غياب الآفاق الإستراتيجية للصراع/ أحمد جابر
بعد أن استوعب النظام السوري اندفاعة معارضيه الهجومية، انتقل هو تدريجياً، إلى وضعية الهجوم. ظهر ذلك على نحو جلي في منطقة القلمون، حيث تمّ انتزاع السيطرة من الخصوم، وهو مازال ظاهراً في وضعية الحصار التي فرضتها القوات النظامية على حمص مثلاً، وفي احتفاظه بمواقع عسكرية مهمة، داخل المناطق الأخرى، في حلب وفي غيرها. إزاء ما انتقل إليه النظام، هجوماً، ارتدت القوى المناوئة، دفاعاً، وفي مقابل الفعل تبدي ردود أفعال، لم تعدّل، حتى تاريخه، من وجهة سير التطورات الميدانية.
من مظاهر الانتقال إلى الهجوم قدرة النظام السوري على المبادرة، فهو الذي بات يحدد ميدان المعركة، وهو الذي يتحكم بمجرياتها. لا يعدّل من هذه الصورة حصول بعض الاستثناءات الميدانية الموضعية، التي لم تصل إلى حد تعديل وجهة التبدلات المتحققة على أرض الصراع. الفوز النظامي الموضعي، بات من صنف المراكمة، التي يؤسس عليها الجيش للانتقال إلى وضعية تطوير المعركة، لرفد النجاح بنجاح آخر، وللاستفادة من توسيع رقعة السيطرة الجغرافية والسكانية، ولضخ «إكسير معنوي»، في صفوف تشكيلاته، وبث «ريح سموم» انكفائية في صفوف معارضيه، على أمل بأن يساهم ذلك في توسيع حالة البلبلة والاضطراب، التي تواكب الإخفاقات في ميدان الصراع القتالي. حتى الآن، توحي حملة النظام، أو تقصد هدفاً محدداً، يتمثل في تبيان انسداد الأفق أمام الخصم، انسداداً استراتيجياً، في مقابل حشد العناصر الملموسة، التي تستعمل في شرح معنى انفتاح هذا الأفق استراتيجياً، أمام خطته العسكرية.
ولكي يكون حساب الاستراتيجي صائباً، أي لكي يكون النجاح الموقت تمهيداً حقيقياً للنجاح الدائم، لابد من توافر عناصر مساعدة عدة، مازال أكثرها غير مؤكد، حتى تاريخه، وبعضها مازال قيد «الرجم في غيب» السياسات، الإقليمية والدولية. هذا الأمر يمنع التسرع في الوصول إلى خلاصة القول: إن السيطرة العامة للنظام على بلده، باتت مرهونة فقط، بتنامي وتسريع عدد من «السيطرات» الجزئية.
ولكي يكون عدم التسرع واضحاً، أو مطروحاً على طاولة المعاينة، تبرز الضرورة إلى الإشارة إلى العناصر الأبرز، التي تجعل التمهل في صوغ الأحكام، سياسة أقرب إلى الواقع السوري الراهن، الذي مازالت مشكلاته تتفاقم طردياً. في طليعة الأسباب التي تحول دون الاستثمار «النوعي»، كما يراكم كمياً، يأتي سبب عدم القبول، الدولي وبعض الإقليمي، الذي باتت بطاقته مرفوعة في وجه لاعبي النظام، هذه البطاقة لم تتجاوز حدود التنبيه والتحذير، لكنها مازالت واقفة على مقربة من حدود المنع والطرد، أو على مسافة غير واضحة منها. حالة الوقوف هذه، يتوزعها الخارج الغربي عموماً، وتتوزع أجزاء منها بلدان الإقليم وبلاد الجوار. يجدر بالمتابع السياسي، في هذا المقام، أن يتحلى دائماً بميزة النظر والنظرة، كي لا يخفى عليه واقع الحركة، الذي يلازم السياسات، ويواكب مجرياتها.
حتى اللحظة، لا يستطيع النظام السوري التعويل على مساعدة خارجية وازنة، تأتيه من خارج حسابات داعميه المعروفين، الذين تتصدر روسيا لائحتهم. روسيا التي تتدخل ميدانياً وسياسياً، مازالت عاجزة عن صوغ رؤية أخرى للوضع السوري، يكون بموجبها النظام «مدعوماً» من قبل آخرين، مدعوماً بمعنى رفع بطاقة الحظر من وجهه، وفقاً لمعادلة أخرى، مجدولة بدمار الداخل، وبقناعة أصحاب البطاقة، بالحدود التي وصل إليها هذا الدمار. كخلاصة: الخارج الدولي مازال صعباً، بالقياس إلى جملة المسارح المتشابكة، التي ترهن حل عقدة معينة، بحل عقد أخرى، ودائماً بالاستناد إلى جدول أولويات خاصة.
الخارج الإقليمي، الذي تحتل إيران وتركيا واجهته، ليس خارجاً سهلاً، وتعويل النظام عليه يختلف باختلاف وجود كل من هذين البلدين فوق خريطة المصالح. إيران تتخذ وضعية الرعاية للسياسة الرسمية السورية، لذلك فهي داعم لين العريكة، لكنها متطلب صعب المراس، إذا ما دق ناقوس النهايات الإستراتيجية. تركيا ليست لاعباً كاملاً «لذاته»، مثلما هي الحال مع إيران، لذلك فإن تقدمها لدعم خصوم النظام مضبوط على إيقاع الحلفاء الأبعدين، ومراوحتها عند كلام سياسي معين، مقصود بها عدم إخلاء الساح تماماً، والبقاء على استعداد سياسي وعملاني فاعل، عندما يتبدل أمر العمليات.
المرور ببلدان الجوار العربي لسورية، تقتضيه النظرة «الجغرافية»، لناحية تلقي التداعيات، والانخراط في سياق حملة الخصومة، أو الاندراج في مسيرة التسويات، وهنا لا يغيب عن البال، أن المجموعة العربية المجاورة هي الأضعف، فوق المسرح السوري، وأن حجم تدخلها اللوجستي، لن يكون مردوده كبيراً، عند توزيع عائدات القطاف السياسي العام.
بناء على ما تقدم، يصير من الأرجح توقع سياسة هجومية متناسلة للنظام السوري، لكن بلا قدرة على التثمير المباشر، على صعيد سياسي عام، وكذلك يمكن ترجيح ارتداد جبهة الاعتراض على النظام إلى سياسة الحد من الخسائر، والاتجاه إلى ممارسة الصمود في مواقع السيطرة الحالية، بخاصة ما يتمتع منها بأهمية حاسمة. خلال ذلك، قد تتكاثر عمليات الإشغال المتنقلة بين جبهة وجبهة، لكنها قد لا تصل إلى مستوى التحول إلى هجوم شامل يستعيد زمام المبادرة.
مأزقان استراتيجيان يلفان سياسات النظام وخصومه، وسلوك الدوران في دوامة التدمير الذاتي، هو المرجح حتى تاريخه.
أما سورية المستقبل فحديث ذو آلام… يعيشه كل الذين يحبون هذه الـ «سورية».
* كاتب لبناني
الحياة