غياث جازي: عزيز تبسي
عزيز تبسي
دخل الحياة بوثبة الأحلام العالية،وعلى رؤوس الأصابع تابعها وأُخرج منها كأن في فمه كلام، يبلعه على الدوام مع فناجين القهوة ومتتاليات السجائر، والنظر الطويل إلى ما لا يجب النظر إليه بطمأنينة: الجدران العالية، الجدران الواطئة، الجدران التي ثقبت على عجل بعظم مدبب أو حفت بعود ثقاب، تبقى جميعها رابضة بثبات لا تنطق، تبدد كل الممكنات التعبيرية، وتزهق الروح على مهل، وتشعر بلاشفقة بالإقامة الأبدية في السجن.
أيامها كان الكلام يفورعلى الحطب اللاهب للوقائع ومساراتها، ويندلق بسخاء على حواف دورقها، ساحباً المتحدثين من أكفهم إلى جغرافيا النسيان، ليتركوا هناك يتعفنون بلا نأمة.
لطالما أمل أن تتسلل الأرواح كلصوص الليل، بحبالهم الطويلة وسلالمهم التي تنتصب فجأة، لتلغي في برهة الفوارق بين السفوح وغرف الحراسة العالية، حينها فحسب يمكن أن يحصل على غنائمه، وهي ليست كبيرة:السكينة المفتعلة كقرص مخدر، تسعى بدأب إلى صلحها المنفرد مع الوقائع المندفعة كمجرى مياه آسن، سرعان ما تطوق اليابسة وتفرض بخبث عزلة الجزيرة النائية.
في السبعينات من القرن الماضي، حين كان اليسار الجديد يفكر وحده بالثورة، ويرتمي على صدرها العالي، منقباً في تضاعيفها وممكناتها، متوخياً نسمات الحرية التي تفتح الرئتان على إتساعهما، ليسترد بعدها فلسطين المكتملة كبدر ليلي يمزق الوحشة وينهكها، ويهدر بالإشتراكية تأخذ زبد الطبقات المستغلة إلى حتفها، ويسعى لتكريس إشراقة بيروت الدائمة بعنفوانها وجمالها الذي يتدفق كسيل، ويقبض على واجب لا يحتمل التأجيل تفتيت ملح الأنظمة الشخبوطية وذرّه في البحار لتسهيل أمر وحدة ما قطّعته المعاهدات الإمبريالية وحرسته بكلابها الشرسة. إندفع إلى هذه الفضاءات الملونة ولامسها، محتفظاً مع كل الرفاق من المجموعات اليسارية الشبابية المتعددة، بالمسافة النقدية الراسخة التي تبقيهم في مأمن من سموم الشيوعية الرسمية، التي إختارت بطواعية تربوية ذليلة، التحالف الدائم مع من ينجح من الإنقلابيين اللذين يقتلون رفاقهم مبددين أثرهم في البرية، وعزمت بنذالة السير مع الجنرالات المنتصرين إلى حضيضهم المشترك.
قادته هذه الإستهلالية في القناعات الثورية إلى سجنه الأول1978-1980، ليخرج إلى فسحة إحتجاجية صاخبة، أربكت من سعى إلى الصراعات السياسية الصافية، التي حددت بدورها المرتسمات الجديدة للشكل الذي سيسيطر بقوة على أشكال الصراع السياسي مقصية غيرها إلى مدونات الماضي، بعد أن ثبتت بقوة الشكل العسكري، والتدخل الحربي في سياقاته، مفسحة المجال للحضور الدامي للجيش والأمن ومستلزماتهما الحقوقية، أثنائها وبعدها جري الحديث بالجمع عن المعتقلات والمعتقلين والمجازر والمخطوفين والمغيبين والمهجرين والمختفين.
أدخله جنون الإعتقالات ووحشيتها سجنه الثاني1983-1991، يخرج بعد ثماني سنوات متكئاً على كسوره الذاتية، و كسور الوقائع الجديدة:وصول التجربة السوفياتية إلى أفقها المغلق، إستكمال تهتك الخطاب الشيوعي السائد وضياعه إلى الأبد، هزيمة اليسار في لبنان وفلسطين واليمن، الجنون الإمبريالي ووحشيته الحربية، صعود الحركات الإسلامية بنبرة خطابها العالي الذي يحجب خوائها العميق والتستر على دور الأنظمة في رعايتها وإسنادها وتوظيف ممارساتها للإجهاز على ما تبقى من اليسار والحركات التحررية، تبدد أثر اليسار الجديد وإنسحاقه بلا رحمة بحصار العقائدية السوفياتية المتهافتة التي شكلت غطاء لقمع الفاشيات الكولونيالية المهول وسجونها الأبدية، وإنبثاق تلك المراجعات التي تتم في غير أماكنها، والتي أفضت بأعداد غير قليلة منه إلى التلاصق مع الشيوعية الرسمية في المرتكزات الفكرية والمقاربات السياسية، التي قادتهم بدورها إلى إعادة إكتشاف”جماليات” الفاشية الكولونيالية بالتنقيب الصبور على خفايا مشروعها المحجب بروث بعيرها وأظلاف حوافرها، وتزيين مخاطها وبولها من حين لآخر بخفيف الكلام ومبتذلاته، أو إلى الإنزلاق الليبرالي الأعمى الذي سعى بخفة لإستبدال مرجعية بمرجعية ورأس برأس دون الشعور بذاك الألم الذي ماإنفك يسمى بالصداع، الذي يعصف بالأدمغة ويفصلها عن الواقع القاسي الذي ظهر عصياً على التغير .
تتعزز الهزيمة وتتعمق بالشرط السوري المميز، بإستبداد سافر وإحتيال مثابر على اللغة والتاريخ والإقتصاد والوطنية، وحيث يتكفل الحضور الطاغي للسجن والخيزرانة في الحوار وتثبيت القناعات، تغيب فيه أي إمكانات للحوارات والتساؤلات العلنية والتفكير المشترك والتواصل الآدمي،ويجري كل شيء في عالم سري، مغلق يختنق بإنشوطة القمع المتجدد التي لم تبارح عنقه لبرهة.
كان يُسمع أنين الهزيمة في كل مكان،حتى لمن صمّل أذناه،وإستدرج حواسه إلى الليالي المخمورة،عالم قديم من القناعات والتبصرات ينهار،ويسطو زناة الليل على اللغة وتتقدم الخطابات الثقافية الإمبريالية،قبل طائراتها ومدرعاتها وجنودها المكلفون بتأديب الجانح من البشر وتركيعه وإذلاله إلى ما يتراء لهم الإقفال على حركة التاريخ ورمي مفاتيحها في البحر.
ويغدو الجسد الآدمي الرهان الأخير، عليه مهام إستمكال دفع الأتاوة الكفاحية وترجيعاتها الثقيلة. لكن ماذا يبقى من الجسد وهو يعبر من قفص إلى قفص، ومن إخفاق إلى أخيه، سوى الإحتطاب الذاتي والتدفء على ناره الخاملة، وساعة تزهق الكيمياء أملاحها وتطوي معادلاتها وتستدير إلى الحائط ضاربة كف بكف، عاجزة عن إسترداد فرح الخلايا بطفولتها وتأرجحها على أغصان المسرات ووثبتها الطويلة إلى ضفة الحرية، ينهك الجسد بأعصابه ولحمه وجفاف ماءه، وتنفلت حصارات العيش لتقضم بمثابرة ما تبقى من ساعات البهجة ومراسم تسليم الرسالة إلى الأفق المفتوح الذي يمد كلتا يديه لإستقبالها.
غياث جازي مواليد دير الزور1954 درس في جامعة حلب كلية الهندسة الكهربائية، شارك في نضالاتها الطالبية، وساهم مع العديد من المناضلين المشغوليين بالتغيير بتأسيس المجالس الطالبية في جامعة حلب.
إعتقل 1978-1980 بتهمة الإنتماء إلى منظمة إتحاد الشغيلة.
إعتقل 1983-1991بتهمة الإنتماء لحزب العمل الشيوعي.
متزوج من المناضلة والمعتقلة السياسية حميدة التعمري ولهما ولدان جود الإبنة الكبرى وجاد الإبن الأصغر.
توفي بعد صراع طويل مع أمراض متتالية في حلب آذار2013.
عزيز تبسي حلب نيسان 2013
خاص – صفحات سورية –