غياب الاصلاح يدفع سورية إلى الانفجار
د. بشير موسى نافع
مرة ثانية، يوم السبت 16 نيسان/إبريل، تحدث الرئيس بشار الأسد مناقشاً أحوال بلاده.
وجه الرئيس ملاحظاته إلى مجلس وزرائه الجديد وأعضاء الحكومة يسجلون تعليمات رئيسهم، بعد أن كان قد تحدث للمرة الأولى أمام مجلس شعبه، وسط صيحات وهتافات النواب بحياته.
بعد أكثر من شهر على انطلاق حركة التغيير الشعبي السورية، بعد أكثر من ثلاثمئة قتيل من السوريين في شوارع درعا وبانياس ومدن ريف دمشق وحمص، وبعد عدد لا يحصى من الجرحى، وبعد اعتقال الآلاف، بمن في ذلك كبار المثقفين وأهل الرأي، تحدث الرئيس مناقشاً أحوال بلاده كما يتحدث مراقب، أو مدير عام لإحدى الشركات أو مؤسسات الاستثمار، وربما أيضاً كمستشرق زائر.
كما في حديثه الأول، لم يوجه الرئيس خطابه لشعبه في هذه اللحظات العصيبة، ولا يعرف متى على وجه اليقين سيتحدث الرئيس إلى شعبه. على نحو ما لا يرى الرئيس أن من الضروري بعد توجيه الحديث إلى الشعب السوري، أو أنه لا يجد من المريح الحديث إلى الشعب مباشرة. ولكن المشكلة لم تكن في الشكل فقط، بل في مادة الخطاب أيضاً.
في حديثه الأول أمام مجلس شعبه، رفض الرئيس تقديم تنازل واضح للمطالب الشعبية، وقال ان القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم (الحاكم جداً)، كان قد أقر حزمة من الإصلاحات منذ ست سنوات، بينها، كما قال، إلغاء حالة الطوارىء، ولكن تغير الأولويات بعد ذلك حال دون تنفيذ قرارات قيادة الحزب. ووعد الرئيس، كما كان وعد عند توليه مقاليد الرئاسة، بأن يقود نهجاً إصلاحياً، مذكراً بأن سورية تواجه مؤامرة تهدد استقرارها ووحدة شعبها واستقلال قرارها وموقفها العربي. ما بين خطابه الأول للمجلس وتوجيهاته الثانية للحكومة الجديدة، كان مئات من السوريين قد قتلوا على أيدي رجال الأمن وعصابات مسلحة مرتبطة بأجهزة النظام. والأهم، أن الثورة الشعبية السورية لم تعد خلال هذه الأسابيع حدثاً مقصوراً على منطقة أو مدينة. انتشرت رياح الثورة لتصل كل مدينة سورية، وبالرغم من سفاهة خطابات الانقسام الداخلي، فربما يجدر التذكر بأن كافة فئات الشعب السوري باتت منخرطة في الحراك الشعبي، مسلمو سورية ومسيحيوها، سنتها وعلويوها ودروزها، وعربها وأكرادها.
وباتساع تغول أجهزة النظام وأدوات قمعه، أعاد السوريون من جديد تذكير العالم بأي صنف من الشعوب هم.
ليس ثمة ثورة عربية إلا وأظهرت شجاعة وبسالة هذه الشعوب عميقة الجذور التي تقطن قلب المشرق العربي ـ الإسلامي. شجاعة السوريين في الواقع هي من نوع آخر، مختلف تماماً. والسبب بسيط؛ فمنذ عقود والسوريون يعيشون تحت سيطرة نظام أمني، قمعي لا يعرف له العرب مثيلاً. ولكن السوريين أخذوا قرارهم المصيري في النهاية، شهدوا رياح الثورة العربية تعصف بجنبات الوطن الذي أحسوا دائماً أنهم قلبه النابض، وأن سورية ليست أقل جدارة بالحرية والكرامة من تونس ومصر واليمن وليبيا.
أضحت سورية تشبه نفسها، تشبه تاريخها ودورها، وأضحت سورية تشبه المستقبل الذي ينبغي أن تكونه. ولكن الرئيس لم يدرك كما يبدو ما يجري في جنبات البلاد التي يقودها، ولم ير فعلاً حقيقة ما ينادي به الشعب الذي يرأسه.
وبعد أيام من الترقب، حبس فيها السوريون والعرب أنفاسهم، انتظاراً لإطلالة الرئيس الثانية، خرج الرئيس ليؤكد على أن أمام الحكومة السورية الجديدة بعضاً من المهام الكبرى، لا تزيد عن التخلي عن قانون الطوارىء، ووضع قانون بديل لمكافحة الإرهاب، وهي المهمة التي لم تكن تحتاج حكومة جديدة على أية حال.
ما تبقى من ملاحظات الرئيس وتوجيهاته لأعضاء حكومته لم يخرج عن مواعظ أخلاقية حول ضرر الفساد البالغ، حول الضرر الآخر المرتب على الاستعلاء على الشعب، وحول ضرورة عدم التسرع في إصدار قانون للأحزاب، نظراً لعمق اثر مثل هذه الخطوة على الاجتماع – السياسي السوري؛ بمعنى أثرها على نظام حكم الحزب الواحد وتمركز السلطة والثروة، أو ما يسمى عادة بالاستبداد.
لا شيء حول دستور سوري جديد، يليق بسورية ويرتفع بخطى الإصلاح إلى مستوى المطالب الشعبية وحجم الحراك الذي تشهده سورية والمجال العربي؛ وليس من اعتذار للشعب السوري عن القتل الأهوج الذي طال أبناءه طوال أسابيع، أو عن الاتهامات التي وجهتها أجهزة الإعلام الرسمية للمتظاهرين المطالبين بالحرية والكرامة وبسورية جديدة. لم يعد الرئيس بالإفراج عن أي من المعتقلين، ولم يعد حتى بالالتزام بالدستور السوري الحالي واحترام حق الشعب في التظاهر، مشيراً إلى أن مثل هذا الحق لا بد أن ينتظر حتى يتم تدريب رجال الأمن على التعامل مع المظاهرات.
ولا شيء حول حل مجلس الشعب، الذي لا يعرف أعضاؤه سوى تمجيد الرئيس والهتاف بحياته، المجلس الذي وقف نائب فيه ليدين أهالي المدينة التي يمثلها، بدلاً من أن يدافع عن حقوقهم ويواسي أحزانهم. هل يمكن أن تنجز مهمة إصلاح في أية دولة في ظل هكذا مجلس؟ كيف يمكن أن يأخذ السوريون وعود الإصلاح المتكررة مأخذ الجد وهم يرون أن مثل هذا المجلس هو من سيراقب خطوات الرئيس نحو التغيير، وهو من سيحاسب حكومة سورية الجديدة. ولم تكن هناك ثمة إشارة واحدة في توجيهات الرئيس إلى سلطة أجهزة الأمن المستشرية وثقيلة الوطأة على حياة الشعب وكيان الدولة، أو إلى دوائر الفسادة والسيطرة على مقدرات البلاد الاقتصادية. ولم يقل الرئيس متى على وجه اليقين سيسمح في سورية بتعددية حزبية، ومتى على وجه اليقين سيفتح النظام أبواب البلاد لعشرات الآلاف من المنفيين. اليقين الوحيد الذي أوحت به ملاحظاته كان التوكيد المتكرر على المؤامرة التي تواجهها سورية.
الرئيس، في الحقيقة، لم يرتق حتى إلى أدنى مستوى من مطالب الإصلاح؛ ولا يبدو أنه يدرك حجم الانقلاب الذي يعيشه المجال العربي وتعيشه سورية. لماذا يعجز رئيس شاب، أتيحت له فرصة تعليم جيد، ومعرفة ملموسة بشؤون بلاده والعرب والعالم، وكان حتى زمن قريب محل إشادة وتقدير من السوريين والعرب، عن رؤية الواقع وتقدير واجباته، أمر لا يمكن الإجابة عليه.
هل أن الرئيس ما يزال على اعتقاده بأن مواقف وسياسات سورية العربية خلال السنوات القليلة الماضية كافية لتسويغ وتغطية نظام القمع والاستبداد الذي يقوده؟ أم أنه بات أسير انقسام عميق وخطر بين دعاة إصلاح قليلي الحيلة من حولة، وقادة أجهزة أمنية وعسكرية نافذين، يرفضون التخلي عن امتيازاتهم وسلطاتهم الهائلة؟ أم أن الرئيس ربما لا يختلف كثيراً عن باقي الرؤساء العرب، الذين ظلوا حتى اللحظة الأخيرة يقنعون أنفسهم بأن بلادهم ليست تماماً كما البلاد التي انفجرت في وجه أنظمتها، وأن شعبهم لا يشبه الشعوب الأخرى التي ارتضت الموت في شوارع المدن على القبول باستمرار الطغيان والتحكم، وأن نظام حكمهم شيء آخر غير أنظمة الحكم التي أطيحت أو توشك أن تطاح؟
رأى الرئيس الأسد الشعب التونسي يسقط نظام الحزب الواحد وحكم بن علي، بدون أن يقرأ الدرس التونسي، ورأى الشعب المصري يضع نهاية لنظام الحزب الوطني وحكم مبارك ولم يقرأ الدرس، ورأى الشعبين اليمني والليبي يخرجان في مواجهة نظامي عبد الله صالح والقذافي ولم يقرأ الدرس.
سمع الرئيس من كبار الوطنيين السوريين، الذين لم يديروا ظهورهم لوطنهم قط، وسمع من أصدقاء سورية من الشخصيات العربية التي لم ترد مرة لسورية سوى الخير والعزة، وسمع من حلفائه في الدول العربية والإسلامية، الذين وقفوا معه في لحظات الضغط الأجنبي الصعبة، ومع سورية. سمع الرئيس طوال الشهور والأسابيع الماضية ولم يستجب.
لم يكن هناك من حاكم عربي، عندما اندلعت رياح الثورة العربية في أيامها الأولى، في موقع أفضل من موقع الرئيس السوري.
تجلت الثورة العربية في خروج مهيب للشعوب العربية، لم تعرف له المدن العربية العتيقة مثيلاً له في تاريخها. وبخروج الشعوب العربية الكبير، يعاد بناء العلاقة المختلة منذ زهاء القرن من الزمان بين الداخل والخارج، بين المجال العربي وشعوبه، والقوى الغربية التي طالما عبثت بمقدرات العرب وشؤون بلادهم. وكانت سورية على وجه الخصوص تحسب باعتبارها الدولة العربية التي لم تقبل الخضوع لموازين القوى المختلة، الدولة التي احتضنت المقاومة الفلسطينية، وساندت المقاومة اللبنانية، ولم تقبل بتأييد غزو العراق، ولا هي خشيت الانتشار العسكري الأمريكي في المشرق.
ولم يكن خافياً أن الجماهير التي أطلقت حركة الثورة العربية الكبرى منذ بداية هذا العام تنظر إلى سورية نظرة مختلفة. كان بإمكان النظام السوري أن يقابل التقدير بالمسارعة في تحقيق مطالب الإصلاح، والحفاظ على موقع سورية ودورها الريادي في طريق الإصلاح والتغيير، كما كان دورها في مواجهة المخاطر الأجنبية. ولكن الدول المستبدة كما يبدو غير قادرة على إصلاح نفسها؛ دول الحكم الشمولي لابد أن توجه بإرادة الشعب وقوته.
إن كان ثمة من مؤامرة تواجهها سورية، فمنبعها بلا شك سياسة الرئيس ونظامه في التعامل مع الحراك الشعبي السوري. عندما أصدر الرئيس أوامره يوم الجمعة 15 نيسان/ابريل بعدم إطلاق النار على الشعب، مر اليوم بسلام نسبي، واختفت العصابات المسلحة التي اعتادت إطلاق النار على الشعب ورجال الجيش.
كما أن قوى الأمن هي منظمات رسمية، فالعصابات المسلحة تعمل بأمر الحكم ولحساب رجاله. أسطورة الاختراق المسلح لأمن سورية أو دولة السلفيين لا يصدقها كما يبدو إلا أركان النظام.
ما تشهده سورية لا يختلف في كثير أو قليل عما شهدته تونس ومصر وتشهده ليبيا واليمن، اللهم إلا في حجم بسالة السوريين الذين قرروا مواجهة آلة القمع والسيطرة الهائلة. وبوصول رياح الثورة إلى سورية، حيث ولدت الفكرة العربية للمرة الأولى في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، تكون حركة الثورة العربية قد أكدت هويتها ومداها.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي