فالح عبد الجبار: سوق الأفكار مغلقة
شوقي بن حسن
منذ 2011، تحوّل السياسي إلى شأن فكري بامتياز، يتناوله الباحثون والمفكرون بالدراسة من زوايا عديدة. ينطلق المفكر العراقي فالح عبد الجبّار (1946) من اختصاصه في علم الاجتماع لتقديم مقاربات في هذا المجال.
يقول عبد الجبّار في حديثه إلى “العربي الجديد”: “كل اشتغال في العلوم السياسية أو الاجتماعية هو اشتغال ثقافي”. وهو يعتبر أن العلوم الإنسانية تتكامل من أجل تقديم رؤية عامة عن الواقع، فـ “مثلما يُمكّن علم الاقتصاد من معرفة المرء لبنية الاقتصاد الذي يعيش فيه، أو يُمكّنه علم النفس من معرفة بنيته السيكولوجية وتفرقة النماذج السوية عن غير السوية، فإن علم الاجتماع هو العلم الذي يُمكّن المجتمع من أن يرى نفسه”.
غير أن هذا العلم عانى مثل مجالات بحثية عديدة من سوء الاستخدام، يقول عبد الجبّار: “كثيراً ما يتم تطبيق هذا العلم بمنهجيات غير دقيقة أو تكون البحوث ملوّثة بالخيارات الأيديولوجية المسقطة، أو بالأحكام الأخلاقية المسبقة”.
يلاحظ عالم الاجتماع العراقي: “للأسف، فمستوى العلوم الإنسانية في العالم العربي اليوم هو في أدنى مستوياته”. يرجع ذلك إلى أسباب عديدة منها أن “بنية المدارس والجامعات العربية لم تتطور، فهي تقريباً مثلما تنظمت في بداية القرن، لم تنفتح ولم تتطور، إلى جانب بقاء الدولة مهيمنة عليها وعلى توجهاتها”.
يشير عبد الجبار إلى أن “ثمة استثناءات في هذا القول، ومن بينها تحسّن وضع الترجمة في السنين الأخيرة” كما يبيّن أن “هذا الواقع متفاوت بين الدول العربية، إذ يرى أن هناك اشتغالاً لا بأس به في المغرب وإلى حد ما في تونس ولبنان”.
لتفسير هذه الحالة من التعثر التي يعيشها علم الاجتماع في العالم العربي، يقول عبد الجبّار: “لقد عشنا فترة طويلة من هيمنة الأيديولوجيات، كل إيديولوجيا فيها وعي بالعالم وتعبير عن المصالح، وفيها أيضاً يوتوبيات وتحيّزات”.
وعطفاً على المستجد في السنوات الأخيرة، يضيف “اليوم يوجد تحوّل في النشاط السياسي من النشاط القائم على الإيديولوجيا إلى النشاط القائم على الهوية أو على سياسة القضايا-المطالب”. يتابع قائلاً “لقد تحرّك الربيع العربي بهذين الدافعين الأخيرين، وكانت نتيجته صعود الإسلام السياسي وقد وجد نفسه وحيداً في الساحة بعد ضرب الخيارات الإيديولوجية الأخرى، يسارية وقومية”.
بالنسبة إلى صاحب كتاب “العمامة والأفندي” فإن “المحرّك الرئيسي في المشهد السياسي العربي، وخصوصاً في المشرق، هو الطائفية. المنطقة غارقة في الطائفية”. ويعقّب قائلاً: “هذا المناخ قاتل لأي فكر سياسي حرّ بالتأكيد”.
بنظرة فاحصة على كامل منجز عبد الجبّار نجد أنه كثيراً ما يوظف علوماً قريبة من مجاله في قراءاته للواقع العربي، ومن بينها علم الاقتصاد الذي يستعير منه الكثير من المفاهيم، فمثلاً يفسّر حالة الركود بكون “سوق الأفكار العربي مغلق” حيث يمثل السوق فضاء تبادل حر وتنافس حر يتيح البقاء للأفضل.
من هنا، يقول “يتفاجأ البعض من صعود الفكر الطائفي، ولكن فلينظر من حوله، سيجد أن كل الفضاءات التنويرية قد أغلقت، أو حوصرت في أماكن مغلقة كالجامعات، بينما الفكر الطائفي يستفيد من مساحات يتحرك فيها”.
من البديهي أن الفكر يحتاج إلى تراكم معرفي وجدل وسجال، وبالنسبة لعبد الجبار “ليس لدينا مؤسسات للنقاش الفكري”. يضيف “نريد اليوم أن ندرس مجتمعاتنا وليس لنا أدوات تحليلية محلية. تظل العلوم الإنسانية الغربية ومناهجها هي أدواتنا، لكن علينا أن نتفطن بأنها ليست بديلاً عن واقعنا، لأن هذه الأدوات استخرجت على ضوء واقعهم وما يحتاجه”.
يذكر عبد الجبار أن “أول جيل درس علم الاجتماع في الغرب هو جيل الأربعينيات، وهؤلاء حين عادوا لم يجدوا الأمة والفرد والطبقات الحديثة فاحتاروا كيف يطبّقون ما درسوه، وأصيبوا بصدمة. كان الأنثروبولوجيون أكثر حظاً إذ أن العلوم التي تعلموها كانت قابلة للتطبيق على أي مجتمع، يعود ذلك لكون علم الاجتماع كان نتيجة لعصر صناعي، ونحن في ذلك الوقت كنا مجتمعاً زراعياً حرفياً. وكأنهم مثل من يأتي بمفكات براغ إزاء جمل أو حصان ، دون أن يكون لديه سيّارات أو درّاجات”.
لكن، كيف يتجاوز عالم الاجتماع العربي تلك الفجوات التي لا يمكن للأدوات الغربية أن تغطيها؟ يرد عبد الجبار من خلال مثال. فـ “مفهوم الطبقة هو مفهوم كلاسيكي غربي ابتكر في فرنسا القرن الثامن عشر، حين نأتي بهذا المفهوم إلى العالم العربي نجد أنه موجود بمنظور وغير موجود بمنظور آخر، أي أنه قابل للتطبيق وغير قابل في آن وقس عليه العديد من المفاهيم الغربية الأخرى”.
يقدّم نموذجاً بـ “النخب الحاكمة حيث أنها تتحوّل إلى طبقة مغلقة، مؤلفة من عناصر من الحزب الحاكم، وهؤلاء يقومون على المبادئ الحديثة كالتنظيم والمعرفة والإدارة، لكن في نفس الوقت يظلون محتمين بالجماعة القرابية. هذا التركيب لا نستطيع أن نسميه طبقة، ولا نستطيع أن نسمّيه عشيرة أو جماعة قرابية، يمكننا أن نسمي ذلك طبقة-عشيرة وهذا ابتكار مفاهيمي يعطي بعداً جديداً للواقع، وبالممارسة يمكن إيجاد صيغة لغوية أفضل”.
في سياق الحديث عن المفاهيم، يرى عبد الجبار أننا نعيش “حالة من الفوضى على مستوى المفاهيم والمصطلحات” وهو يعتبر أن من أخطر ما يهدد الفكر هو تداول مصطلحات ليست دالة عن أي واقع ملموس” يرجع ذلك إلى “نزعة كلامية لدى الباحثين العرب”.
تساءلنا: “كيف السبيل إلى استدراك هذا النقص؟”، يجيب عبد الجبّار: “أرى أن إتقان العلوم الفسلفية هو بداية الطريق. لذلك تفرحني الدراسات الفلسفية في المغرب، ثمة اشتغال يفرح على المفاهيم هو مقدمة لإتقان صنع المفاهيم، وهي صناعة رفيعة ودقيقة وخطيرة”.
يلاحظ عبد الجبّار أنه “يمكن القول أنه منذ ابن خلدون لم تظهر مفاهيم عربية، وفي العلوم الحديثة لعل أفضل مفهوم أنتج خارج الغرب هو مفهوم الدولة الريعية الذي ابتكره عالم الاقتصاد الإيراني حسين مهدوي”. يعتبر “لدينا أحياناً تحاليل رائعة، ولكن ليس لدينا جهاز مفاهيمي”.
هل يستمر الحال كذلك؟ يقول عالم الاجتماع العراقي: “أظن أن ثمة تحوّلاً عالمياً يخدم التقاط المعرفة وتداولها”. وهو يذكر بأن “علم الاجتماع نشأ عالمياً في فرنسا وبلجيكا، ولكنه بعد الحرب العالمية الأولى تحوّل إلى علم قومي بسبب الاحتراب بين الأمم، فنشأت مدرسة ألمانية وأخرى فرنسية وثالثة بريطانية”.
يضيف: “بقي الحال كذلك حتى الثمانينيات حين حصل انفتاح تطوّر بنهاية الحرب الباردة. واليوم، نجد أن تكوين قسم الاجتماع في أي جامعة كبرى في الغرب كوسموبوليتي”.
يشدّد عبد الجبّار أن “علم الاجتماع اليوم كونيٌ، بمعنى أنه يتبادل المعرفة بين المناطق مع إدراكه لوجود اختلافات، أي أن هناك وعياً بالاختلاف وبالمشترك في آن واحد”. ويضيف “في العالم العربي، تسود أحياناً فكرة الخصوصية أي أننا نحتاج إلى علم اجتماع عربي، وهذه مقولة فيها قدر من الشعارات والمغالطة، وإن احتوت أيضاً بذرة من الصحة”.
يقول “لا يمثل الغرب بالضرورة نموذجاً، بقدر ما يتيح الفرصة للمقارنة بين المجتمعات باعتبار أسبقيته المعرفية والتاريخية”. وفي أعمال عبد الجبّار نجد الكثير من هذه المقارنات، ففي دراسته للطبقة الوسطى العربية، يعود إلى خصائصها في الغرب، فيجد بأنها لها هامشاً واسعاً تتحرّك فيه بعيداً عن الدولة بفضل امتلاكها جزءاً من رأس المال.
هذه الطبقة، بحسب عبد الجبار، تعمل في السوق وهي ليست مرتبطة بالدولة خصوصاً في أوروبا الغربية واليابان وأميركا. أما في بلداننا، فإن السوق محدود، لذلك فإن الغالبية مضطرّة للاشتغال في أجهزة الدولة، ومن يكون كذلك فهو مضطر أن لا يمارس النقد وإلا طُرد من سوق الشغل، ثم يخلق هذا الوضع ما يسميه بـ “عبودية الراتب”. وهذا مرتبط بعامل آخر يسجله عبد الجبار وهو هيمنة الدولة على القطاع المعرفي أي أنها تنتج الوعي الذي يناسبها.
هل إن هذه القراءة تقودنا إلى أن نسلّم بأن هيمنة الدولة على المجتمع قدرٌ في العالم العربي؟ يرى عبد الجبّار أن “هذا صحيح إلى حدود 2010. ما حصل بعده هو أن سوق المعرفة المحتكر انفتح بفعل التكنولوجيا، وأن قنوات المعلومات ما عادت بيد الدولة وحدها”.
يضيف عاملاً ثانياً بالقول: “جعل اكتظاظ المدن الدولة عاجزة عن ضبط الحركة، كل هذا أعطى قوة للمجتمع لكنها غير كافية في غياب القوة الاقتصادية”. وهو يقدّم هنا النموذج التركي حيث أن طبقة رجال الأعمال استطاعت أن تضغط على سياسات الدولة.
يشير عبد الجبار إلى أن “المجتمع كي يوازن الدولة ينبغي أن ينتج الثروة، وما لم يتحقق ذلك تظل الدولة المالك الأكبر وتخلق لدى المجتمع عبودية الحاجات”. لكنه، من جهة أخرى، يذكر بأن الدولة نفسها يمكن أن تكون مخرجاً للوصول كما في ألمانيا أو اليابان القرن التاسع عشر حيث قامت الدولة بالاستثمارات بسبب عجز المجتمع، لكنها أحالت الاصول الانتاجية بعد ذلك إلى المجتمع”.
يُعقّب: “إنتاج المجتمع للثروة والمعرفة هي الوضعية تزيد من قوة الدولة ومن قوة المجتمع، باعتبار أن أهم عنصر من عناصر قوة الدولة هو رضا المجتمع، وإلا أجبرت على القمع السافر ما يؤدي إلى إضعاف الطرفين”.
في العالم العربي، كثيرة هي البلدان التي يمكن أن تقدّم كنماذج من ضعف الدولة والمجتمع، يذكر عالم الاجتماع العراقي منها سورية والعراق وليبيا واليمن كأبرز نماذج على خواء المجتمع من الفعل، فـ “حتى المؤسسات الاجتماعية مثل الجمعيات والنقابية تقوم الدولة بإلحاقها بأجهزتها أو تبادر بخلقها قبل المجتمع فتفقد دورها كوسيلة تعبير وتحرّك”.
هنا، يذكّر عبد الجبّار بمقارنة عقدها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي بين روسيا وإيطاليا في ما يتعلق بقوة الدولة. ففي روسيا، يرى بأن الدولة قوية كجهاز قمعي، ولكن لا يوجد مجتمع مدني يحميها، أما في إيطاليا فإن الدولة ضعيفة باعتبار أجهزتها، ولكن محاطة بمؤسسات اجتماعية تحميها.
يقول “لذلك قال غرامشي بأن الثورة في روسيا هي حرب جبهات شاملة في حين أنها في ايطاليا هي حرب مواقع في المجتمع”. يعقّب عبد الجبّار “نحتاج وعياً بأن الدولة القوية تحتاج إلى مجتمع قوي”.
العربي الجديد