فرنسا «القوة الناعمة»: من تصدير اللوفر إلى استيراد الحريري!/ صبحي حديدي
في سنة 1990، طيّ فصول كتابه «محكومة بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوّة الأمريكية»، نحت جوزيف ناي، الأستاذ في جامعة هارفارد، مصطلح «القوة الناعمة»، حيث في الوسع اقتياد البلدان الأخرى طواعية إلى مقاصد بلد ذي جبروت؛ على نقيض «القوة الصلبة»، التي تفترض القسر والإجبار عن طريق الاستخدام المختلف، السياسي والاقتصادي والعسكري، للجبروت إياه. في كتاب لاحق، صدر سنة 2004 بعنوان «القوة الناعمة: أداة النجاح في السياسة الدولية»، أضاف ناي المزيد من العناصر إلى مبتدأ المصطلح، فشدد على ثلاثة مصادر: القيم السياسية، الثقافة، والسياسة الخارجية.
ومعهد بورتلاند الأمريكي، التابع لـ«مركز الدبلوماسية العامة» في جامعة كاليفورنيا الجنوبية، يصدر تقريراً سنوياً حول «القوة الناعمة»، يتضمن استعراضاً للميادين التي تشهد تطبيق المبدأ، نجاحاً أو فشلاً؛ كما يحتوي على مؤشر يرتّب الدول التي تتصدّر الاستخدام الأمثل للقوة الناعمة. تقرير العام 2017 حمل على غلافه صورة برج إيفل الباريسي الشهير، لأنّ فرنسا تصدرت الترتيب الكوني، بـ75.75 علامة؛ تليها المملكة المتحدة، 75.72؛ فالولايات المتحدة، 75.02؛ وألمانيا، 73.67؛ وكندا، 72.90؛ واليابان، 71.66. في أسفل اللائحة، المؤلفة من 30 دولة، تقبع الصين وروسيا وجمهورية التشيك وهنغاريا والبرازيل وتركيا؛ وليس ثمة أي بلد عربي، غنيّ عن القول!
ليس هنا المقام المناسب لعرض المنهجية الصارمة التي يعتمدها المركز في تصنيف الدول، وسلسلة المعايير المختلفة التي يستأنس بها في استخلاص الترتيب، وكيف تتغاير بين معيار عسكري وآخر ثقافي، بين دبلوماسية تُكْرِه وأخرى تستميل؛ وتكنولوجيا تصادق البيئة وأخرى تعيث فيها خراباً… لافت، مع ذلك، وفي عجالة هنا، أنّ بلداً مثل روسيا يحلّ في المرتبة 26 من حيث توظيف القوة الناعمة؛ رغم أنه يُعدّ القوّة الكونية، والنووية، الثانية بعد الولايات المتحدة؛ أو أنّ بلداً مثل المملكة العربية السعودية، رغم كلّ الجبروت النفطي والمالي، فضلاً عن النفوذ التبشيري السلفي، لا يدخل اللائحة أصلاً. لافت، كذلك، وقوع الصين في المرتبة 25؛ رغم انتشار صناعات البلد في أربع رياح الأرض.
لماذا فرنسا في الصدارة؟ يبدأ كتّاب تقرير 2017 من حقيقة أن تصدّر فرنسا كان مفاجأة لهم، بالنظر إلى ظروف البلد قبل عام فقط من انتخاب إيمانويل ماكرون: شعبية سلفه، فرنسوا هولاند، التي هبطت إلى حضيض غير مسبوق؛ والهجمات الإرهابية المتعاقبة، التي ألحقت الأذى البالغ بأمن فرنسا واقتصادها وسياحتها؛ وتزايد صعود اليمين المتطرف، ونجاحه في اجتذاب شرائح من اليمين التقليدي والديغولي… لكنّ قوة فرنسا الناعمة شهدت دفعة ملموسة مع انتخاب رئيس شاب، واعد في برامجه، قادر على كسر الاحتكار التقليدي للسياسة وصناديق الاقتراع بين اليمين واليسار، حائز على ثقة الشارع الشعبي، وحصد أغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية. الجوهري، في المقابل، أنّ ماكرون أحسن استغلال الشبكات الدبلوماسية التي تمتعت بها فرنسا على صعيد دولي؛ كما أجاد استغلال فرصة غير مسبوقة، هي سياسات الانعزال التي اعتمدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فبدا أنّ باريس هي نقيض واشنطن على المسرح الدولي.
والحال أنّ الثقافة الفرنسية واحدة من أبرز دعائم هذه القوة الناعمة، والأرجح أنّ تقرير بورتلاند هذا كُتب قبل أن يسافر ماكرون إلى أبو ظبي لافتتاح متحف «لوفر النور ولوفر الصحراء» على أرض جزيرة السعديات، في إمارة أبو ظبي؛ وإلا لكان هذا الحدث بمثابة الدليل الأحدث، والأبلغ، على امتداد القوة الناعمة الفرنسية، ونطاقات اشتغالها. وفي خطبته المسهبة، التي كانت أشبه بالسير في حقل ألغام من المحظورات الدينية والمحاذير الاستشراقية، تحاشى ماكرون اقتباس رمز علماني غربي (هو الذي يترأس دولة تنتهج العلمانية رسمياً)، أو رمز نهضوي شرقي (رغم إطنابه في امتداح آثار عصر الانوار على ثقافات الآخر)؛ فاستقرّ على الروسي فيودور دستويفسكي، في «الجريمة والعقاب»، ليعلن على لسان راسكولينكوف: «الجمال سوف ينقذ العالم»!
جدير بالتذكير أنّ مشروع متحف اللوفر هذا لم يبدأ مع ماكرون، بالطبع، بل جرى الاتفاق عليه في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك (الذي كان قد ابتدأ رئاسته باستئناف التجارب النووية!). وأمّا الجانب المالي والاستثماري خلف هذا التصدير للجمال، فإنه 525 مليون دولار تدفعها دولة الإمارات العربية المتحدة لقاء استخدام اسم اللوفر طيلة 30 سنة، وقرابة 750 مليون دولار لقاء إعارة الأعمال الفنية، وإقامة المعارض الموسمية، ونفقات تنظيمها. وهذه صفقة ناجحة، قطعاً، يسيل لها لعاب أيّ متحف، خاصة وأنّ اللوفر الباريسي يعاني من خسائر منتظمة بسبب انخفاض السياحة بعد الحوادث الإرهابية التي شهدتها العاصمة الفرنسية. وليس مهماً أن يوقّع أكثر من 500 شخصية فرنسية، من المشتغلين بالمتاحف والمعارض، على عريضة احتجاج بعنوان «المتاحف ليست للبيع»؛ تماماً كما لم يكن مهماً للرئيس الفرنسي أن يثير مسائل حقوق الإنسان مع ضيفه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لأنّ القوة الناعمة لا تعطي دروساً لأحد، ولا تتلقاها من أحد أيضاً، كما قال.
جدير بالتذكير، إلى هذا وذاك، أنّ ماكرون لم يغادر أبو ظبي إلى باريس بعد افتتاح اللوفر الإماراتي، بل قصد العاصمة السعودية للاجتماع مع ولي العهد محمد بن سلطان، في زيارة لم تكن على جدول أعماله. البعض تحدث عن وساطة بخصوص رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والبعض أضاف احتمالات أغراض أخرى، ولكنّ القوة الناعمة الفرنسية اتخذت في نهاية المطاف صيغة عرض مفاجئ من الرئيس الفرنسي: استضافة الحريري وعائلته على الأرض الفرنسية! من حيث المبدأ، يصعب استبعاد المغزى الأول من وراء هذا العرض، الذي يثير الارتياب مجدداً في أنّ الحريري محتجز حقاً في الرياض، ومجيئه إلى فرنسا (السبت المقبل، حسب آخر التقارير) ليس سوى تأكيد على مبدأ الإيواء، حتى إذا كان مؤقتاً، كي لا يتحدث المرء عن عقد تأمين على الحياة. المغزى الثاني استنباطي بالطبع، ولكن تصعب مقاومة التفكير فيه عملياً: مثلما نصدّر اللوفر إلى الإمارات، فإننا نستورد الحريري من السعودية!
كلّ هذا في وقت يشهد إعراض المزيد من الشرائح الشعبية الفرنسية عن سياسات ماكرون الداخلية، إذْ يشير آخر استطلاع للرأي (نُشر يوم أمس فقط) إلى أنّ 81٪ من الفرنسيين يعتقدون أنّ برامج سيد الإليزيه تخدم رجال الأعمال وأصحاب الشركات في المقام الأول؛ وشعبيته، بصفة إجمالية، هبطت إلى 42٪؛ فضلاً عن ارتفاع مؤشرات البطالة، إلى 9.4٪. في عبارة أخرى، ليس حُسن تطبيق القوة الناعمة على صعيد عالمي ضمانة لسياسة داخلية صائبة، أو حتى ناعمة؛ إذا ما قرأ المرء دلالات التحرك الشعبي والنقابي الواسع، هذه الأيام، ضدّ قرارات الحكومة الفرنسية في إعادة تنظيم العلاقة بين العامل وربّ العمل، على نحو يترك للأخير هامش ضغط أوسع على الأول، ويسلّحه بتدابير إدارية غير عادلة.
وهكذا فإنّ مبدأ القوة الناعمة يمكن أن يخفي، أو يجتر، أو يعيد إنتاج، بعض عناصر القوة الصلبة؛ بافتراض أنّ المزج بينهما ليس خياراً معتمداً عن سابق قصد وتصميم، لدى الكثير من ساسة الدول التي تتصدر مؤشر التطبيق الذكي للمبدأ. على سبيل المثال، لم يكد ماكرون يفرغ من إلقاء خطابه في افتتاح لوفر أبو ظبي، حتى سارع إلى زيارة القاعدة البحرية الفرنسية في الإمارة. هناك اختلفت النبرة: «حضورنا، بل حضوركم أنتم في الحقيقة، هو العلامة على أنّ فرنسا تتحمل مسؤولياتها، سواء عن طريق الدبلوماسية، أو العمل العسكري عند الضرورة».
وتلك ضرورة تجبّ دستويفسكي، ومن لوحة جاك ـ لوي دافيد تستحضر بونابرت… فاتح مصر!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي