غياث مطر ومجزرة صبرا وشاتيلا
عناية جابر
كان في الشاب السوري المكوّم على الأرض بعض رمق، لمّا سدّد الرجل ذو البزة العسكرية الى رأسه، رصاصات ثلاث أهمدته. هذا المشهد سبّب لي رعباً مميتاً. أصابني حياله وجوم، وانهيار داخلي وخارجي، ولو كنت حينها قادرة على امتلاك مشاعر سوقية كالتي يمتلكها المجرمون الذين يقتلون الناس، لكنت ذهبت، تقصّيت عنه، وقتلته. ولكن لأني لا أمتلك مثل هذه المشاعر الثأرية، ولست قادرة على امتلاكها، شعرت بإهانة بليغة من دون تحديد سببها الأقوى والأكثر مباشرة.
أغلقت النافذة رغم قيظ الصيف، وقطعت الغرفة مرّات عدة جيئة وذهاباً. عندما فتحت النافذة اخيراً، كانت الدموع تسّف مدراراً على وجهي. كنت مستغربة للحجم الكبير لكل دمعة من دمعاتي. أكبر دمعات أراها قط على خدّ أحد. يحدث للمرة العاشرة على ما حسبت، أنني أبكي أمام حدث سوري. تذكرّت كل الشهداء وبنيت لهم ملامح من عندي، وشكلّت وجهاً من الغيب لغيّاث مطر، كما اعتنيت أن تكون له إيحاءات شتائية.
الدموع العملاقة تنهمر من عينيّ كما لو انها نهر جارف. أقلقني الأمر عن حق، وخوف مُنبئ أبلغني أن قطيع ذئاب جائعة، هاشلاً في الشوارع السورية، يصطاد طرائده، ويبتلعها ليّنة، لحمها طرّي.
تذكرّت غياث مطر الذي لم ار صورة له قط، وسعيت عبر الكتابة الى العثور لوجهه على أكثر المشاهد جمالأ وأكثرها عاطفية. لكن انجذاب كلماتي الناقص الى إعادة تشكيل وجه غيّاث على طريقتي، بدا انجذاباً بعد فوات الاوان، وهو امتزج بالقوة الدافعة الى الجنون، الذي ارتعدت فيه الكلمات، وبذكرى الشاب الذي عُذّب، وقُتل، ودُفن.
كانت علاقتنا إذن، كما لو انها مطر معلّق في الهواء ولا يستطيع أن ينهمر. امسكت أنفاسي حينما رأيت صورته أخيراً على شاشة التلفزيون، وشعرت بزّخة وجع في القلب، وهو للحق، وجع لا يُصّدق، وتُكمن وراءه فكرة ما، حرّرت نفسها من الرباط المُظلل لكل الأفكار الأخرى. ابتسامته الواسعة في الصورة لم تكن سوى وهمي الشخصي .كيف يمكن لابتسامة كهذه ان تذهب الى الموت منفرجة حدّ البحر؟ مع ذلك حقيقية، ومفلوشة فوق الوجه كله، وأُمسك أنفاسي حيال المشهد السيريالي لشاب يصعد وابتسامته، الى السماء. هذا يحدث في سورية لغياث وسواه، هذا يحدث بكل وضوح وما عليكم إلإ أن تعاينوا، فهكذا هو الأمر فعلاّ.
هولوكست فلسطيني
لسوف يمضي وقت طويل قبل ان يعرف العالم دقائق وتفاصيل مجزرة صبرا وشاتيلا.
لكنه يكون مضى الوقت الطويل الذي لن يُعيد روحاً، ولن يُرّقع جثثاً. تلك كانت مذبحة الفلسطينيين، وعلينا جميعاً أن ندين أنفسنا أمام العالم أجمع. نساء وشيوخ وأطفال، بلا عون ولا حماية، قُطعّت أجسادهم مُزقاً صيف العام 1982، فكانت هول محرقة مهولة على أرض لبنانية، وكان الدم الفلسطيني الذي أهدرهُ اللبناني قبل الإسرائيلي. دخل القتلة المخيمين بحراسة المدافع الإسرائيلية وتحت أضواء كشافاتهم، قتلوا وأنجزوا المهمة ببالغ تمامها الحيواني. كان لديهم فائض الوقت والكره، ليمزقوا شعب المخيمين، ويردوهم بالرصاص ويهشموا رؤوسهم بالبلطات، ويعتدوا على النساء والفتيات قبل قتلهن، كل هذا حدث وأكثر في بلد الإشعاع والنور، وفي بلد يُغذّي نرجسيته بالتقاتل والدم.
لم يعرف العالم في الحقيقة جريمة أكثر وحشية، او بالحري أكثر دقة، من تتالي الذبح المنّظم، وتتالي البقر والنحر، وقد صيغوا بجلاء باهر فلم يكن من نقصان في الموت الجماعي. جريمة هي بالنسبة للعقل البشري، عماء وعتمة. لبنانيون أجهزوا على فلسطينيين بحماية اسرائيلية، كما لو قاموا بعمل عظيم بقيت مستعصية علينا ألغازه ودوافعه. ثمة بالطبع تلك التبريرات التي ترّد ‘محرقة’ الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، الى لحظة زمنية في الحرب اللبنانية، لعبت المعادلة كاملة بإيعاز من الإسرائيليين، لكن ما من لحظة زمنية بعد، أشدّ هولاً وهمجية على ما فعله أبناء الفينيقيين.
مازلت حتى اللحظة أسمع أصوات استغاثات تسكن جانباً من رأسي لا تفارقه. إن حكمنا على هذا الفعل، أتى من هؤلاء وأولئك، لبنانيون وإسرائيليون، فهذا بالنسبة للعالم ليس حكماً على الإطلاق. لقد تحدّث لوثر عن هذا بما فيه الكفاية. من المحتمل أنه قال ذلك بتأثير من المتصوّفة، ومن المؤكد أنه يمكن لآخرين سواه أن يقولوا ويبرروا ذلك، فالكثيرون بالمعنى البورجوازي، لا اخلاقيين. لقد ميّزوا بين الذنوب والروح التي يمكن أن تظل طاهرة رغم الذنوب. تقريباً مثل مكيافيللي الذي ميّز بين الغاية والوسيلة. لقد سلبت منهم انسانيتهم. هل تقدّمت البشرية كثيراً بعد مجزرة صبرا وشاتيلا؟ حتى لو فعلت فإنها تظل مع ذلك اسيرة وحشية تللك المجزرة. يمكن لروح من شارك بالقتل
(إن كانت ثمة من روح) أن تمّر بدون توجس تحت أنظار الملائكة والشياطين، وفي عينيه ابتسامة طـــفل شـــــفافة، لكن كل شيء بعد صبرا وشاتيلا أصبح يعـــتمد على مبدأ غير مرئي، وعلى تسويات (شريفة) بينما رائحة الدم المستضعفة وقد نبذها العالم، تصّب الآن في صدري، في مبالغتها الصغيرة.
القدس العربي