فائض «ديني» لكنه ليس ديناً/ إبراهيم غرايبة
يمكن في نظرة عفوية إلى المشهد العام، ملاحظة «الفائض الديني» الذي يغمر الحياة والتطبيقات اليومية كما التعليمية والاقتصادية، مما اجتهدت به المؤسسات الدينية الرسمية إضافة إلى الجماعات والأسواق على نحو لم يأمر به الله ولا يتوقع أن يزيد عليه «داعش» شيئاً، ما يجعل الحديث الرسمي عن مواجهة التطرف الديني ليس سوى مسرحية يصعب تصديقها، ذلك أن مواجهة فعلية وحقيقية مع التطرف ليست سوى مواجهة مع السلطات السياسية نفسها، وليست مع الجماعات الدينية كما تؤكد الآلة السياسية والإعلامية بدأب وتكرار.
على سبيل المثال، تظهر الخطط الدراسية للجامعات والكليات الرسمية التي تنفق عليها الحكومات من أموال الضرائب والموارد العامة، مقررات دراسية من قبيل الاقتصاد الإسلامي، والمصارف الإسلامية، والحكم الإسلامي، والإعلام الإسلامي، والنظام الجنائي الإسلامي، ونظام العقوبات الإسلامي، ونظام العلاقات الدولية في الإسلام، ونظام الأسرة والمجتمع في الإسلام. أما تصفّح عناوين رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات العربية، فيؤشر إلى الجهد الأكاديمي المكثف الذي بذلته الجامعات الرسمية في «الأسلمة» المعتسفة والمبالغ فيها للعلوم والتطبيقات العامة واليومية، بل الاجتهاد العقلي والفكري في تحويل مفاهيم الجماعات الدينية المتطرفة وأفكارها إلى برامج وأفكار متماسكة وبحوث علمية مؤصلة في الفقه والشريعة. لكن، ما الخطر في ذلك؟
الخطورة في هذه السياسات الرسمية، أنها حوّلت أفكاراً ومبادرات إنسانية تستلهم الدين إلى دين، وتقدّم في المدارس والجامعات الرسمية على أنها دين نزل من السماء وليست اجتهاداً إنسانياً عقلياً بما يقتضي ذلك بالضرورة من خطأ وصواب وهوى ومصلحة وقصور للتوفيق بين الإسلام والعصر، ثم يبدو ما عداها من مفاهيم وتطبيقات ليس إسلاماً، وهكذا فإننا نقرّ، حكوماتٍ ومجتمعاتٍ، بأن ما لدينا من مؤسسات وتطبيقات عصرية متبعة يتناقض مع الإسلام ومع مزاعم الحكومات بأنها إسلامية! وأنه لا معنى ولا جدوى من وجود مجالس تشريعية منتخبة (أو غير منتخبة) طالما أن هناك تطبيقاً إسلامياً في كل شؤون الحياة يقدم ويعدّ في المساجد وكليات الشريعة والحوزات الدينية، كما أن المؤسسات والسلطات السياسية لا تملك أن تنشئ قراراً أو سياسة إلا بموافقة المؤسسة الدينية، ثم تصير المؤسسة الدينية هي الدين، لأنها هي التي تخبرنا بما أمر الله أن نفعله وما لا نفعله، وتملك سلطة في النقض والإبرام لا تعلو عليها سلطة أخرى سياسية أو تشريعية.
وفي ذلك، تبدو الحكومات والمجتمعات مناقضة لنفسها، ليست إسلامية وفاقدة شرعيتها الدينية على رغم أنها (الحكومات) هي التي رعت وأنشأت هذا الفهم للدين وتدرسه في مدارسها وجامعاتها، وليست أيضاً علمانية تتخذ موقفاً محايداً من الدين، وهذا أسوأ ما أوقعت فيه نفسها الحكومات والمجتمعات العربية، فهي تطبق الدين أكثر مما يريد الله، وتنشئ في الوقت نفسه إدراكاً ووعياً لذاتها ترى فيه نفسها بعيدة من الدين، وأن الجماعات الدينية هي التي تملك الشرعية الدينية، على رغم أنها فكرة حكومية تبلورت عملياً وتنظيرياً في مؤسسات الدولة ومناهجها التعليمية.
هذه الفكرة ليست دفاعاً عن فكرة غير دينية وليست انتقاداً للدين، ولا ترقى الى أن تكون معارضة لدوره في الحياة والسياسة، فذلك ترف بعيد لم نصل إليه بعد. إنها ليست سوى محاولة للجدل في مساحة من التطبيقات والأحكام لم يدع إليها الدين ابتداءً، ولم يأمر بها الله السلطات والمجتمعات، لكن النضال ضد التطرف يقع معظمه إن لم يكن جميعه في هذه المساحة «الإنسانية»، أو لنقل في وقف ما تحسبه السلطات والمجتمعات تكليفاً من الدين وهو ليس كذلك، وما تبدو الدعوة إليه مناهضة للدين وهو ليس سوى سلطة ومؤسسات حكومية.
لا نحتاج الى وقف التطرف أو تجفيف منابعه سوى أن تتوقف السلطات الرسمية عن الوظائف الدينية التي لم يأمر بها الدين وليست ديناً من عند الله، التعليم الديني في المدارس والجامعات، وتنظيم وإدارة الشأن الديني والأوقاف والإنفاق عليها، وأن تترك ذلك للمجتمعات بلا تدخل، حتى لو كان تدخلها لأجل الاعتدال والتنوير.
المسألة تنظيمية وليست دينية، ولا بأس في الجدل الذي يثيره مشتغلون في الشأن الديني والعام حول دور مؤسسات الدولة الدينية ووجودها. لكن تحويل هذا الجدل إلى صراع مزعوم بين الإسلام وما ليس إسلاماً، هو اعتقاد أو توهّم بأن مصالح ومواقف هي الدين، وهذا أسوأ ما يظنه مشتغلون في الشأن العام: الخلط بين الإسلام وبين المؤسسات والوزارات. فكل ما لدى المسلمين من تراث ديني وفقهي لم يكن تابعاً لسلطة سياسية.
* كاتب أردني.
الحياة