صفحات الرأي

غياب نظم الدولة الحديثة سبب فشل ثورات الربيع العربي

د. يوسف نور عوض

سألني أحدهم، بما أنك عشت في بريطانيا سنوات طويلة، كيف وجدت نظام الدولة الحديثة هناك؟ وباختصار شديد قلت له إن نظام الدولة في بريطانيا قد يساعد كثيرا من دولنا على انتهاج المسلك نفسه خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي انتظمت عددا من الدول العربية ولم تستطع في نهاية الأمر أن تقيم النظم التي يطمح إليها الناس.

ولا يمكن أن ننظر هنا إلى نظام الدولة الحديثة إلا من خلال النظم التي تحقق مصالح الناس، وهي نظم تعتمد على ثلاثة أسس تتلخص في التشريع والقضاء والتنفيذ. والمقًصود بالتشريع تحويل سلطة تِشريع القوانين إلى أفراد الشعب، ولا يتم ذلك إلا من خلال نظام انتخابي عادل لا يعتمد على القبلية أو الجهوية أو العقدية بل يعتمد على النظام الحزبي الذي يمثل إرادة الناس السياسية، وإذا نظرنا إلى بريطانيا وجدنا أن عدد الأحزاب المؤثرة لا يزيد عن ثلاثة أحزاب هي حزب المحافظين وحزب العمال وحزب الليبراليين الديموقراطيين. وفي الحقيقة لا يحتاج أي بلد لأكثر من ذلك، إذ ينبغي أن يكون هناك حزب له طبيعة محافظة وآخر له طبيعة لا تجنح إلى المحافظة وثالث طبيعته ليبرالية، وينقسم الناس في إطار هذه الأحزاب لانتخاب ممثليهم الذين يكونون قادرين على إصدار التشريعات التي تخدم مصالح الشعب.

وأما النظام القانوني فهو الذي يتأكد من أن التشريعات توضع في إطارها السليم ولا يعتدي عليها أحد، وتقوم السلطة التنفيذية بتحويل القوانين والتشريعات إلى مصالح يستفيد منها أفراد الشعب ويتحملون سائر المسؤولية في القيام بهذه المهمة. وهنا يجب ألا نتوقف فقط عند السلطات الإدارية والتشريعية التي تخدم مصالح المواطنين، إذ يجب أن نقف عند دور أفراد الشعب الذين يجب أن يتحلوا بالحكمة في اختيار ممثليهم وفق هذا النظام الذي شرحته، ولا ينتهي الأمر عند ذلك بل يجب أن يقوم كل فرد بواجبه في دفع الضرائب المستحقة عليه حتى تتمكن الدولة من القيام بالأنفاق على مشاريعها الاجتماعية والتمكن من وضع نظام عادل للضمان الاجتماعي، وهذا نظام غير معمول به في كثير من البلاد العربية بسبب الخلل في نظام الدولة الحديثة.

و يجب هنا أن نتوقف لنرى ماذا حدث بعد ثورات الربيع العربي، وكيف أخفقت معظم الدول العربية في تكوين نظم سياسية تخدم أغراض تلك الثورات .ويجب أن يكون منطلقنا من التقرير السنوي الذي أنجزه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

يقول التقرير في مقدمته إنه بعد عامين من الثورات التي انتظمت عددا من الدول العربية ومنها مصر وتونس وليبيا واليمن، فما تزال حقوق الإنسان في العالم العربي في حالة يرثى لها، بعد أن فشلت الأنظمة التي حدثت في بلادها هذه الثورات في تحقيق التغيير المطلوب في أنظمة حكمها.

ويقف التقرير في البداية عند الوحشية التي يمارس بها النظام السوري القمع ضد شعبه، وهي وحشية تصل إلى حد الإجرام، وهنا لا يمكننا أن نفوت هذه المناسبة دون أن نتحدث عن الصمت الذي تمارسه جامعة الدول العربية والمجتمع الدولي إزاء هذا الاجرام الذي يمارس في هذا البلد والذي لا يبرره أي منطق، إذ لا يجوز لأي نظام حكم أن يستمر في مثل هذا الأسلوب القمعي إذا ظهرت بوادر عن عدم رضى الشعب عما يقوم به نظام الحكم.

ويركز التقرير في البداية على ديناميكيات جامعة الدول العربية وفشلها في أن تحقق ما هو مطلوب في الواقع العربي، ولا شك أن تلك وجهة نظر مهمة لأنه يجب إعادة النظر في النظام الذي تقوم عليه هذه الجامعة وكيفية تطويره من أجل خدمة المصالح العربية.

ويقول التقرير إن مصر تواجه أكبر المشاكل لأنها فشلت في تحقيق التوافق الوطني بين جماعة الإخوان المسلمين – التي استولت على الحكم بسبب تنظيمها الذي استفاد من ظروف الثورة ـ وبين سائر التنظيمات السياسية الأخرى، وهي التنظيمات الليبرالية. ويرى التقرير أن الدستور المصري الذي أجيز غير توافقي ويسعى إلى تكريس ما سماه الاستبداد السياسي في البلاد. وهو دستور يسعى أيضا إلى محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية ولا يحول دون العمالة غير المشروعة للأطفال ويعطي سلطات استبدادية لرئيس الجمهورية.

ويرى التقرير أن ما حدث في تونس لا يقل أهمية عما حدث في مصر لأن حزب النهضة من وجهة نظر التقرير أحبط تطلعات الكثيرين عندما عطل كثيرا من القوانين التي استهدفت حرية الصحافة وتنظيم المجال السمعي والبصري، كما عملت هذه القوانين أيضا على الحؤول دون إصلاح أجهزة الأمن، وأعطت سلطات واسعة لممارسات الشرطة القمعية. وأما في ليبيا فقد وقفت السلطات عاجزة عن ممارسة بسط سلطة الدولة وأفسحت بذلك فرصة العمل للمليشيات المسلحة، وهي تقوم بدور انتقامي خارج نطاق القوانين لمن تشتبه في أنهم كانوا موالين لنظام حكم القذافي.

ولا يختلف الأمر في اليمن كثيرا إذ ماتزال عائلة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح تسيطر على قوى الأمن والجيش بحسب التقرير وتواجه الأجهزة الصحافية نوعا خاصا من القمع كما كثرت عمليات الاختطاف والتعذيب دون أن يخضع القائمون عليها لسلطة القانون.

ويقول التقرير إن النظام السوداني أخفق في تسليم عدد كبير من المسؤولين الذين طلبتهم محكمة الجنايات الدولية ولم يستطع النظام أن يوقف العنف الذي يمارس في دارفور، أو يقلل من معاناة الناس في ‘كردفان’ الذين يعانون من ظروف المجاعة.

ولم يتوقف التقرير عند الدول العربية بل تجاوزها إلى إسرائيل التي ما تزال تمارس جرائمها ضد الفلسطينيين وتمارس الحصار الاستبطاني عل قطاع غزة .

ويرى التقرير أن الكثير من المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم العربي تعرضوا لاعتداءات وصلت إلى حد القتل بسبب غياب النظم الأمنية الفعالة في كثير من الدول العربية.

وإذا نظرنا إلى كل الوقائع التي وردت في التقرير المذكور وجدنا أن سببها الرئيسي هو غياب نظام الدولة الحديثة وخضوع معظم الدول العربية إلى نظم قمعية واستبدادية، والسؤال المهم هو لماذا يكون هذا هو حال العالم العربي في وقت حاولت فيه الشعوب الانتفاض من أجل تغيير واقعها، فهل سبب ذلك فشل ثورات الربيع العربي أم أن هناك أسبابا أكثر عمقا تتعلق بالثقافة السائدة في العالم العربي.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى