فرناندو بيسوا: لا أحد يفهم أحداً والعالم كلُّه استحالات/ محمد أبي سمرا
في شذراته أو توقيعاته الكتابية – تلك التي انتخبها وترجمها عن الفرنسية الشاعر اسكندر حبش، وأصدرتها “منشورات الجمل” في عنوان “لستُ ذا شأن”، بيروت، بغداد، 2015 – يبدو الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا (1888-1935) صاحب نظرة أو رؤية أساسية تلوح للقارئ في أفق شذراته كلها: ليس العالم سوى مجموعة لا متناهية من الالتباسات والاستحالات، ما دام “العالم ليس حقيقيا، ولكنه واقعي”، على ما كتب جازماً في واحدة من تلك الشذرات.
من غابة الاستحالات التي يخلص اليها قارئ “لستُ ذا شأن”: استحالة الحب، التعبير، الصدق، المعرفة، الايمان، وغيرها الكثير. وحده “الإحساس”، يمكن الركون اليه في هذا العالم. لكن الإحساس ليس واحدا، بل هو متاهة لامتناهية من الأحاسيس المفاجئة، المتغيرة والمتحولة، من دون أن تهدأ وتستقر على حال. فالحال هو اللايقين والانعطاف الدائم المفاجئ من إحساس – فكرة الى أخرى تنقض سابقاتها وتدحضها.
ترجمة الأحاسيس
من متاهة الانعطافات هذه تولد شذرات بيسوا الكتابية المستقلة كل واحدة منها عن الاخريات، بل المنقطعة عنها، لتؤلّف كلها مجتمعة ما يمكن تسميته ترجمة الأحاسيس الى أقوال فوضوية، إحتمالية، متناسخة دائرياً، وصولاً “الى الشبع من العدم، الى الامتلاء من اللاشيء المطلق”، يكتب بيسوا. وهذا ما يدفع “الى الانتحار” الذي لن يكون أكثر من “وخز شبيه بذاك الذي يدفعنا الى الاستيقاظ باكرا”، لنواصل التيه في غمرة الأحاسيس اللامتناهية.
لكن صاحب “كتاب اللادعة” – وفقاً لترجمة الشاعر الراحل بسام حجار، و”كتاب القلق” وفقاً لحبش – يسارع الى الكتابة في شذرة أخرى بعد صفحتين: “هل أنتم واثقون بأنني صادق حين أقول ذلك؟”. أما الشاعر أوكتافيو باث فكتب في نص له عن بيسوا معتبراً أنه الكائن أو الشخص “المجهول من لدن ذاته”. وقد ترجم هذا النص الى العربية المهدي أخريف، وجعله مقدمة لمختارات من أشعار بيسوا، نشرتها في العنوان نفسه “الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة” في القاهرة. والى هاتين الترجمتين لكلٍّ من حجار وأخريف، سبق لحبش أن ترجم مجموعة شعرية لبيسوا في عنوان “حارس القطيع” نشرتها دار “الجمل” في العام 2007.
المختفي خلف بدلائه
في المقدمة التي كتبها حبش لـ”لستُ ذا شأن” نتعرّف الى محطات من سيرة بيسوا الذي كان في الخامسة من عمره حين توفى والده بمرض السل في العام 1893. أخوه جورجي توفى أيضا قبل أن يكمل عامه الأول. والدته الأرملة الشابة تزوجت الكومندان جوان ميغال روسا. جدته دخلت بعد مدة قصيرة مستشفى للأمراض العصبية. منذ طفولته اخترع بيسوا شخصين خياليين كي يساعداه على العيش. لكن الشخصيات الخيالية التي ابتدعها بيسوا لاحقاً في حياته الكتابية، بلغ عددها 72 شخصية. وكان اختراع الشخصيات والاختفاء خلفها والكتابة بأسمائها، مأثرة بيسوا الكتابية الغريبة طوال حياته التي انتهت من دون أن ينشر باسمه سوى كتاب صغير في عنوان “رسالة”، عبارة عن “ملحمة وجدانية في مجد البرتغال”. بعد 30 سنة على رحيله، أي في العام 1968 اكتُشفت “الحقيبة السحرية” لمخطوطاته (27423 نصاً أو وثيقة) هي أعماله الكتابية كلها التي كان وزّعها ونشرها بأسماء “أقرانه” السريين المخترعين. كأنه في هذا أراد أن يكون المحور السري لـ”الحركة الأدبية البرتغالية الحديثة” في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
أقران بيسوا أو بدلاؤه الكتابيون الأشهر، هم ثلاثة أساسيون، ومعروفون على نطاق واسع لدى القراء. ذلك أنه ابتكر لهؤلاء الثلاثة شخصيات وسير وحوادث حياة، ومواصفات مهنية وفكرية وكتابية. أحدهم ألبرتو كايرو مولود في لشبونة العام 1889، وأعطاه بيسوا صفة “شاعر الطبيعة” لتجسيد ما سمّاه “الموضوعانية الحسّويّة”. وقد توفى هذا القرين – البديل في العام 1915، لكنه استمر يكتب حتى العام 1930!
النهر بلا طبعة أصليّة
المختارات المترجمة في “لستُ ذا شأن”، تعرّفنا، وفقاً لمترجمها، الى ما يمكن تسميته “الفكر الفلسفي” للشاعر فرناندو بيسوا. لكن الفلسفة، كما التفكير والقول الفلسفيان في الوجود، يطرقها بيسوا، كسواه من الشعراء وكتّاب الشذرات، من باب الحساسية والتعبير الشعريين، وليس من باب المعرفة الفلسفية ومناهجها ومفاهيمها ومصطلحاتها. المعرفة الفلسفية في هذه الكتابة المكثّفة، القاطعة والواضحة في قولها المعاني والأفكار، مترسّبة ومختفية في قيعان القول الشعري الخالي خلواً تاماً من العواطف والإنشاء اللغوي والبياني، كخلوّه أيضاً من البيان والمنطق الفلسفيين. وذلك لترجمة تجارب وخبرات ولحظات من “الإشراق الوجودي” في الحياة الإنسانية التي لا تثبت على حالٍ أو اتجاه: “الحقيقة الوحيدة في الحياة، هي الأحاسيس. /أما الحقيقة الوحيدة في الفن: فوعي هذه الأحاسيس”. ثم في شذرة أخرى: “أن نحسّ الأشياء مجدداً… أي ملل هذا!”، وصولاً الى القول: “أن نحسّ مثلما ننظر/ أن نفكر مثلما نمشي،/ وعلى حافة الموت، أن نتذكر بأن النهار يموت”. ويلي هذا مباشرة: “ليس مهماً أن نشعر بما نعبر عنه: يكفي (…) أن نعرف كيف نتظاهر بأننا أحسسنا به”. وأخيراً: “يسيل النهر، كيفما اتفق،/ من دون طبعةٍ أصليّة”.