صفحات الرأي

غولن وأردوغان يتصارعان … على «النموذج» أم على «النفوذ»؟/ محمد أبو رمّان وحسن أبو هنيّة *

تمخض العام الفائت عن جملة من المصاعب والتحديات الخطيرة هي الأصعب طوال حقبة حكم أردوغان، فالتظاهرات التي انطلقت في أيار (مايو) على خلفية خطط تطوير «حديقة غيزي» في اسطنبول كشفت عن تنامي نزعة ليبرالية تتحدى الحكم السلطوي المتزايد لرئيس الوزراء، بعدما كان الليبراليون يمثّلون داعماً أساسياً لحزبه. فيما كشفت الأحداث المتسارعة الأخيرة عن انكسار أهم حلقات شبكة التحالفات التي يستند إليها أردوغان، إذ انقلبت العلاقة بينه وبين حركة الخدمة (جماعة فتح الله غولن) رأساً على عقب وفتح الطرفان النار على بعضهما بعضاً.

تجاذبات الإسلاميين داخل الفضاء التركي ليست جديدة، فقد برزت التوترات في العلاقة بين أردوغان وأتباع حركة غولِن بمجرد إزاحة عدوهما المشترك المتمثل بـ «العلمانيين»، وأصبح التحالف مع الحركة عبئاً على حزب «العدالة والتنمية»، وبدت الحاجة إليها مكلفة وفائدتها محدودة، وجاءت لحظة الانهيار حين حاول أنصار حركة غولِن إسقاط رئيس وكالة الاستخبارات التركية هاكان فيدان، وهو أحد المقربين المخلصين من أردوغان، ما مثّل خطراً شخصياً عليه، إلا أن أردوغان أوقف هذه الخطوة من خلال تمرير تشريع جديد، كما فهم التحذير وقام بالردّ عليه بمحاولة إغلاق شبكة المدارس الخاصة الإعدادية القوية التابعة لـ «حركة غولن»، وحمله كذلك على إقصاء العديد من أنصار حركة غولِن من مناصبهم داخل جهازَي الشرطة والقضاء.

انقلاب العلاقة بين أبرز شخصيتين مؤثرتين اليوم في المشهد الإسلامي التركي، طيب أردوغان، زعيم الإسلام السياسي في صيغته الجديدة، وفتح الله غولن، زعيم ما يعرف بـ «الإسلام الاجتماعي» في تركيا، ولّد فرضيات متعددة لتفسير ما حدث، بين اتجاهات متضاربة تنطلق من «نظرية المؤامرة» (أردوغان يتهم حركة غولن بأنّهم أداة بيد الإسرائيليين والغرب، وهم يتهمونه بأنّه ممر للنفوذ الإيراني من جهة، وبالانقلاب على الديموقراطية والحكم السلطوي من جهة أخرى)، واتجاهات تحيل ذلك على «صراع النفوذ» بين القوتين الكبيرتين، واتجاهات ثالثة تحيله على تناقض الأولويات والأجندات والتصورات، الذي ظهر بينهما مؤخراً.

1- «الكالفينيّ المسلم»: النموذج الجديد

وإذا كانت تجربة حزب العدالة والتنمية وما أحدثته من نقلة نوعية في مفهوم العمل السياسي، لدى الإسلاميين، قد حظيت باهتمام كبير وواسع في الأوساط الإعلامية والثقافية والسياسية العربية، فإنّ ما يسمى «حركة الخدمة» لم تأخذ نصيباً مماثلاً من هذا الاهتمام والإدراك لطبيعتها وتطورها، ولا دراسة معمّقة لشخصية مؤسسها فتح الله غولن، الذي يعيش منذ سنوات في ولاية بنسلفانيا، في الولايات المتحدة الأميركية، في منفى وصف بالاختياري، حيث يدير أمور حركته، أو بعبارة أدق شبكته الواسعة من هناك!

ظاهرة فتح الله غولن بدأت في إحدى قرى الأناضول الصغيرة، حيث ولد عام 1941 (ووفق روايات أخرى عام 1938)، ووالده هو رامز غولن إمام القرية. وكان فتح الله شغوفاً بالعلم منذ صغره، وقبل أن يتم الرابعة عشرة من عمره ألقى أول خطبة جُمعة، وبدأ بدراسة «كليات رسائل النور» للصوفي المعروف سعيد النورسي، التي تعتبر ركيزة أساسية لمشروعه الفكري والعلمي في مواجهة تحديات الحداثة، كما تأثر بكبار أئمة التصوف الإسلامي، من أمثال محي الدين ابن عربي ومولانا جلال الدين الرومي.

خلال السنوات اللاحقة من عقد ستينات القرن المنصرم تبعه جمع غفير من الطبقة المتوسطة الطموحة في الأناضول، فهذا «الكالفينيّ المسلم»، كما يطلق عليه معهد الأبحاث الأوروبي، يدعو إلى ربط العبادة بكسب المال، إلا أن الغرب يتحفظ على اعتباره «المصلح المسلم» المنتظر بسبب هجومه الشديد على منكري وجود الله، وأنصار نظرية التطور لداروين، كما ينتقد لكونه لم يؤسس لنظرية لاهوتية خاصة، ولعدم توافره على رؤية ثورية، ولأن فهمه للعقائد الإسلامية لا يتعدى الاتجاه المحافظ السائد، لكنّه مع ذلك كله يمتلك شخصية كاريزمية تتوافر على مقدرة خطابية ونفوذ سريع إلى قلوب الطبقات المختلفة، كما يمتلك موهبة ساهمت بتقديم الإسلام بلغة مبسّطة سلسة، الأمر الذي ساعده على «تحريك المياه الراكدة»، وبناء حركة كبيرة واسعة تجاوزت الحدود التركية إلى دول العالم المختلفة.

كرّس غولن حياته للحركة الصاعدة، خلال سبعينات القرن الماضي، وأصبح في عقد الثمانينات شخصية شهيرة، وبات يترأس شبكة ضخمة غير رسمية من المدارس والمراكز البحثية والشركات ووسائل الإعلام ممتدة في خمس قارات، وقد أنشأ أنصاره وأتباعه ما يقرب من مئة مدرسة مستقلة في الولايات المتحدة وحدها، كما اكتسبت الحركة زخماً قوياً في أوروبا منذ تأسست أولى مدارس غولِن في شتوتغارت بألمانيا عام 1995، وفي تركيا، شكل أتباع حركة غولِن ما يُعَدّ فعلياً دولة داخل الدولة التركية، ورسخت الحركة وجودها بقوة في جهازَي الشرطة والقضاء ومجمل الجهاز البيروقراطي للدولة.

حظي غولن، في الأعوام الأخيرة، باهتمام كبير في وسائل الإعلام الغربية والأوساط الثقافية العربية، وتمدّد نفوذ حركته، عبر المؤسسات والنشاطات الإعلامية والثقافية، إلى العديد من الدول في العالمين العربي والإسلامي، وبدأ أتباعه يستقطبون وفوداً عربية لزيارتهم في تركيا والاطلاع على إنجازاتهم ومبادئ حركتهم ومؤسساتهم المختلفة، وهي الفرصة التي أتيحت لكاتبَي هذا المقال، حيث قمنا بزيارة مؤسساتهم الصحيّة والتعليمية والإعلامية الضخمة والواسعة، وقابلنا عدداً من الإعلاميين والمفكّرين والمثقفين البارزين في صفوف الحركة، وأعضاء في تحرير مجلة «حراء»، باللغة العربية.

اعتبرت مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy غولن من أبرز 100 شخصية مؤثّرة في العالم، وكتب أحد المنظّرين الأميركيين المعروفين، ولي نصر، كتاباً تُرجم إلى العربية بعنوان «صعود قوى الثروة: نهضة الطبقة الوسطى الجديدة في العالم الإسلامي وانعكاساتها على عالمنا»، أشار فيه إلى أهمية الدور الذي تقوم به الطبقة الوسطى التركية المتديّنة اليوم ليس على صعيد الاقتصاد التركي فقط، بل بوصفها القوة التي تحمل مفتاح التغيير في المستقبل للعالم الإسلامي، عبر قدرتها على الجمع بين نزوعها المحافظ وتديّنها من جهة، واندماجها في العولمة والاقتصاد العالمي من جهة أخرى.

وإذا كان نصر لا يشير مباشرة إلى حركة غولن، فإنّ المقصود بحديثه هو هذه الحركة، بدرجة رئيسة، وتحديداً شبكة رجال الأعمال المتديّنين المرتبطين بها، في تركيا ومنطقة الأناضول، وربما هذا ما دفع بعضهم إلى إطلاق مصطلح «الكالفيني المسلم» على غولن، لما قام به من فك شيفرة العلاقة بين الإسلام والاقتصاد والتنمية، وتشكيل هذه المعادلة المفقودة في العالم العربي، التي لا تقع ضمن أولويات واهتمامات حركات الإسلام السياسي.

2- من النورسية إلى «الإسلام الاجتماعي»

أحد أهم الأسئلة عند الحديث عن حركة غولن يتمثّل في سرّ هذا النجاح والانتشار الواسع خلال العقود الماضية، في المناطق المختلفة، حتى أصبحنا نتحدث، اليوم، عن مئات المدارس، في تركيا وخارجها (العالم العربي، أسيا الوسطى، أوروبا، وأميركا، ونيوزيلاندا)، وعدد من الجامعات والشركات الكبرى الناجحة، والمستشفيات الحديثة المجّهزة بأهم التقنيات والطاقات البشرية الطبية، وعن وسائل إعلام متعددة من صحف ومجلات وفضائيات، بلغات متعددة. بعبارة أخرى ما هو الاختراق الذي أحدثه غولن في الجدار التركي، فمنحه هذا الحضور والإنجاز الواقعي الكبير؟

ليس هناك من «وصفة توافقية» في الإجابة عن هذا السؤال، ولا حتى قراءة موحّدة لسرّ الصعود والانتشار لهذه الحركة، بين الأكاديميين عموماً، والإسلاميين خصوصاً؛ إلاّ أنّ هنالك «مفاتيح» رئيسة يمكن أن تساعد على تفسير ذلك، في مقدمها أنّنا أمام امتداد وتواصل بين هذه الحركة ذات الطبيعة الاجتماعية الإصلاحية والتربوية والدعوية وبين الحركة النورسية الصوفية (التي تنتسب إلى بديع الزمان النورسي 1877-1960)، ليس فقط على صعيد الأصول الصوفية، بل حتى الأفكار الإصلاحية المؤسسة لها، مثل الجمع بين التديّن وما يمنحه من طاقة روحية وإيمانية، والعلم الحديث وما يمنحه من معرفة علمية تخاطب العقل، والاهتمام بالجانب الدعوي والإصلاحي والنهضوي، وتقريب تعاليم القرآن بلغة معاصرة بسيطة من المجتمع.

وعلى رغم أنّ غولن استقال من الحركة النورسية قبل عقود واستقّل بنشاطه وعمله ومؤسساته المختلفة والمتعددة؛ إلاّ أنّه لا يزال يدين في جوهر رؤيته الإصلاحية إلى موروث النورسي وتصوّراته العامة، وربما تتمثّل الإضافة النوعية لغولن على بديع الزمان في جوانب متعددة، تتمثل أولاً: بأنّه ترجم كثيراً من تلك الأفكار والمبادئ، التي دعا إليها النورسي، لكنّ تجربته المريرة بين النفي والسجن لم تساعده على تطبيقها، فقام غولن بهذه المهمة، وثانياً: في الإنتاج الفكري الخاص بغولن نفسه، ومنهجه في قراءة الدين وتأويله وفي شرح سيرة الرسول الكريم، محمد (صلى الله عليه وسلم)، وثالثاً: فيما امتلك غولن من قدرة شخصية على التأثير في المجتمع والناس والمواطنين بصورة واضحة.

أحد المفاتيح الأساسية في تفسير هذا الصعود يتمثّل في طبيعة اللحظة التاريخية التي نشط فيها غولن، إذ انطلق بحركته المستقلة في عقد الثمانينات، وحقبة ازدهار الخصخصة الاقتصادية والتوجه نحو السوق الحرة، ما أدى إلى انتشار وتوسع كبيرين في القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، من شركات استثمارية ومدارس وقطاع الخدمات، وأتاح فضاء واسعاً للعمل والنشاط والانتشار لهذه الحركة الجديدة، التي تقوم بالتركيز على المجتمع، من دون أن تحمل طموحاً سياسياً مباشراً تجاه الوصول إلى السلطة والسيطرة عليها، بخلاف حركات الإسلام السياسي المعاصرة التي، وإن انطلقت من المجتمع، فإنّها كانت تسعى دوماً إلى إقامة الدولة الإسلامية أو الوصول إلى الحكم في الحدّ الأدنى!

منذ البداية، حسم فتح الله غولن موقفه، وجعل دائرة اهتمامه المجتمع وتنميته وتطويره، عبر فلسفة تقوم على الجمع بين الجانب الروحي والديني من جهة والعلوم الحديثة والمتطورة والحداثة الغربية من جهة أخرى، فموقفه لم يكن معادياً لهذه العلوم العصرية ولا للحضارة الغربية، بل على النقيض من ذلك لم ينظر من زاوية الصراع السياسي، بل من خلال الفجوة العلمية والمعرفية، والعمل على ردمها وتجاوزها.

مثّل هذا الخطاب غير الصدامي مع السلطة السياسية، الذي يبتعد عن المصائر المعروفة للإسلام السياسي التركي، أو حتى من يتعاطفون معه، بدءاً من سليمان ديمريل وصولاً إلى نجم الدين أربكان، الذي اختلف معه غولن اختلافاً كبيراً في أولويات المشروع الإسلامي وطبيعته وأجندته، فالأول كانت بوصلته المجتمع وهاجسه التعليم والتربية والتطور الاقتصادي فتعامل مع الإسلام بوصفه طاقة روحية وأخلاقية بدرجة أساسية، أما الثاني فكانت بوصلته السلطة، وهاجسه الحكم، والإسلام بوصفه مشروعاً سياسياً.

الاختلاف بين الإسلام الاجتماعي، الذي يمثّله غولن والسياسي بزعامة أربكان لم يقف عند هذه الحدود، إذ تجاوز ذلك إلى السياسة الخارجية، فغولن يرى أنّ المجال الحيوي والاستراتيجي لتركيا يتمثّل في دول آسيا الوسطى، وأوروبا، وجعل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أولويتها الرئيسة.

بمقارنة هذه الرؤية والأجندة الإصلاحية، التي تتأسس عليها حركة غولن، نجد أنّها أقرب إلى المدرسة الإصلاحية الإسلامية، التي تشكلت بداية القرن العشرين منها إلى الإسلام السياسي، الذي ورث تلك الحركة، لكنه نقل أولوياتها من المجال الاجتماعي والمعرفي والحضاري والاقتصادي إلى الجانب السياسي، من سؤال النهضة والإصلاح والتنمية إلى سؤال الهوية الإحيائي، كما يعرّفه أحد أبرز المفكرين العرب اليوم، رضوان السيد.

فلو عدنا إلى هاجس شيخ الإصلاحيين العرب، الإمام محمد عبده، سنجد الهاجس نفسه لدى غولن وأستاذه الروحي بديع الزمان النورسي، وهو هاجس التخلف والجهل والتفرّق، والبوصلة تتجه بالتالي نحو التربية والتعليم والإصلاح الاجتماعي والديني والثقافي، وتجنب الدخول في العمل السياسي المباشر، وفي كلا المقاربتين اهتمام كبير في بناء شراكة بين القطاع الخاص ورجال الأعمال والمشروع الإصلاحي، وتحفيز المسلمين على العمل والعطاء والإنجاز، وربما هذا ما يفسّر أنّ محمد عبده نفسه كان معجباً بحركة الإصلاح الديني البروتستانتية، وزعيمها مارتن لوثر، وما قام به من اجتهادات دينية جريئة، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ الإمام محمد عبده لم يهتم فقط بالجمع بين الجانب الروحي – الإسلامي والعلمي الغربي، كما هي الحال لدى غولن، بل بتجديد الدين نفسه على أسس من العقلانية الإسلامية، لكن الفارق بين الحركتين أنّ النورسي وجد غولن ليتم المشوار ويقطع مسافة أخرى من الطريق بينما انقطعت الحركة الإصلاحية عند محمد عبده، مع توجه تلميذه محمد رشيد رضا إلى التصالح مع التيار الإسلامي التقليدي في مواجهة التيار العلماني، الذي خرجت رموزه المهمة من عباءة محمد عبده نفسه!

3- في خلفية الطلاق السياسي: النموذج أم النفوذ؟

وعلى رغم هذه التوجهات الجديدة، والنأي عن الجانب السياسي، إلاّ أنّ غولن لم يسلم من المتاعب والملاحقات والتهديدات خلال مسيرته الدعوية والإصلاحية المستمرة، ما دفعه في العام 1999 إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة، والإشراف على حركته من هناك، ورفض العودة إلى تركيا على رغم دعوات متعددة وجّهت إليه خلال الأعوام الماضية، من الرئيس التركي عبدالله غل، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، معلّلاً ذلك بالخشية من أن تؤذي هذه العودة حركته التي شهدت صعوداً وانتشاراً واسعاً خلال الأعوام الماضية!

تكمن المفارقة في أنّ غولن خرج من عباءة الحركة النورسية، مع أنّه بقي وفيّاً لمبادئها وأسسها، بينما خرج أردوغان من عباءة شيخه أربكان، لكن بعدما انقلب عليه، وعلى مشروع الإسلام السياسي عموماً، فأعاد هيكلة الشعارات والأولويات، بل أعاد تعريف الحزب الجديد نفسه «العدالة والتنمية»، بوصفه حزباً محافظاً، وليس إسلامياً، واعترافه بالعلمانية بوصفها نظام الحكم الأمثل، والتخلي تماماً عن مشروع إقامة الدولة الإسلامية، على الصعيد الإيديولوجي والواقعي.

أمّا المشاكلة بين التجربتين، وهي التي قادت إلى الزواج الموقت بينهما، فتتمثل في أنّ الثوب الجديد الذي ارتداه أردوغان مع حزب «العدالة والتنمية» التركي، يتلاءم تماماً مع المقاسات المطروحة من قبل حركة غولن، فقامت خلال الأعوام الماضية بدعمه ومؤازرته انتخابياً وإعلامياً وسياسياً، والدفاع عنه بقوة في مواجهة التيار العلماني المتطرف من جهة، والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى، ونجح هذا التحالف (مع مجموعة من الليبراليين ورجال الأعمال، الذين توافقت مصالحهم مع الرؤية الليبرالية للحزب الجديد) في إطاحة النخبة الحاكمة والدولة العميقة، وفي الحدّ من نفوذ المؤسسة العسكرية في الحكم.

التقى الطرفان وحدث التزاوج مع توافق إعلان أردوغان التخلي عن إقامة دولة إسلامية، ما يتوافق تماماً مع أجندة حركة «الخدمة» في رفض فرض الإسلام عبر السلطة السياسية، والتقيا عبر الرؤية الليبرالية الاقتصادية، وفي إعلان «العدالة والتنمية» أنّ أولويته الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بخلاف أجندة شيخ الإسلام السياسي التركي أربكان، وتطبيق معايير كوبنهاغن بالتزام تركيا المسار الديموقراطي في مختلف المجالات، ما يعني، بقراءة أخرى، قلب الطاولة على العسكر، وتغيير اتجاه العامل الخارجي من معارضة المشروع الإسلامي إلى دعمه.

وجدت «حركة الخدمة» في المبادئ والآراء الجديدة لحزب «العدالة والتنمية» تحالفاً جديداً، وسنداً سياسياً يعزّز نفوذ الحركة في الفضاء الاجتماعي والثقافي، ولم تشعر بأنّ هنالك تناقضاً جوهرياً بينهما في التوسع والهيمنة، فالأولى مجال حركتها المجتمع والتعليم والاقتصاد، والحزب مجال حركته المجال السياسي، وهما يتفقان على تلك الأجندة الديموقراطية الليبرالية في السياسة الداخلية، والتوجه نحو أوروبا وآسيا الوسطى في السياسة الخارجية.

فتمّ دعم الحزب إبان الانتخابات التشريعية وفي خطوات مواجهة العسكر، وفي غالبية المراحل التي قطعها خلال الأعوام الماضية، إلى أن بدأت تظهر الخلافات بينهما في السنوات القليلة الماضية، حتى انتقلت إلى حرب معلنة، على مختلف الجبهات، قضائياً وسياسياً وإعلامياً، كما نشهد هذه الأيام.

يفسّر لنا أسباب الطلاق أحد أبرز الإعلاميين المرتبطين بـ «حركة الخدمة» في تركيا، ومن الداعمين السابقين لأردوغان، وهو يفضّل عدم الكشف عن اسمه، إذ يرى أنّ أسباب الطلاق تكمن في تلاشي أسباب الزواج؛ فعلى صعيد المعادلة الداخلية تحوّل أردوغان خلال الأعوام الماضية إلى النهج الدكتاتوري الواضح بدلاً من تعزيز الممارسة الديموقراطية، وبدأت تتشكل حوله شبكات فساد، في حين جاء هو بهدف تحجيم هذه المؤسسة الكبيرة والحدّ من انتشارها، لكن الأهم من هذا وذاك أنّ أردوغان «غصّ بنجاحاته»، على حد تعبير هذا الإعلامي، فعاد إلى أجندته الأولى، أي الإسلام السياسي، وبدأ بالعمل على تنفيذها بالتدريج، وفرض الإسلام من خلال القانون والقوة، وهو ما يغاير تماماً تصورات «حركة الخدمة» وفلسفتها الإصلاحية!

أمّا على صعيد السياسة الخارجية، فإنّ أردوغان تحوّل في أولوياته من المجال الأوروبي والأسيوي إلى الشرق الأوسط، وتورّط في مواقف وسياسات مؤيدة للإسلاميين خلقت عداءً لتركيا في المنطقة وأضرّت بمصالحها، من دون تحقيق نتائج استراتيجية واقعية، وفتح النار على إسرائيل من دون أن تمتلك تركيا القوة القادرة على تحقيق التوازن معها!

إذا كانت الملاحظات السابقة تكشف عن التعارض العلني بين الأجندتين والمشروعين، فهي تستبطن جانباً آخر غير معلن في هذا الصدام، وهو شعور «حركة الخدمة»، التي تجعل من امتدادها إلى خارج تركيا، بأنّ تلك السياسات الداخلية والخارجية قد تؤثّر فيها وتضرّ بها، فهي تحرص على تحقيق مشروعها بهدوء عبر القوة الناعمة، الثقافة والتعليم والاقتصاد والإعلام، بينما المواجهات المبكّرة التي دخل بها أردوغان وعودته إلى «أجندة الإسلام السياسي»، كما يرى الإعلامي التركي ستدمّر هذه الجهود وتضرّ بها.

من جهة أردوغان، يرى أكاديمي تركي مقرّب من حكومته، – رفض هو الآخر الكشف عن هويته -، بأنّ الصراع لا يرتبط بخلافات حول الأجندة، بل على النفوذ، فالحركة أصبحت كبيرة وواسعة، وتريد أن تضع الحزب تحت جناحها وفي عباءتها، في حين يرى أردوغان نفسه اليوم زعيماً تاريخياً، أكبر من الحركة والحزب معاً.

ولا يستبعد الأكاديمي التركي العامل الخارجي، فيشير إلى تزامن الهجوم الذي تشنه حركة غولن، الذي يقيم بأميركا، مع الخلافات الكبيرة التي بدأت تظهر مع إسرائيل، واللوبي الصهيوني المؤيد لها في الولايات المتحدة الأميركية، وفي أوساط المحافظين الجدد، ويهمز إلى اللقاءات التي تمّت بين غولن نفسه، في منفاه في أميركا وسياسيين ورجال أعمال أتراك مناوئين لأردوغان، ويرى هذا السياسي أنّ «الطبخة» خارجية والتنفيذ داخلي!

4- الفصل القادم: ميدان المعركة وأسلحتها

وفقاً للأكاديمي المقرّب من حكومة «العدالة والتنمية» فإنّ فتح الله غولن يعيد، اليوم، ترتيب تحالفاته مع الأحزاب العلمانية المعارضة لحكومة «العدالة والتنمية»، ويقوم بتكرار النهج الذي سار عليه في التعامل مع نجم الدين أربكان إبان رئاسة الحكومة خلال الفترة الممتدّة بين 1996 و1997، عندما جعل من نفسه خصماً لأربكان ولحركته ملّي غروش «رأي الأمة»، فالحسابات التي تتحكم بموقف غولن البراغماتي تتعلق بقراءته الواقع الخارجي والداخلي وتقدير حجم القوة والتأثير والنفوذ لحركته وإمكانياتها، وإحساسه بأنّ نجم أردوغان بدأ بالأفول.

المعركة المقبلة بين العملاقين (أردوغان وغولن) تتمثل في انتخابات بلدية إسطنبول التي ستجرى في آذار(مارس)، وقد كان التنافس حاداً دوماً على الفوز برئاسة البلدية الأهم بين حزب «العدالة والتنمية» وحزب «الشعب الجمهوري» العلماني اليساري المعارض الذي وجد الآن في مصطفى ساريجول مرشحاً يتسم بالقوة والشعبية. وفي حال عدم مشاركة أتباع «حركة غولن» في التصويت فقد يترجح احتمال حسم الانتخابات لمصلحة «حزب الشعب الجمهوري»، أما إذا حسم حزب «العدالة والتنمية» بزعامة أردوغان الانتخابات في إسطنبول، فمن المرجح أن يتشجع رئيس الوزراء ويسعى إلى إجراء استفتاء شعبي لدمج صلاحيات الرئاسة ومنصب رئيس الوزراء قبل موعد الانتخابات في الصيف المقبل.

تبدو أسلحة المعركة مختلفة في الفصل المقبل، فحجم تركيا واقتصادها وقوتها العسكرية وموقعها الاستراتيجي، لم يعد يسمح بعودة الانقلابات العسكرية فضلاً عن ضعف ومحدودية التأثير الأميركي في السـياسات الداخلية التركية، فميدان المعركة انتقل إلى الانتخابات والحرب الإعلامية والنفسية والقضاء والقانون، والتنافس والتكسير لم يعد بين أردوغان والتيار العلماني، بل في الوسط المحافظ/ المتديّن نفسه، والمؤشّر الأول هو انتخابات بلدية اسطنبول، التي بدأ أردوغان نجاحاته منها، فهل ستكون مؤشراً إلى تكريس زعامته أم تكسير تلك الصورة من حيث بدأت تبرز!

* كاتبان أردنيان متخصصان في الحركات الاسلامية

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى