهم على اكتساب صفة المواطنية». وقالت: «هذه الفعالية أدت إلى حدوث تغييرات على مستوى البنى النفسية والذهنية والثقافية، وكذلك على مستوى رؤية الفرد لذاته وللآخرين وللكون». في السياق يقول الأستاذ في كلية الإعلام في جامعة صوفيا البروفيسور ميلكو بتروف: «إن وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بصفة خاصة لجعل الاستقطاب الاجتماعي والسياسي أكثر تدهوراً بسبب قدرتها على نشر صور عنيفة وإشاعات مخيفة بسرعة كبيرة وبكثافة عبر مجموعات منغلقة نسبياً لأفراد ذوي تفكير متماثل».
ما يمكن استنتاجه من مجموعة الآراء ونتائج البيانات والاستطلاعات المتعددة هو أن الفايسبوك وغوغل جعلا من هذا الوضع الباهت مشكلة جدية للديموقراطية المعاصرة، لأن الخبراء يتركون نشراتهم أو مطبوعاتهم الرصينة ويلقون أنفسهم في نقاش اجتماعي واسع فارغ المحتوى في جوهره.
يقول سميلوف: «ما دامت المعرفة تنتشر بسرعة الضوء تقريباً في وسائل التواصل الاجتماعي وتخرج من محيط الخبراء والاختصاصيين لتصبح في بعض الأحيان وفي دقيقة واحدة في متناول الجميع، وفي هذه الحالة تصبح الدولة والسلطة على حد سواء من دون هالة، وتفقد هيبتها كقوة سيادية، وذلك بسبب أن القرارات التي تتخذها أياً كان نوعها، ستظهر مجموعات من الخبراء التي ستقوم علناً بمجادلتها أو تطعن بالأدلة والقرائن في محتواها الجوهري أو قدرتها على حل المعضلات والتحديات المصيرية».
إن الاختلاف بين البيئتين الإعلاميتين المعاصرة والقديمة لا يكمن في تزوير المعلومات، فقد وجدت في السابق ما تسمى «الصحافة الصفراء»، بل إن الاختلاف يتمثل في عدة أشياء أهمها سرعة نشر المعلومات واتساع مجال تداولها، بما فيها الكاذبة. يقول بيرسيلي: «إن مدى اتساع انتشار المعلومات بما فيها الكاذبة يتسبب في اختلال وظيفة الحملات الانتخابية وبالتالي الديموقراطية».
الحياة