فاروق الشرع والفارق بين فشل النظام وفشل المعارضة!
حازم نهار
وصف فاروق الشرع بغرور وعنجهية مصطنعين معارضي النظام السوري في عام 2004 بأنهم “غير قادرين على إدارة مدرسة ابتدائية… فكيف يديرون البلد؟!”. ولم تخرج منه كلمة واحدة عن “الحوار الوطني” وضرورته آنذاك.
وافقت آنذاك، وما زلت، على مضمون هذا التصريح، رغم أني أعرف الخبايا والنيات والدوافع، إضافة إلى الأسباب العميقة التي جعلت من توصيف المعارضة بهذا الكلام صحيحاً. وموافقتي على هذا التصريح تأتي من باب إيماني بالحقيقة حتى لو خرجت من الشيطان ذاته، فإن قال عدوّي إن الشمس تشرق من الشرق فليس من الحكمة أبداً معاندته في ذلك والقول بغيره لمجرد كونه عدوّي.
ما أزعجني وقتها فعلاً هو هذا الاحتقار للمدرسة الابتدائية والتقليل من شأنها، وكأنَّ عملية إدارتها أمرٌ هامشي لا قيمة له في عرف “الساسة الكبار” لنظام “الممانعة”، مع أنها في عرف الدول الحديثة مصنع الأبطال والعظماء والقادة والعلماء.
رغم الاتفاق على توصيف المعارضة، إلا أننا إذا غصنا قليلاً في التحليل، نستطيع ببساطة اكتشاف أن قصور المعارضة وضعفها ما هما إلا ثمرة طبيعية مباشرة لقصور النظام وهزاله. بمعنى آخر إن وجود معارضة كهذه دليلٌ قاطع على بشاعة النظام الذي حكم سوريا، فكل نظام ينتج في المآل معارضة على شاكلته.
وإذا غصنا أكثر، فلا بد من وضع ميزان عادل للحكم على أهلية أي شخص أو طرف سياسي. فهل من العدالة المقارنة بين نظام حكم جثم أربعين عاماً على قلوب الناس، امتلك خلالها الأرض والبشر وميادين السياسة والإعلام والأمن والجيش، وسيطر على النقابات والمدارس والجامعات، ومعارضة لم تكن تجد سوى الغرف المغلقة للحديث في الشأن السياسي، فضلاً عن دخول معظم شخصياتها السجون والمعتقلات؟! هل ثمة عدلٌ أصلاً في مقارنة نظامٍ كان بين يديه كل شيء وفشل، بمعارضةٍ لم يكن لديها شيء وفشلت أيضاً؟ شتّان بين فشلٍ وآخر.
أذكر أنه في بدايات الثورة لم يكن لدى فاروق الشرع – وهو نائب رئيس النظام- سلطة السماح بحجز صالة أفراح ليجتمع فيها عددٌ من المثقفين السوريين لتدارس أمور الوطن. لم يكن الأمر مستهجناً بالطبع، فنحن نعلم تماماً أن هذا النظام الذي احتقر المدرسة الابتدائية وما يمكن أن تقوم به من دور تحديثي وإيجابي في مستقبل الوطن، إن هو أحسن صنعها وإدارتها، هو النظام ذاته الذي جعل من سلطة عنصر أمن أرفع من سلطة نائب رئيس الجمهورية، وهذا تماماً هو حال كل الديكورات والأراجوزات والهياكل والشخوص التي تؤدي وظائف معينة في هذا النظام.
اليوم يظهر فاروق الشرع ليقدِّم مبادرته لحل الأزمة الوطنية، ويطرح مسألة “التسوية التاريخية”. ورغم الشكوك المشروعة حول لقائه الصحافي، من حيث كون المبادرة صادرة عنه شخصياً أو أن اللقاء برمته مع صحيفة “الأخبار” مجرد بيان كتبته أجهزة النظام وأرسلته دون علم الرجل، إلا أن المبادرة تعني أن شيئاً ما يحدث في مستوى الحل السياسي للأزمة.
يقولون رجل السياسة هو رجل اللحظة المناسبة، وعندما يأتي متأخراً لا قيمة لما يحمله حتى لو كان الذهب وماء الحياة. النظام ورجالاته لم يتعلموا من الحكم اليومية للمدرسة الابتدائية، والتي تقدِّم الكثير مما يفيد في العمل السياسي: “من جدَّ وجد”، و”لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد”، بل ربما لم يسمعوا قصة “الأرنب والسلحفاة” التي تعلِّم فضيلة التواضع ومخاطر الغرور. وكذلك على مستوى الحياة اليومية في المدرسة، فعندما يتعود الطفل المجيء إلى المدرسة متأخراً أو عندما لا يقوم بواجباته في الوقت المناسب، عليه أن يتوقع الرسوب أو الفصل من المدرسة، وعليه أن يخجل من المطالبة بالمكافأة على الفشل.
ينتقل بنا اليوم بيان الشرع-النظام من “الحوار الوطني” إلى “التسوية التاريخية”، والمفهومان غريبان بالطبع عن ثقافة النظام وممارساته، فهما لم يظهرا إلا مع الثورة، على وقع سنابك الثائرين. عندما طرح النظام “الحوار الوطني” في بدايات الثورة كان ذلك –كالعادة- من باب الأعطية والمكرمة، ككل “إنجازاته” الهشة، وليس من باب المشاركة السياسية. فالنظام الذي يستخف بالمدرسة الابتدائية يفتقد لأوليات فهم المعنى الحقيقي للحوار، لأن المدرسة هي الحاضنة المدنيّة الأولى لتعلم الحوار وأصوله وآلياته وأهدافه.
أما مفهوم “التسوية التاريخية” فهو ما طرحناه في الشهر الثاني من الثورة، وتضمنت ثماني خطوات أولية تبدأ بسحب الجيش والأجهزة الأمنية والإفراج عن المعتقلين وإحالة المتورطين بإطلاق النار على المتظاهرين إلى القضاء والسماح بالتظاهر السلمي وإيقاف العمل بقانون الطوارئ والسماح بدخول وسائل الإعلام، وتمرُّ بصوغ دستور ديموقراطي جديد للبلاد وقوانين عصرية حديثة للأحزاب والإعلام والمجتمع المدني والنقابات المهنية، وتنتهي بانتخابات برلمانية ورئاسية جديدة. وهذه “التسوية التاريخية” التي طرحت تحت الاسم ذاته وقتها أطلقت عليها بعض شخصيات النظام الفاعلة “إنذار غورو”، لأنها رأت فيها انقلاباً كاملاً على النظام.
لقد قضت سياسة غ-غ، أو سياسة الغباء والغرور، على أي فرصة لمثل هذه “التسوية التاريخية” ويا للأسف، والتي كان يمكنها أن تسير بسوريا والسوريين خطوات موثوقة نحو الأمام. وفي الحقيقة كل مبادرة سياسية طرحت أو تطرح من قبل النظام أو وكلائه أو حرَّاسه ليس لها من معنى أو هدف جوهري إلا “بقاء الرئيس” وحسب، ولا تعير أهمية للبلد وأهله، ولا للخوف على مستقبله، إذ لو كان ذلك صحيحاً لما فعل النظام بالبلد وأهلها ما فعل، ولما صمت الوكلاء والحراس عما فعل. يقيناً أنه لم يكن في بال النظام من طريقة للتعامل مع الثورة إلا الطريقة التي تعلمها منذ عهد بعيد، فقد تخثرت علومه ومعارفه وأساليبه عند ما تعلمه من مدرسة الثمانينات.
ومنطقياً اليوم لابدّ لأي مبادرة أو تسوية سياسية، إذا أرادت العيش فعلاً، أن تكافئ الناجح وتعاقب الفاشل بحسب بديهيات المدرسة الابتدائية الغائبة، وأعتقد أن في هذه المقاربة شيئاً من الكرم الذي لا يستحقه النظام، لأننا ننطلق هنا من باب النجاح والفشل لا من باب الجلاد والضحية. ومع ذلك يمكن القول إن النظام فشل طوال عامين في حل الأزمة، وهذا التوصيف يتفق عليه اليوم كل السوريين، المعارض والموالي، الصامت والحيادي، صراحة أو ضمناً، بل لعله الأمر الوحيد المتفق عليه بينهم.
ويصدق الأمر ذاته على المعارضة الطافية على السطح، مع الانتباه إلى وجود معارضات متعددة أخرى لم تعبِّر عن نفسها بعد. ومن البديهي القول أن على الفاشل –على الأقل- الاستقالة والعودة لدراسة التاريخ وبعض القصص ذات المغزى جيداً في المدرسة الابتدائية التي جرى الاستخفاف بفضائلها.
رغم كل السوء الذي نعرفه في مدارسنا الابتدائية من حيث المناهج والإدارة وأساليب التعليم التقليدية، إلا أنها كانت المكان الذي انطلقت منه الثورة، فعلى جدرانها كتب أطفال درعا “الشعب يريد إسقاط النظام”، وها هم اليوم يقلبون شاحنة التاريخ ويكسرون بلّور مسيرة الغباء والغرور.
فإذا كانت المعارضة غير قادرة على إدارة مدرسة ابتدائية، فإن النظام لم يكن في الحقيقة قادراً على استيعاب لعبة استهوت مجموعة من الأطفال. هل يملك أحدنا بعد اليوم التجرؤ على المدرسة الابتدائية وإنكار فضائلها؟!
معارض سوري
النهار