صفحات الثقافة

غياب كارلوس فوينتيس الذي اغتال الموت مجازياً


رقصة المعمِّر الأخيرة

    رلى راشد

انها لمصادفة منطقية أن يلفّ الموت من تجاسر على اغتياله مجازياً. قبل أيام، تهكم الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس بالغياب الجسدي في صحيفة “ايل باييس”. بدا رجل الثلاثة والثمانين عاما، رجل الثلاثة والثمانين ربيعاً في تحامله على منطق الذبول الجسماني، على هامش معرض الكتاب في العاصمة الأرجنتينية. لم يدرك الناقم على المخاوف الأدبية والمتحرر من رهاب الورقة البيضاء، أن أسبابه للاستمرار حياّ – الكتب وزوجته وأصدقاءه ومصادر شغفه- لن تكفي لمنع صفحة السيرة الأخيرة، من أن تطوى.

حلّت المقابلة كرسالة الى الكتّاب المبتدئين، إذ أفضى فوينتيس بأنه يطبّق نظاماً يطيل أمد الشباب، قوامه العمل المضني واستبقاء مشروع غير مكتمل. والحال انه كان فرغ للتو من بحث “فيديريكو في شرفته”، وكان يحضّر لمؤلف “رقصة المعمّر”. قُدِّر لنص فوينتيس المنبثق من تربة اميركا اللاتينية، أن يبث الحنق الكامن في روح الفقراء والأسلاف المضطهدين الى المحطمين ومنبوذي الحضارة والتاريخ معاً. في أعقاب مسار أدبي مديد زرعه بنحو ستين مؤلفاً في الرواية والبحث والكتابة الدرامية، سخّر في 2011 تجربته في بحث دقيق وشفّاف عنونه “رواية اميركا اللاتينية العظيمة”.

ظل فوينتيس مرشحاً دائماً الى نوبل الآداب ولكنه حاز مجموعة من الجوائز الأدبية في تخومها، من بينها “جائزة ثرفانتس” (1987) وجائزة “بارسيلو فورمينتور للآداب 2011”. اتبع المبتسم السرمدي مسيرتين مهنيتين موازيتين: الديبلوماسية والادب، وحدا به تأثره بنص الارجنتيني خورخي لويس بورخيس الى اعتماد الاسبانية لغة روائية بعد فترة ضياع حار فيها بين لغته الأم والانكليزية المكتسبة، ليخصص المكسيكي للارجنتيني تجربة “بورخيس متحركاً” الواقعة بين التكريم والمحاكاة. غير ان الافتتان لم يثنه عن انتقاد تعايش بورخيس النابغة الأدبي مع الغبي السياسي. لم يكن ليبرر للارجنتيني تأييده مواجهة القوى المسلحة المكسيكية للحركة الطالبية في ساحة الثقافات الثلاث في 1968.

يقرّ الديبلوماسي ابن الديبلوماسي بأن قلبه ينبض في اتجاه اليسار، غير انه يسار غير متطرف. بحث في الأزمة السياسية التي تسبّب بها الرئيس بوش وندّد بغطرسته في كتاب سمّاه من دون مواربة “ضد بوش”. وإذا سئل فوينتيس عن حق اليسار في الوجود عقب الخيانة والانتهازية والسلبية، أجاب: “اؤمن باليسار وبانتصاراته وكفاحه ضد الفاشية في اوروبا والولايات المتحدة واميركا اللاتينية”، ليعيد البوصلة الى الادب ويشير الى ديموقراطية يسارية تجلّت بالشاعر اوسيب ماندلستام، فضلاً عن ميلان وكونديرا وكونراد.

ساهم فوينتيس في تحديد وجهة الرواية اللاتينية ومنح صاحب “غرينغو العجوز” صوتاً لناس الشارع ليعبّروا عن أنفسهم فرادى وليس كمجموعات متراصّة. خلت مجموعته القصصية “كل العائلات السعيدات” من المغتبطين، في حين حامت الشياطين في سماء بلاده كنبوءة مقلقة، في اكمال لنقاشه الثقافي في شأن “الماهية المكسيكية”.

في كل سنة يعيد فوينتيس قراءة “ايل كيخوتي”، اول رواية عصرية في رأيه، لتقديمها اسبانيا غير قابلة للاصلاح. على مثال قارئ قصص المغامرات الذي يمتطي فرسه المنهكة، رغب فوينتيس في احياء العالم المفقود ليصطدم بالمعيش. جرّبه في اقذع الاشكال، في موت تذكر ابنه واسمه كارلوس ايضا، في الخامسة والعشرين. ليوفق كتاب “بورتريهات الزمن” بين نصوص الأب العابقة بالحميمية وصور الابن بالابيض والاسود، حيث التقط كارلوس الابن بعدسته صور المقرّبين من والده من مثل غبريال غارثيا ماركيز ووليم ستايرون وسوازن سونتاغ.

حلم فوينتيس بكوكب مثالي يسكنه الكتّاب حصراً، وفي حين نبهّه غارثيا ماركيز الى ان المكان موجود واسمه الجحيم، لم يرغب في التصديق. لم يملك فوينتيس قلباً بسيطاً بمفهوم فلوبير بل قلباً حساسا، لا يفقد الايمان بقدر الأدب الميسياني.

كارلوس فوينتس .. الرحيل للقاء المستقبل

اسكندر حبش

وجه آخر غاب، من الوجوه الكبيرة الأساسية في الأدب المعاصر في العالم. كارلوس فوينتس اللحظة الكبيرة المنيرة في أدب المكسيك وأميركا اللاتينية. رحل ليل الثلاثاء – الأربعاء نتيجة مشكلات في القلب، عن عمر 83 عاما. برحيله، لا بدّ من أن تنتظر بلاده فرصة أخرى كي تتربع على عرش نوبل، إذ غالبا ما طُرح اسمه كفائز محتمل بها.

منذ أعماله الأولى (تُرجم قسم كبير منها إلى العربية) عرف كيف يبني عملا أدبيا، هو أكثر الأعمال موافقة للتساؤل حول الكذب (بمعنى التخييل الروائي)، إلا أنه في الوقت عينه، أحد أكثر الأعمال التي تستطيع أن تكون نشيدا للأمل (من يمكن له أن ينسى رواية «موت أرتيميو كروز» أو «كرسي الرئاسة»، على سبيل المثال). وبما أنه كان أحد المعجبين بفيكو (جيوفاني باتيستا، فيلسوف وسياسي إيطالي ومؤرخ من القرن التاسع عشر، ناقد للعقلانية الحديثة ومدافع عن العصور الكلاسيكية) الذي اعتقد أن الزمن ليس أفقيا، اقترح فوينتس علينا، في أدبه، الذهاب للقاء ماضي المستقبل كما مستقبل الماضي، أي بمعنى آخر اقترح أن «نرتدي ثياب أبي الهول للعيش في الحاضر» (وفق ما ذهب إليه في كتاب «ما أعتقده»).

صحيح أنه اعتبر نفسه شخصا «كوسموبوليتياً»، وميله للرحلات كان شبيها بميل بورخيس للمكتبات، إلا أنه بقي مكسيكيا في العمق. أقصد، لو عدنا قليلا إلى الماضي، لوجدنا أن د. أتش. لورانس في كتابه «الصباحات المكسيكية»، كما ألدوس هكسلي في «من الكاريبي إلى المكسيك» و«إيميلو شيكي في «مكسيكو» ساهموا في إضفاء هذه الصورة التي نعرفها عن المكسيك اليوم. لذلك، كيف يمكننا أن «نموضع» عمل فوينتس في مواجهة هذه النظريات الخارجية، «الغربية»؟

تشكل هذه النقطة أكثر الموضوعات المتواترة في أدب فوينتس، أي كان يبحث عن هذه «المكسيك» التي وصفها «هامبولدت» يوماً بأنها «المنطقة الأكثر شفافية» (وقد جعل فوينتس نفسه، من هذا التعبير عنوانا

لروايته الأولى) والتي تأتي مخالفة لما ذهب في اعتباره، كاتب مكسيكي آخر هو أوكتافيو باث (نوبل للآداب 1989) أنها «كلاسيكية، نبوية، تدافع عن المتخيل أي عن الشعر، وفي النتيجة عن الكائن البشري» أي «تجتهد في تأخير الرجوع إلى كابوس البدايات»؟

إزاء هذا، اعتبر فوينتس أن الهنود المهزومين أصبحوا المنتصرين الحقيقيين، لقد نجحوا في البقاء على قيد الحياة ونجحوا في فرض أنفسهم «في الليل، في السواد، في الأنفاق». أي إن بديهية هذه الثقافة عادت لتفرض نفسها، عادت لتصبح «الثقافة المقدسة». مقدسة في هذه «الباروكية» التي ردمت الفراغ الذي خلفه الصراع الذي تواجه فيه المنتصرون والمهزومون، في «عذراء الغوادولوب»، أي في هذا الوجه الهندي الذي لم تستطع أن تمحوه الصورة «الكاثوليكية للسيدة العذراء». من هنا، وعلى الرغم من «الفتوحات» ونتائجها، استطاعت الروح الهندية أن تحيا مع ثقافتها الخاصة.

بهذا المعنى يبدو فوينتس ذلك «المكسيكي» الكبير، بمعنى أن اللغة والفضاء (الجغرافي) ليسا سوى عالم واحد من النداءات والأجوبة، أي هذا العالم الذي لا يشكل فيه الإنسان ذلك الكائن الاستثنائي الذي مجدته النهضة، بل تلك اللحظة المميزة للحوار بين الفضاءات المختلفة. هذه النقطة هي التي قادته إلى «الباروكية»، لذلك نجد أن عمله ينفتح على عالم من دون إله، لكنه عالم لا نهائي يبدو الله فيه في كل مكان. إنه رب متعدد، خلاسي، من جميع الأزمنة ومن جميع الثقافات، كي نجد أن الإنسان يقف في موقعه بالضبط: إنه يفكر في الكون، وفي تفكيره هذا يفهم أن التفكير يتخطاه أو بالأحرى أن «اللامفكر به هو جزء لا يتجزأ من الإنسان، لأنه السمة التي لا يمكن دحضها عن وجود الله.

مع رحيله، ثمة صفحة حقيقية تقلب. صفحة كاتب لو يتوقف يوما عن طرح الأسئلة حول «أناه» كما حول العالم، عبر كتب متنوعة، من الصعب أن تسقط من الذاكرة.

وداعا كارلوس فوينتس.. غابت شمس المكسيك السادسة

أحد آخر عمالقة الأدب في أمريكا اللاتينية:

غرناطة ـ من محمّد محمّد الخطّابي: الكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فوينتس، الذي توفي بتاريخ 15 مايو 2012 كان يعتبر من أعظم الكتاب المكسيكيين الذي حلّق عاليا فى سماء الآداب الناطقة باللغة الإسبانية لمدّة عقود كثيرة خلت، سواء في أمريكا اللاتينية، أو فى إسبانيا بل ان شهرته تخطّت هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة إلى العالم.

لكارلوس فوينتس كتاب تحت عنوان ‘شموس المكسيك الخمس’ وهو نوع من الأنطولوجيا او دراسة مستفيضة حذا فيها حذو كتاب آخرين مثل ألفونسو ريجيس وأوكتافيو باث، وكان الهدف وراء هدا العمل الأدبي هو إكتشاف روح المكسيك ، وإستكناه أغوارها وأعماقها ،وتسليط الأضواء على تاريخها ومعاناتها، بدءا بعالم الأزتيك والمايا،حيث يأخذنا فوينتس فى جولة تاريخية نقدية تحليلية لمختلف الأساطير القديمة فى بحر تاريخه، وتأمّل اهراماته التي اقامها المايا الذين أصبحوا بعد الإكتشاف(الغزو) يؤلفون مجتمعا مركّبا تركيبا معقّداومجزّءا فى وقت واحد وهم يدخلون عالم الثورة المعاصرة. مشاهد تترى نصب أعيننا من الدم والموت منذ وصول الإسبان إلى العالم الجديد،ويطلق المؤلف على ذلك مصطلح’ ضد الإكتشاف’ او ‘الإكتشاف المناقض والمناهض للإكتشاف’، ويشير فوينتس:’إنّ غارات كتائب ‘سانشو فييّا’ في شمال البلاد ، ومحاربي ‘إميليانو زاباتا’ فى الجنوب جاءت كردّ فعل عنيف على موت ‘شمس المكسيك الخامسة’ حيث مات معها العالم المكسيكي للسكّان الاصليين الهنود. وهذه الشموس الخمس مستمدّة من الاساطير المكسيكية القديمة.

ويحاول فوينتس أن يقدّم للقارئ تفسيرات ورموز بعض أعماله ، فيبدأ بفصل من كتابه ‘الأيّام المصنّعة’ (1954) ثمّ ينتقل إلى رواية ‘الجهة الشفّافة’ (1958) ثم تواجهنا نصوص ترجع بنا إلى كتابه ‘موت أرتيميو كروث’ 1962)، و’غنائية العميان’ (1964)، و’رضنا’ ،(1975)، و’الغرنيغو العجوز’ (1985)، التي تحوّلت إلى فيلم. و’أيّام مع كورا رياث’ (1999) وفى حالة واحدة وهي كتابه ‘ المرأة الدفينة’ يخبرنا فوينتس أنّ نصوص هذا الكتاب قد تمّ توسيعها حيث تطفو على سطح هذه النصوص جميعها مواضيع ومشاهد وأحداث لها صلة بهذا البلد الأمريكي اللاتيني الكبير وهو فى طور التكوين خلال ‘الإكتشاف’ فضلا عن معالجته لإشكالية اللغة والهويّة.

الحلم بالماضي

وبخصوص المزج بين الرواية والتاريخ فى كتابه أشار كارلوس فوينتس إلى طرفة وقعت للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا مركيز وفيردريك فورسايت بخصوص رواية هذا الأخير ‘إبن آوى’، فقد هنّأ مركيز فورسايت على روايته ولكنه حذّره من :’ أنّ الكتاب يتضمّن خطأ فادحا . فسأله فورسايت: ما هو ؟ فأجابه: أنّ ديغول لم يقتل . فأردف فورسايت قائلا:حقّا إنّ الجنرال قد خرج بسلام من عملية الإغتيال ، فقال مركيز عندئذ : آه ،ولكن إذا كنت قد قلت فى روايتك انّهم قتلوه بعد مرور مائة سنة فتلك ستكون الحقيقة.

وقال فوينتس إذا كان الكاتب الفرنسي ميشيليت قد قال :إن الشعب له الحق فى أن يحلم بمستقبله، فإنّنى أقول إن الشعب له الحق كذلك أن يحلم بماضيه. أن تحلم بالماضي، أن تجعله حيّا أمامك.إنّ فوينتس مقتنع أنه ليس هناك حاضر حيّ، ولا ماض ميّت .

ويشير فى كتابه أنه عندما كان يحاضر فى جامعة هارفارد الأمريكية كان يحدّث تلامذته الأمريكيين عن تاريخ المكسيك وسكّانها الأقدمين، فكان يعود بهم إلى تاريخ الإغريق والرومان فكانوا يقولون له: لماذا تذهب بعيدا ؟ فكان يسألهم إذن متى يبدأ التاريخ بالنّسبة لهم ؟ فكانوا يجيبون جميعا 1776 أي أنّ تاريخهم يبتدئ بعد الإستقلال ، إستقلال أمريكا، وقبل ذلك فليس هناك تاريخ.

إنّ التاريخ حسب فوينتس يقوم على المنطق،فى حين أنّ الأدب ينطلق من المشاعر والأحاسيس، والادب يسمح للشعوب بل يحثّها على أن تحلم بماضيها ، والحفاظ عليه حيّا نابضا.

كان القرن العشرون ،كما يبيّن فوينتس هو تاريخ البحث المضني عن الماضي، ومحاولة تكييفه مع الواقع الجديد، أي إسترداد الهويّة الضائعة بعد القطيعة التي أحدثتها التدخّلات الأجنبية إسبانية كانت أم فرنسية أم إنكليزية أو أمريكية ، التي كانت تقدّم وجبات جاهزة لجمهوريات نيسكافية ، أي ‘ديموقراطية’ حسب النموذج الغربي لا تتوافق ولا تستجيب لمطالب بلدان أمريكا اللاتينية المعذّبة.

وكان لزاما على هذه البلدان أن تبحث عن هويّتها الضائعة التى تجسّدت فى كتابات كبار كتّابها ومبدعيها ، ولكن بعد بحث مضن إستمرّ زهاء خمسة قرون، أي بعد أفول خمس شموس.

قصص للعذارى

للكاتب الراحل مجموعة قصصية بعنوان ‘كونستانسيا وقصص أخرى للعذارى’ هذه المجموعة تجمع العديد من أعمال فوينتس، إننا واجدون فيها فوينتس السوريالي منذ قصصه الأولى التى تناول فيها قصص الهويّة المكسيكية مثلما عمل كل من أوكتافيو باث، وصمويل راموس، كما نجد في هذه المجموعة نفس فوينتس المثقل بالهواجس والقلق والإنشغالات التي صاحبته فى مختلف أعماله، فنلتقي بالتالي بالموت ومدينة مكسيكو والشرائح الإجتماعية المختلفة ونوازع الخير والشر.

نظرة فوينتس فى هذه المجموعة إتّسمت بالجديّة والجديد،وقد راعى فيها التحوّلات السياسسة والإجتماعية للمجتمع المكسيكي والأمريكي والإسباني. وهو يتناول هذه التحوّلات بالتحليل الدقيق ليس للأوساط والثقافات المذكورة وحسب، بل بقدرة فائقة على تعرية أوجه ثقافات أخرى ورصد ملاحظات ذكيّة سواء فيما يتعلق بأفراد أو جماعات أو بلد أو قارة ،العنوان فى حدّ ذاته ‘كونستانسيا وقصص أخرى للعذارى’ تبيّن أنّ المراة تشكل عنصرا مهمّا فيها ، وهكذا نجد كونستانسيا تتأرجح بين الحياة والموت ،كما نجد المرأة تموت فى قصة ‘أمير لوماس’ أما ‘عاشت سمعتي’ فتقدّم لنا نصّا أكثر قلقا وعمقا ضمن المجموعة. المرأة إذن في هذه القصص مسكونة بالموت ليس كمصير فردي بل كعنصر متّصل. فالموت هو التفصيل المباشر للحياة أو الجانب الآخر لها. كما تولي المجموعة قيمة كبرى وأهميّة قصوى للمعارف الغيبية. إلى جانب العلم، تلك المعارف لا تأتينا من إعمال العقل المباشر بل من الجوانب العميقة أو الدفينة فينا ،أو من ماضينا البعيد أو من تاريخنا الغابر السحيق.

ويعتبر عنصر الزمن جانبا آخر ذا أهمية في هذه القصص، وليس المقصود هنا بالزمن المتوالي بل زمن لا يخضع للقوانين الفيزيائية ، ولا ينصاع للنواميس الطبيعية . فالأمس يلج فى اليوم محطّما كل الحواجز ،وهذا المزج يخلق جوّا من الغموض والسحر ، ويظهر لنا هذا في قصة ‘عاشت سمعتي’ إذ نجد شخصيتين تاريخيتين متباعدتين فى زمن وجودهما(روبين أوليفيا فى القرن العشرين) و(بيدرو روبيو فى القرن الثامن عشر) يلتقيان فى وقت مّا من الزمن. كما نجد كونستانسيا فى القصة تحمل الإسم نفسه ، مع أنّها تنتمي إلى زمنين متباعدين، زمن الحرب الأهلية الإسبانية، والزمن الحاضر. يطرح فوينتس علينا فى هذه النصوص التساؤل التالي:هل يوجد في الأمس ذنب ينبغي التكفير عنه ؟

بين فوينتس ورولفو

على إثر صدور كتاب كارلوس فوينتس ‘العالم الجديد الشجاع’ (الحماسة، الخيال، والأسطورة في الرواية الأمريكية اللاتينية) بعث الكاتب المكسيكي ‘غيابا تيستافيكو’ برسالة الى فوينتس يعاتبه على بعض الآراء الواردة فى نصوصه حول الكاتبين المكسيكين الكبيرين ‘خوان رولفو’ و ‘ماريانو أسويلا’ حيث لم يكن رولفو يخفي غيضه بشأن بعض هذه الآراء التي كان يراها متطرفة فى الغلوّ حول بعض أعماله وأعمال أسويلا، فعندما أفرد فوينتس فى هذا الكتاب ما يزيد على عشرين صفحة من النثر الوضّاء حول رواية ‘بيدرو بارامو’ الشهيرة انزعج رولفو قائلا : لقد حوّل فوينتس ‘ بارامو’ إلى شخص رومانتيكي يموت نتيجة الجرح الذي فتحه فى حبّه المستحيل ل:’ سوزانا سان خوان’، لقد راقني هذا الإجتهاد إلا أنّ ذلك غير صحيح فبيدرو بارامو إنما قتله عداؤه لنفسه ذاتها،إنه رجل يكره الجميع وهذه الكراهية التى تغلفه قد إنقلبت ضدّه فيقتل فوق نفس الأرض التي طالما زرع فيها بذورالأحقاد والضغينةعلى امتداد عقود من القساوة والإستبداد. ويعتب رولفو على الخيالات والتوهمات المتشابهة فى نصوص فوينتس إذ هو لا يمكن أن يكون بالضرورة عالما بشؤون التربية والأمراض التي تفتك بالإنسان إلى جانب علوّ كعبه فى الفنّ الروائي. كما ذهب فوينتس فى هذا الكتاب أن رواية ‘القاطنون فى الأسفل لأسويلا’ هي ‘ذات حماسة منحطّة’ فهي تكرّر الحماسة على نفس طريقة ‘السيد’، وكان رولفو يستشيط غضبا إذ لم يكن يؤمن بأن ‘أسويلا’ يمكنه قول ذلك فهو أبعد ما يكون عن هذا الهراء أو الوقوع فى هذا الإسفاف، يذهب فوينتس فى كتابه :أن ‘سانشو فييّا’ يظهر في ‘القاطنون فى الأسفل’مثل ‘السيد’ من نوع جيّد أو مثل نابليون مكسيكي، فى الوقت الذي يقول فيه أن ‘فييّا’إنّما هو صقر أزتيكي ينقضّ ويغرس منقاره الفولاذي فى رأس الأفعى ‘ فيكتوريا نوويرتا’والمغزى هنا ذو سخرية عميقة فأسويلا فى الواقع إنما كان يضع قدميه في حقل ملغوم لمواجهة أنصار ‘فييّا’الذين كانوا يسيطرون على مدينة ‘ خواريث’ ولا يتعلق الأمر بإزاحة أصنام أو إستبدالها بأخرى وإنما كان أسويلا يساهم فى تأجيج أوار الثورة، وكان فوينتس خاطئا: هذا ما قاله رولفو نفسه عندما كان على قيد الحياة (توفي 1986).

بين فوينتس ونيرودا

كان فوينتس يشعر بمحبة وميل كبيرين لشيلي ليس فقط باعتبارها موطن الشاعر الكبير بابلو نيرودا بل بحكم أنه عاش فيها ردحا من الزمن خاصة سنوات عمره الأولى كما يقول.

وهو يعتبر شيلي ليس موطن الشعراء المجيدين فى أمريكا اللاتينية وحسب مثل ويدوبرو، ميسترال، نيرودا، بارّا، روخاس، بل والروائيين كذلك أمثال دونوسو، إدواردز، دورفمان، فوجيت، وفرانز. يخبرنا فوينتس انه عاش فى هذا البلدعندما كان عمره يتراوح بين 11 و15 سنة ، وبها نشر أولى نصوصه الادبية المبكرة حول شخصيات ادبية وتاريخية فى تشيلي منها فرانسيسكو بيلباو الذي كان أوّل من استعمل مصطلح أمريكا اللاتينية عام 1857. ويشير فوينتس أنه خلال هذه الفترة من حياته إلتهم العديد من الكتب والدواوين لكبار الشعراء التشيليين فى مقدّمتهم بسينتي ويدوبرو، وغابرييلا ميسترال (المرأة الوحيدة التي حصلت على نوبل فى الآداب فى امريكا اللاتينية 1945) وبول فاليري هو الذي كتب مقدمة الطبعة الفرنسية لديوانها. و يصف فوينتس بابلو نيرودا بأنه أعظم شاعر فى القرن العشرين فى العالم الناطق باللغة الإسبانية. ويحكي لنا طرفة عن مدى تغلغل نيرودا فى الاوساط الشعبية التشيلية ، فيقول كنت ذات مرّة اتجوّل على ضفاف نهر ‘بيوبيو’ وعندما بدأ الليل يرخى سدوله، رمقت مجموعة من العمّال مجتمعين حول نار مشتعلة فتناول أحدهم قيثارة وبدأ يعزف، ثم انطلق صوت عامل آخر وطفق ينشد مجموعة من أشعار نيرودا على شرف أحد المناضلين من اجل استقلال تشيلي ، فدنا منهم فوينتس وقال لهم : الشاعر نيرودا لابدّ انّه كان سيسرّ كثيرا إذا علم أنكم تغنّون اشعاره، وأمام ذهوله وذهولهم قالوا: أيّ شاعر. فهم لم يكونوا يعرفون أن هذه الأشعار من نظم نيرودا، وهنا تأكّد لفوينتس مدى تغلغل هذا الشاعر فى شرائح الشعب التشيلي على اختلاف طبقاته وتحوّلت اشعاره إلى صوت جماعي متواتر يحفظه ويردّده الشعب عن ظهر قلب مثل الحكم والأمثال.

فوينتس والأندلس

يشير كارلوس فوينتس فى مجال التأثير العربي والإسلامي فى إسبانيا فى كتابه ‘سيرفانتيس أو نقد القراءة’ الصادر عن دفاتر خواكين مورتيت (ميكسيكو1976): ‘ أنه من العجب أن نتذكر أنّ الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرومان الضائعين عمليا فى المناطق الأوربية قد إستعادوا مواقعهم وحفظت أعمالهم بفضل ترجمتها إلى اللغة العربية، فضلا عن العديد من الإبتكارات العلمية والطبية، في الوقت الذي كانت فيه أوربا مريضة ويتمّ علاجها بواسطة التعزيم والرقيّة والتعويذ، ويضيف : ‘فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوربا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعمارية الموريسكية، حيث أصبحت فيما بعد من العناصر المميّزة لخصائص الهندسة القوطية’ وعندما يتحدّث فوينتس عن هذا الموضوع فإنه يضع أمامه العديد من نماذج المعمار فى بلاده المكسيك التي ظهرت فيها الخصائص ذاتها التي تستمدّ أصولها من المعمار العربي إسلامي.

كان فوينتس من أهم الروائيين فى المكسيك وفي أمريكا اللاتينية فى القرن العشرين على الإطلاق، وتعتبر أعماله الروائية والنقدية أساسية فى تاريخ بلاده المكسيك وإسبانيا، خلف لنا ما يربو على عشرين رواية. تقلد كارلوس فوينتس عام 1975 منصب سفير لبلاده المكسيك في فرنسا، ثم سرعان ما طلب إعفاءه من هذا المنصب عام1977 ، إحتجاجا على سياسة بلاده .

قال صديقه الكاتب الكولومبي الكبيرألفارو موتيس:’إن وفاته كارثة عظيمة بكل المقاييس، وصرّح مسؤول عن دار النشر المعروفة ‘ألفاغوارا’ أن فوينتس ترك كتابين له جاهزين للنشر، الاوّل تحت عنوان ‘شخصيّات’ والآخر رواية بعنوان: ‘فيديريكو فى شرفة منزله’ وهو عبارة عن حواريات مع فيردريك نيتشه، وقال عن وفاته كذلك العالم رينيه دروكر: إن فقدانه ضياع رجل عظيم ، لقد كان له تأثير كبير فى مختلف الأوساط فى بلده وخارجها ليس في مجال الأدب وحسب، بل في السياسة أيضا إذ كان لمواقفه كمفكر تقدّمي أبعد الآثار، كان من أبرز رجالات المكسيك في العقود الستة الماضية’. ويرى دروكر أن كتاب فوينتس ‘الجهة الأكثر شفافية’ يعتبر من أعظم أعماله الأدبية، بل هناك من يعتبره قمّة من القمم الأدبية فى المكسيك، بل حجر الاساس ليس فى الادب المكسيكي فقط ،بل فى تاريخ الأدب قاطبة’.

يوم الإثنين الماضي فقط أقيم آخر تكريم لفوينتس من طرف جامعة جزر البليار الإسبانية، وكان قد عاد لتوّه إلى بلده من رحلة إستغرقت شهرا كاملا شملت العديد من بلدان العالم حيث زار الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل والأرجنتين وشيلي، ولكن الموت باغته على إثر عودته .

حصل فوينتس على العديد من الجوائز التكريمية والأدبية من مختلف بلدان العالم منها جائزة ‘سيرفنتيس’ في الآداب الإسبانية(1987)، وجائزة ‘ أمير أستورياس’ فى الآداب (1994)، الجائزة الوطنية المكسيكية (1984) وسواها من الجوائز الاخرى.

رحيل الكاتب الكبير كارلوس فوانتس:

دونكيشوت الأدب المكسيكي

                                            كوليت مرشليان

رحل الكاتب المكسيكي الشهير كارلوس فوانتس مساء الثلاثاء الماضي عن عمر ناهز الثالثة والثمانين بعد مشاكل صحية جراء اصابته بأمراض في القلب.

وقد نعاه رئيس البلاد وتصدرت صوره المواقع الالكترونية مع نبأ وفاته مع عناوين عريضة تؤكد اهميته الأدبية التي بناها وأقرانه من عمالقة الأدب في اميركا اللاتينية.

وفوانتس المولود في بانما سيتي لأبوين مكسيكيين يعد من أكثر الأدباء شعبية في بلاده وقد رشح مرات عدة لجائزة “نوبل للآداب” وهو ايضا ديبلوماسي وملتزم خط اليسار منذ بداياته. وقد عرف بانتقاداته الحادة واللاذعة لسياسات الولايات المتحدة وبشكل خاص تلك المتعلقة بالهجرة اليها والتي جسدها في روايته “الحدود الكريستالية”.

وقد أعلن وفاته الرئيس المكسيكي فيليب كالديرون في صفحته الشخصية على موقع “تويتر” الالكتروني وكتب: “أشعر بأسف عميق لوفاة عزيزنا كارلوس فوانتس، وهو كاتب عالمي ومكسيكي. لترقد روحه بسلام”.

وفوانتس المولود في 11 تشرين الثاني 1928، كرسته روايته الأولى وكان في الثلاثين وعنوانها “المنطقة الأكثر شفافية” وعندما نال عام 1987 “جائزة سيرفانتس” الشهيرة، اطلق عليه لقب “دون كيشوت المكسيك”.

وعاش فوانتس طفولة متنقلة لأن والده كان ديبلوماسياً تلحق به العائلة حيثما انتقل، فترك ذلك اثراً في نفس الطفل المكسيكي الذي ولد في الباناما وكان يعشق السفر في القطارات والطائرات والبواخر، وسرعان ما استقرت العائلة في لندن عام 1986 حيث بقي سنوات طويلة.

وكان يقول عن نفسه: “انا أعشق الأسفار تماماً كما ان بورخيس يعشق القواميس والموسوعات”. شغل منصب سفير المكسيك في باريس بين 1974 و1977 وحين نشر سيرته عام 1988 في اميركا كتب فيها ان “ثمة فارقاً كبيراً بين المكسيك الحقيقية والمكسيك المتخيلة التي كتب عنها في السيرة”.

ومن أشهر مؤلفاته: “أيام الكرنفال”، 1954 “المنطقة الأكثر شفافية” 1958، “الضمائر الجيدة”، 1959، “موت آرتيميو كروز” عام 1962 وهي من أجمل مؤلفاته، تلتها رواية “آورا” في العام 1962 ايضاً.

كما له “أغنية العميان” عام 1964، “منطقة مكرسة” (1967)، “تغيير الجلد” (1967)، “عيد المولد” (1969)، “الأعور هو الملك” عام (1970) “المياه المحروقة” (981)، “زهرات الاوركيديا على ضوء القمر” (1982)، “غرينغو العجوز” (1985)، “الريف الاميركي” (1990)، “احتفاليات الغجر” (1990)، “شجرة الليمون” (1993)، “غريزة إيناس” (2001)، “مقعد النسر” (2003).. الى جانب عشرات من الدراسات السياسية والاجتماعية والأدبية الجريئة ابرزها: “زمن جديد للمكسيك” (1994)، “شموس المكسيك الخمس” (2000)، “ضد بوش” (2004) وغيرها…

كتب فوانتس الرواية والنصوص المسرحية المميزة والقصص القصيرة والحكايات الشعبية التي احتفل من خلالها بخصوصية القارة الأميركية القائمة حسب رأيه على الكارثة الاستعمارية وعلى نشوة الحلم بعالم جديد. واحتفل في اكثر من كتاب بتاريخ بلده المكسيك وبحاضره وحث كتّاب القارة الاميركية على العودة الى الجذور والى النبع والحكايات الشعبية للاستلهام منها، وفي المشهد الأدبي في اميركا اللاتينية طوال السنوات الأخيرة بدا فوانتس الى جانب الكولومبي غارسيا مركيز والبيروفي ماريو فارغاس يوسا الذي كرست جائزة نوبل مؤخراً مسيرته والأرجنتيني خوليو كارتازار.. جميعهم استقوا من الحكايا الشعبية وكتبوا اجمل مؤلفات القرن العشرين.

أما فوانتس فقد وضع الانسان في كل مؤلفاته وكأنه مركز العالم ورسم له دوماً مصيراً وقدراً وكأنه عنصر مهم في مجرى النهر الذي يصب في التاريخ المشترك، وطرح باستمرار أسئلة محرجة في كتبه، فكانت تحرج القارئ كما المسؤول حول النفاق والكذب في كل القرارات الكبيرة والصغيرة.

وكان لفوانتس حلم غريب وضخم ومجنون وهو ان يكتب تاريخاً متخيلاً للعالم، وان يعطي لمؤلفه شكل ذاكرة الزمن هادفاً بذلك الى ان يعطي الآداب والكتابة بشكل خاص صفة أساسية وجديدة وهي دورها الرائد في كتابة تاريخ البشرية، وبذلك كان يعتبر بأن ذلك سينظم الفوضى ويترك الأمل امام كل شيء ميؤوساً منه، ويصبح للأفكار معانيها المفهومة والممكنة. وفي رثاء لفوانتس في الصحافة العالمية اليوم لخصت جملة أساسية في مقالة عنه كل مسعاه الأدبي والفكري والانساني: كارلوس فوانتس هو دون كيشوت ضد هاملت لأن ذاك الأخير كان يظن ان الأدب كلمات مجردة من معانيها فيما الأول عاش وكتب ليؤكد ان الأدب او الكلمة المجردة يمكن لها ان تغير العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى