فاشية حقول البطاطا ونذيرها!!: عزيز تبسي
عزيز تبسي
-1-
لم تنتج الطغمة العسكرية التي إنفردت بالسلطة بعد 18 تموز 1963 سلطة فاشية تقليدية،من النمط الأوروبي الغربي،كالعطاءات والمواهب السياسية للرأسمالية المأزومة في النازية الألمانية والفاشية الإيطالية،المصفحتين بأساطير وخرافات وتعال قومي مزيف، عززته بنزعة حربية هجومية؛رغم أن الفكر النازي والفاشي من صميم الأيديولوجية الرأسمالية في طورها الإمبريالي ،ويمكن تبيّن عمقه في كل الأيديولوجيات الرأسمالية دون إستثناءات،لاعن ذاك الخطأ الفكري الشائع والمستمر إلى اليوم،والذي يحاول حصره في الثقافتين القوميتين الألمانية والإيطالية،ويمكن تلمس بوضوح عناصر الأيديولوجيتين النازية والفاشية في أيديولوجية البورجوازية الفرنسية والإسبانية والأمريكية واليابانية والتركية….الخ،وفي أيديولوجيات البورجوازيات الكولونيالية وفق صياغات تلائم وظائف إعادة تجديد هيمنتها الطبقية وإحتجاز إمكانيات التحرر،وهي عادة ماتوجه عدوانيتها وحربيتها نحو الداخل الوطني المستولى عليه….الخ.
أنتجت الطغمة العسكرية فاشية بخصائص محلية،تعرف حجمها ووظائفها وحدودهما،صفّحت نفسها بقوة قمعية قهرية عمادها الجيش-الذي تدرب على الكيفيات التي ينتقي أعداؤه الوطنيين بعناية تاركاً لنفسه تحديد زمان ومكان المواجهة العسكرية معهم-مدعوماً بسلسلة فولاذية من أجهزة المخابرات،قادرة على إذلال أهل البلد وسحلهم عند الطلب،ومتحد طائفي أُشغل بهذيانات أيديولوجية بحمولاتها الإضطهادية،وجد حلها بالتعبئة الإنتقامية الثأرية التعويضية،لا في البحث والعمل على إنتاج وتثبيت صيغة معاصرة للمساواة والتكافؤ والمواطنة.
حرصت هذه الفاشية الكولونيالية في مسيرتها الممتدة،على إبتلاع أكبر كمية من السلطة العمومية دون أن تختنق أو تشعر بالتخمة،ودون الأخذ بأي إعتبار يدفع نحو المشاركة الحقيقية فيها،مصفحة بعدوانية قانون الطوارئ،وهو المدخل”القانوني”لإحتلال الدولة وتثبيت مستعمراتها في عمقها.
عمارة سياسية-أيديولوجية تبدو متماسكة من الخارج،مهندسوها-اللجنة العسكرية- أخرجوا تباعاً من المشهد الذي لا يحتمل التعددية وأبرزهم ضابط برتبة لواء قضى في السجن،ليستلم مكانه”خليفته”الذي عمل معه في نحت أول حجرة بها وتدرب على يديه،بالكيفيات والأسرار التي يشيّد بها البناء.
لم يتخيل من قام بتشييد هذه العمارة وربما أي عمارة سياسية أخرى،أنها قابلة في لحظة تاريخية ما للمساءلة أو التقويض،يخضعها من حين لآخر لترميمات،تحافظ على تماسكها الخارجي،وتظهرها بأقوى صورها،واضعاً تحت إمرتها كل الممكنات التي تدفعها للإستمرار والصمود أمام نوائب الدهر والدهريين.
إستعد حماة هذه القلعة لكل الإحتمالات،ووضعوا تحت طلبهم كل الأسلحة وكل الأصبغة الأيديولوجية من قومية وإسلامية وإشتراكية ،مدعومة بالحصة الأكبر من الدخل الوطني وعوائد مساعدات أنظمة الريع النفطي.لم يخطر في ذهن مهندسوها ،أن تكون مطارق تقويضها في يوم من الأيام،بين أصابع أطفال ثلجها البرد وأنهكها ثقل الحقيبة المدرسية،لتكتب فوق جدران البيوت نعوة السلطة الجبروتية،بثقة العرافين المنذورين لرصد النوائب،والتبليغ عنها بكلام مختزل،وتكون الواقعة بالمصادفة في الأرض الأقرب للأرض المحتلة،التي طالما إعتاشت الطغمة العسكرية على المتاجرة والتكسب من قضيتها،دون أن تُقلق نوم العدو الوطني بطلقة صياد،أحب كما أجداده تعقب الحجل الثقيل وإستدراجه إلى سفود الحطب اللاهب.
يتستر الفاشيون الصغار،لا يوجد فاشيون كبار على كل حال،عما يمكن تسميته مجازاً مشروع-هم،وهو بعمومه دفع لأحد خيارات البورجوازية المحلية إلى المواقع الأكثر فاشية وطائفية وطفيلية،لكن هؤلاء يقدمونه في سرد ميلودرامي يظهر عداءً لفظياً وأحياناً مادياً ضد البورجوازية ويضيفون إليها الإقطاع في لزوم مالا يلزم في التشكيلات الإجتماعية الطرفية التبعية.
ونجد في الدراسة التاريخية التي تتمتع بقسط وافر من العلمية-ستيفن هايدمان:التسلطية في سورية”صراع المجتمع والدولة”-إصدار دار رياض الريس.أن مشروع-هم الإقتصادي على سبيل المثال،من إنتقائيات المشاريع التي عكفت على دراستها البورجوازية السورية في مرحلتي الخمسينات وأوائل الستينات،ومنها: تأميمات للملكيات الزراعية العقارية الكبيرة،وضرورة إعطاء دوراً أكبر لرأسمالية الدولة بما يساهم من السيطرة على التوترات الإجتماعية وضبطها،وتوفيرالحماية الجمركية للصناعة والمنتجات المحلية،مما يساعد في دعم الإستقرار والتوسع في الإستثمار الرأسمالي.
قدمت البورجوازية السورية(قبل آذار1963) مشروعها الإقتصادي بنوع من التكامل الوظيفي مع السوق الإمبريالي،بتكيف مع تقسيم العمل الذي فرضته الإحتكارات الرأسمالية العالمية،وهو بعموم عناصره مشروع يتأسس على الإنتاج المادي،وهنا يمكن تلمس بعض من خصائصه التنموية من غير التعويل الإستراتيجي على ممكناتها التي تبقى محتجزة في الطوق التبعي؛قبل أن تكتشف الطغمة العسكرية أهمية “الريع الوطني”الذي همش بحتمية إقتصادية القطاعات الإنتاجية لصالح أنماط من الطفيلية المتطرفة في سيرورتها الإحتكارية،التي تستقوي بالسلاح والسجون وأنماط في الخوات الإقليمية وهو ما يمكن تسميته،حيازة على حصتها من إقتصاديات الفضاء الإقليمي وريوعه المالية،تأسست على إيجاد تفاهمات وتسويات أمنية تحت الطاولة مع العدو الوطني،وهو رأس الرمح الإمبريالي،وذراعه الحربي في المنطقة العربية،وتفرغت لدحر كل ماعداه كالحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية والإحتجاجات المحلية.
ليتبيّن بعد سبر الدراسات القريبة من الطغمة العسكرية-جدلية الصمود والإصلاح لمحمد جمال باروت-أن هذا الخيار الريعي-الطفيلي قد أتى بعوائده في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي،بعد حرب تشرين-أكتوبر1973،وحقق مستويات تنموية عالية،تفوق المستويات التي حققتها دول الخليج التي تكفلت بمنح هذه المساعدات المالية من فوائض أسعار البترول،وساهم بالتوسع الأفقي والعمودي للشرائح الوسطى المرتبطة بالعمل في مؤسسات الدولة،وسهّل خروج الفئات الأدنى للعمل وفق حاجات السوق الرأسمالي في البلدان العربية،ووفر للعمال المهرة فرصة كبيرة للتحول الطبقي،من داخل التشكيلة الطبقية السورية أو من خارجها”إقتصاديات الدول العربية”.
بعد حرب تشرين-أوكتوبر 1973خرج الضباط من ثكناتهم،ومن أقبية التحقيق،مكتشفين حدود وظائف تلك الأماكن المغلقة،ليجولوا في الأسواق والوكالات التجارية والمصانع والعقارات المتاخمة للمدن….،ويطلعون على فضاء الأملاك العامة والخاصة الواسع،ليقرروا اعتبارهما بمثابة أملاك خاصة بهم وبأعوانهم بموجب قانون التملك ب”وضع اليد”وبفرض الشراكة القسرية،عبر تسهيل الأنشطة الإقتصادية وتوسيعها،والتستر على تجاوزاتها ولا قانونيتها.
ويتعزز بعدها هذا التوجه بالتدخل العسكري في لبنان 1976،لينفتح عالم آخر على الإمتيازات والسرقات والشراكات ….عوالم واسعة موارة بالحركة والإنتاج والموارد،ويريدون حصتهم من كل ذلك،عالم لطالما استهواهم،ولم ترغب أعماقهم في تشييد علاقة تسوية أو تفاهم وصداقة معه،آثروا الإستيلاء عليه وطبعه بطباعهم وإذلاله عند الضرورة،وتكييفه مع مزاجهم وأهوائهم وجعله رهن أصابعهم،وتفعيّله لأجل الهدف الكبير:البقاء في السلطة إلى الأبد ،أبدهم.وحقن الناس بمصول اليأس،أن السلطة لن تتغير،الذي يجب أن يتغير هو العامة،لا سواهم.
يكتشف الناس متأخرين،وهم العبيد في عرف الفاشيين،حين يمدون أياديهم ويمطون جذوعهم في طوابير لانهائية،ليتسولوا الخبز والأرز والسكر عبر البطاقات التموينية العائلية،التي يمنّنهم بها العسكريون وأعوانهم،أن هؤلاء الذين يرتدون أحدث الألبسة الوطنية وربطات عنقها،ما هم في الواقع إلا خونة ولصوص…لكن تلك المعرفة سواء أتت في وقتها أو متأخرة قليلاً،لا تكفي للإنطلاق الجسور إلى الاحتجاج العلني.
خال أولئك العسكريون،أن الناس نائمون في فراش الخديعة الدافئ،أغبياء بلداء،جاهلون،تكفيهم في لحظة يقظتهم المذعورة وتحررهم من الوهم المسموم،تلك الجهنم الصغرى،التي تكفلت بإنتاجها وإضرام نارها وتوفير حطبها،سلسلة من أجهزة المخابرات،كافية لإعادة هذا الكائن إلى رشده،أي إلى خنوعه،وتمثله شخصية المخدوع الغبي.
-2-
تمنى العديد من نقاد السلطة والمتحالفين معها في آن،الرغبة الضمنية في نمذجتها-إحالتها على نموذج معروف-ديكتاتورية الحزب الواحد على سبيل المثال،لتسهيل القياس عليها وإستنساخ الموقف السياسي المطلوب،إلا أنها عرفت كيف تلعب بهم وتربكهم،وتشوش أفكارهم المسبقة لتكشف بالمقابل عجزهم وعجز هذه القوالب الفكرية المدرسية،عن الإبداع وتفحص الجديد في أنظمة الرأسمالية التبعية.
قدمت لهم صيغة تحالفية،للحزب القائد والمنظمات الشعبية التي يسيطر عليها دوراً حاسماً في إتخاذ قراراتها،وهي بعمومها قرارات تتخذها الطغمة العسكرية ويؤتى بها لهذه الجبهة لأجل المصادقة عليها لا أكثر.وقدمت لهم قطاع الدولة الرأسمالي،عرف بكونه القطاع العام تمييزاً عن القطاع الآخر الذي سمي قطاع خاص،وإحتار الإقتصاديون النوافل،في وصف هذا القطاع الرأسمالي الحكومي كذلك،مرة إشتراكي وأخرى حكومي قابل لأن يكون نواة للقطاع الإشتراكي المنتظر،ومرة رأسمالية دولة،وقطاع عام……ولم تشر عموم الكتابات،إلى الكيفيات الكفيلة،في إستقرار هذا القطاع وتوسع إنتاجيته ودوره في التنمية،وآليات تحقيق ربحيته التي تجعله يستمر رغم النهب المتواصل وكساد البضائع في العديد من مصانعه وتخمة المستودعات بها،ودور النقابات في الرقابة عليه…ليظهر عجز القوى السياسية وظهيرها الفكري،عن إستيعاب هذا البناء الإقتصادي،لكنها توافقت على ضرورة قبوله دون التكلف في فهمه-التسليم بوجوده والعجز عن إصلاحه- وهي عادة لها أصولها الفلسفية –الدينية العميقة،القبول به كواحدة من الأقدار.
حالة إرباك تخصصت بها الجماعات الشيوعية-العلموية المتحالفة مع هذه الأنماط السياسية الفاشية،التي أوهمت نفسها وغيرها،بأنها قادرة على تفسير وفهم أي شئ،ظاهرة سياسية-إجتماعية-ثقافية،بما تملكه الأيديولوجية التي بحيازتها أو حيازة النخبة القيادية عندها ورهن إشارتها.هؤلاء سيكون إنحطاطهم مزدوجاً،بخيانة فكر ثوري بات في عقولهم ومصالحهم،قوة تبريرية لتحالفاتهم الدائمة،وخيانة للطبقات الشعبية التي ما إنفكوا إدعاء تمثيلها.إكتفى هؤلاء بتوزيع رخص قيادة عربة التاريخ،مجردين أنفسهم وأتباعهم من أي فضول تجاه المستجدات التي تأتي بها حركته،وتضعها أمام تلك العربة وخط سيرها،كل شئ معروف عندهم،لا شئ جديد،وكل جديد هو قديم مكرر،ومعادة صياغته وتجديده.
لكن من يقود حركة التاريخ؟هل هي عربة”الزيل”العسكرية بصوتها الهادر،أم سيارة ال”مرسيدس”الملقبة بالشبح،بزجاجها المعتم وستائرها المسدلة،والمعتادة على تجاوز كل أنظمة المرور وقوانينها،طرقاتها وأرصفتها،شاراتها أحمرها وأخضرها برتقاليها،وحرق أخضر المراحل ويابسها،ولكن،إلى أين تقاد هذه الحركة من التاريخ ياشباب؟!!!
-3-
سلطة الطغمة العسكرية،ليست إبرة ضائعة في كومة قش،سلطتها في كل مكان متوقع وغير متوقع،لا ينبغي إظهار الغفلة والعمى عنها،وإلا سيفسر الثوار المتمتعون بحس نقدي حاد ذاك العمى الإفتراضي،كشكل من أشكال التواطئ معها.السلطة في كل مكان،يبقى البحث عن مركزها العصبي،تحديده وسبره،حيث تكون النخبة العسكرية وتداولاتها عما يحصل،لإتخاذ القرارات الأكثر مصيرية لمستقبلها.وتسريبها لأعوانها من حين لآخر بعض الشتائم بحق هؤلاء العامة،الناكرين لجميل الخبز وحفنات السكر والأرز المدعومة، وقطرميزات مخللات الممانعة وعلب سردينها.
لكن ينبغي الإنتباه واليقظة التامتين،بأن قوانين الطغمة العسكرية تحاسب على قلة الوعي،كأن يجري النظر للرئيس،على سبيل المثال،بكونه كائناً بشرياً،لا نصف إله أو إله كلي القدرة.أو بلفظ إسمه دون خشوع بإسبال الجفنين وإظهار التهجد في الصوت..على أقل تقدير.حينها ستمارس قناعاتها الطبية الراسخة،أن قطع الرقبة يفيد في علاج آلام الرأس والخلاص النهائي من تلك الوساس التي تداهمه حين تتوافق مع التفكير النقدي،وإستخلاص النتائج من بعض المقارنات بين أنظمة الحكم التي تتكلم اللغة ذاتها،وهي أمثولة لا للرأس المقطوع،بل لتلك الرؤوس التي مازالت فوق أعناقها.
من هنا،منبع الرد الدموي على الإحتجاجات العامة في حوران،بوعد الإبادة الحاسم بتحويل مدن وبلدات وقرى ذاك السهل اللاهب إلى حقول بطاطا،تهديد سيتكرر،على ألسنة الجنرالات الفاشيين ويردده بعدهم أعوانهم في توافق جوقة جنونية ظلامية عدمية،آخذة هيئة النذير والوعيد،بعد كل دخول ملحمي لبلدة أو مدينة في نسق الإحتجاجات الشعبية قبل تحولها النهائي إلى إنتفاضة شعبية ثورية.وعيّد ستشق الحتمية الحربية طريقه وتعبده لتؤكد ما لم يتوقعه،حتى من أطلقه،بأن هذه المدن والبلدات والقرى،صارت مقبرة للحوم المحروقة والحديد المصهور والكبريت والمحسنات الكيماوية وإبداعاتها القاتلة،لم تعد بعد الجنون الحربي،صالحة حتى لزراعة البطاطا.
كانون الأول حلب2012.
خاص – صفحات سورية –
بعد حرب تشرين-أوكتوبر 1973خرج الضباط من ثكناتهم،ومن أقبية التحقيق،مكتشفين حدود وظائف تلك الأماكن المغلقة،ليجولوا في الأسواق والوكالات التجارية والمصانع والعقارات المتاخمة للمدن….،ويطلعون على فضاء الأملاك العامة والخاصة الواسع،ليقرروا اعتبارهما بمثابة أملاك خاصة بهم وبأعوانهم بموجب قانون التملك ب”وضع اليد”وبفرض الشراكة القسرية،عبر تسهيل الأنشطة الإقتصادية وتوسيعها،والتستر على تجاوزاتها ولا قانونيتها.