فارق المجزرة السورية: أنّ ‘الضحية الكونية’ احتكار يهودي!/ صبحي حديدي
إذا كان امرؤ ـ يحدث أنه مؤرّخ وباحث أمريكي يهودي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد ـ مستعداً لتأثيم الأمّة الألمانية بأسرها، كمجموع كلّي، بتهمة قمع اليهود وتنظيم معسكرات اعتقال وإبادة جماعية الطابع؛ وإذا كان المرء ذاته متحمساً، وإنْ بدرجة أقلّ، لتأثيم الرئيس الأمريكي باراك أوباما، على خلفية تقاعسه عن نصرة سكان إقليم دارفور في السودان؛ فهل يمكن له أن يتحمس، أيضاً، لتأثيم صمت ‘المجتمع الدولي’ إزاء جرائم نظام بشار الأسد بحقّ الشعب السوري، لا سيما المذابح، واستخدام الأسلحة الصاروخية ضدّ التجمعات السكانية المدنية الكثيفة، قبل اللجوء إلى الأسلحة الكيماوية؟ ليس بالضرورة، لأنّ ما ينطبق على يهود المانيا، ينطبق بصورة أدنى على أهل دارفور، ولا ينطبق البتة على السوريين!
هذه حال دانييل جوناه غولدهاغن، مؤلف كتاب صدر مؤخراً بعنوان ‘الشيطان الذي لا يموت أبداً: صعود وخطر العداء العالمي للسامية’، الذي يتناول أنساق الإبادة الجماعية، ويركز بالطبع على تلك التي كان اليهود ضحاياها، متجاهلاً عذابات شعوب أخرى وأقوام أقلّ اجتذاباً لاهتمام الرأي العام العالمي، أو ‘الغرب’ على نحو أصحّ وأدقّ. وغولدهاغن، لمَنْ لا يعرفونه، هو أيضاً صاحب مجلد في 619 صفحة، صدر سنة 1996 بعنوان ‘جلاّدو هتلر المتطوّعون: الألمان العاديون والهولوكوست’، تنهض أطروحته الوحيدة على هذا الجزم الرهيب القاطع: ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست، و’ما يُقال عن الألمان لا يمكن أن يُقال عن جميع الأمم الأخرى مجتمعة. الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست’.
مثال ثانٍ يخصّ ألمانيا، ويختصره هذا السؤال البسيط: ما الذي يضير في قيام الأمّة الألمانية بتكريم ضحاياها (من المدنيين، العزّل، الأبرياء) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ وأيّ إثم في تأسيس مركز توثيق ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الجَمْعية؟ ألا يندرج إنجاز مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من شعوب العالم، بل يتوجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟ لم يكن هذا رأي الأوساط الصهيونية العالمية، التي أطلقت حملة أخرى شعواء ضدّ المشروع، استهدفت بصفة خاصة السيدة إريكا شتاينباخ، السياسية الألمانية البارزة ورئيسة ‘رابطة المطرودين’ التي تُعنى بشؤون ملايين المطرودين من ديارهم، ليس في ألمانيا وحدها بل في مختلف أرجاء العالم.
ولم يكن عسيراً التكهن بأنّ السبب في الغضبة الصهيونية لم يكن أيّ اعتبار آخر سوى الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والانفراد بها تماماً، وتهميش وتقزيم كلّ وأيّ ضحية أخرى، بل الحطّ من عذاباتها إنْ أمكن. قرأنا، على سبيل المثال، ما كتبه المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت: ‘إنّ هدف الأوساط الألمانية المحافظة هو صياغة يوم ذكرى لإحياء الفترة النازية، ولكنها ذكرى منعتقة من الرأي الإتهامي الذي تحمله الضحية اليهودية. ورغم أنّ الإجراء لا يرقى إلى مصافّ إنكار الهولوكوست، إلا أنه بلا ريب يساوي بين الهولوكوست وعمليات الاضطهاد التي تعرّض لها الألمان’. ومرغاليت هذا (الذي يُحتسَب على المؤرّخين المعتدلين!) يختار لمقاله عنواناً استفزازياً هو ‘ازدياد عذابات الألمان’، ويضع كلمة عذابات بين أهلّة، على سبيل التشكيك في صحّة معنى العذاب، وربما صحّة وجود عذابات ألمانية في الأساس!
والحال أنّ الوقائع التاريخية تقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين ذوي الأصول الألمانية طُردوا، بعد الحرب العالمية الثانية، من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: 2 ـ 3.5 مليون من بولندا، 2.3 من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الإتحاد السوفييتي، 400 ألف من هنغاريا، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلى قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. هذه هي الأعداد في تقديراتها المخفّضة، وأمّا العدد الذي تسوقه رابطة المبعدين فهو 15 مليون ألماني.
ألا يستحقّ هؤلاء الذكرى، لكي لا نتحدّث عن التعويضات وردّ الاعتبار، كما هي حال اليهود؟ لا يبدو مرغاليت وكأنه يوافق على هذه البديهة البسيطة، لأنه يرتاب دائماً في نوايا السيدة شتاينباخ، وفي أنها تستهدف إضعاف ذاكرة الهولوكوست أكثر من تقوية ذاكرة الضحية الألمانية، وذلك رغم أنّ مشروع مركز مناهضة الطرد يضع اليهود في رأس ضحايا هذه الممارسة غير الإنسانية. ومرغاليت يتوقف، بصفة خاصة، عند موقف شتاينباخ ‘المتطرّف’، حسب تعبيره، القائل إنّ عمليات طرد الألمان جرى التخطيط لها قبل الحرب، ولا يمكن النظر إليها كجرائم ناجمة عن ضرورات محاربة النازية، بل كجرائم في حدّ ذاتها. أكثر من هذا، تزعم شتاينباخ امتلاك أدلة قاطعة على أنّ 2.5 مليون من الألمان المطرودين من ديارهم، ‘قضوا تحت التعذيب أو التشغيل الإجباري أو الاغتصاب’… فكيف تجاسرتْ على سوق أرقام تداني نصف أرقام ضحايا الهولوكوست من اليهود!
جانب آخر من المأساة كان يخصّ القصف الوحشي الذي مارسه الحلفاء ضدّ المدن والبلدات والبنى التحتية الألمانية، وكأنهم كانوا ينزلون العقاب بالشعب الألماني نفسه، بعد انهيار الرايخ الثالث. وهذه معركة لا تنفرد بإثارتها ‘رابطة المبعدين’، ومن خلفها الأوساط المحافظة الألمانية كما زعم مرغاليت، بل انخرط في حملاتها رجال يساريون من أمثال الروئي الكبير وحامل جائزة نوبل غونتر غراس، وساسة ليبراليون من أمثال هانز ديتريش غينشر، وكتّاب من أمثال يورغي فردريش الذي وضع كتاباً مصوّراً عن قصف ألمانيا، اعتبر فيه أنه لا يوجد فارق أخلاقي بين ونستون تشرشل وأدولف هتلر.
في قلب هذه السياقات، كان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس قد ألقى خطبة أمام البرلمان الألماني، وُصفت بـ’التاريخية’ لأسباب في طليعتها أنّ هذه الممارسة هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الألمانية ـ الإسرائيلية، من جانب الدولة العبرية في الواقع، لأنّ المستشارة الألمانية أنغلا ميركل تحدّثت من سدّة الكنيست الإسرائيلي، أواخر آذار (مارس) 2007، وسبقها إلى هذا الرئيس الألماني السابق يوهانس راو، سنة 2000، حين طلب العفو والمغفرة عن الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحقّ اليهود. لكنّ خطبة بيريس ‘تاريخية’ لسبب آخر، لغوي وثقافي صرف هذه المرّة: أنه تحدّث بالعبرية، فلم ينسحب من قاعة البرلمان أيّ نائب ألماني، من باب الإحتجاج، كما فعل حفنة نوّاب إسرائيليين رفضوا الإصغاء إلى ميركل باللغة الألمانية، وطالبوها باستخدام اللغة العبرية!
ورغم أنّ ميركل ذهبت في أقوالها إلى ما لم يتجاسر على الذهاب إليه أيّ صديق غربي لإسرائيل، بما في ذلك ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، حين اعتبرت أنّ تهديد وجود إسرائيل يُعدّ تهديداً لوجود ألمانيا؛ فإنّ عضو الكنيست أرييه إلداد صرّح بأنّ ‘الألمانية كانت آخر لغة استمع إليها جدّي وجدّتي قبل مقتلهما، وأمر الإعدام صدر باللغة الألمانية، ولست مستعداً لسماعها داخل قاعة الكنيست’. كذلك لم يشفع للمستشارة الألمانية أنها، خلال الزيارة ذاتها، ألحقت الإهانة تلو الإهانة بالفلسطينيين، شعباً وحكومة، وجعلت اجتماعها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتمحور حول البند الأهمّ في نظرها: إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت.
ولأنّ خطبته أمام البرلمان الألماني كانت تصادف اليوم العالمي لاستذكار الهولوكوست، فقد شاء بيريس التشديد على ضرورة قيام الألمان بواجبهم في مطاردة جميع ‘المجرمين النازيين’ الذين ما يزالون طلقاء، هنا وهناك في العالم؛ لأنّ الذكرى لا تخصّ الضحايا فحسب، بل يتوجب أن تكون ‘نذيراً’ للعواقب المأساوية التي تنجم عن عدم التحرّك ضدّ ارتكاب الفظائع. وتقديم أولئك المجرمين إلى العدالة ليس فعل انتقام، في نظره، بل هو ‘درس تربوي’ للأجيال الراهنة من الشباب: ‘لكي يتذكروا، ولا ينسوا أبداً، أنّ عليهم معرفة ما جرى، وأن لا يساورهم، أبداً أبداً، أدنى شكّ بعدم وجود خيار آخر سوى السلام والمصالحة والحبّ’…
أنظروا مَنْ الناطق بهذه الدعوة، الرقيقة الحانية العطوفة: رئيس الدولة ذاتها التي كانت، قبل عام واحد فقط، قد ارتكبت عشرات المجازر البربرية في غزّة، مستخدمة أسلحة دمار وحشية يندى لها جبين أشدّ عتاة النازية تعطشاً للدماء! ليس هذا فحسب، بل إنّ بيريس نفسه كان رئيس وزراء إسرائيل حين قصفت بلدة قانا اللبنانية الجنوبية، سنة 1996، وأسفرت عن 106 شهداء مدنيين، بين شيخ وامرأة وطفل، و350 جريحاً، رغم أنّ الضحايا كانوا في ملجأ مدني رسمي تابع للأمم المتحدة. وتلك كانت مجزرة مكشوفة صريحة نُفّذت عن سابق عمد وتصميم، كما برهنت بعدئذ تحقيقات الهيئة الدولية ومنظمة العفو الدولية. هذا الآمر بجريمة الحرب في قانا ظلّ بمنجى عن أية مُساءلة داخلية (أمام ‘الديمقراطية’ الإسرائيلية إياها)، أو مساءلة دولية (أمام الهيئات التي تستفيق من رقادها بين حين وآخر للمحاسبة على جرائم الحرب)؛ بل لقد تقلّب في المناصب، وذرف الكثير من دموع التماسيح، وحصد جائزة نوبل للسلام، وتباكى على الخير، وطالب باستئصال الشرّ…
في المقابل، لم تكن مجازر النظام السوري أقلّ وحشية وبربرية، وهنا بعض نماذجها (منذ بدء العام 2013 وحده): كانون الثاني (يناير)، مصرع 87 من طلاب جامعة حلب، و106 من أبناء حمص، بينهم نساء وأطفال قُتلوا حرقاً أو بالسلاح الأبيض، والعثور على 80 جثة في نهر قويق بحيّ بستان القصر في حلب؛ وفي شباط (فبراير)، مقتل 83 من المدنيين، بعضهم سقط جراء تفجير قرب مقرّ حزب البعث في دمشق؛ وفي نيسان (أبريل)، أكثر من 483، بينهم نساء وأطفال، في مجزرة ‘جديدة الفضل’ التي ارتكبتها وحدات الحرس الجمهوري؛ وفي أيار (مايو)، إعدام قرابة 50 من السجناء في سجن حلب المركزي، ومقتل 145 رمياً بالرصاص في مجزرة شهدتها مدينة بانياس الساحلية؛ وفي حزيران (يونيو) أجهز الجيش النظامي على 191 مواطناً في مجزرة قرية ‘رسم النفل’ في ريف حلب؛ وفي آب (أغسطس) أسفرت الهجمات الكيماوية على الغوطة عن 1400 ضحية…
السوريون هؤلاء لم يستدروا، من أمثال غولدهاغن وبيريس، حتى دموع التماسيح المعتادة، وكان العكس هو الذي سيصنع المفاجأة في الواقع؛ إذْ كيف لمحتكري امتياز ‘الضحية الكونية’ الأوحد أن أن يشذوا عن قاعدة… هي، عندهم، أقرب إلى قانون وأقنوم!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس