فرنسوا بورغا:لا يمكن حصر الظاهرة “الجهادية” في سبب واحد/ بدرالدين عرودكي
بين الباحثين الأكاديميين في الإسلام السياسي في فرنسا يحتل فرنسوا بورغا موقعاً متميزاً يضعه، لخصوصيته، على مسافة من سواه من الباحثين: فقد قضى أكثر من عشرين عاماً في عدد من البلدان العربية أستاذاً وباحثاً عاكفاً منذ البداية على متابعة تطور ظاهرة الإسلام السياسي التي باتت اليوم تحتل مقدمة المشهد السياسي العربي من خلال مختلف ضروب التعبير عنها والناشطين فيها فكراً وعملاً. من هنا الأهمية الاستثنائية بين كتبه الأخرى لكتابه الجديد “فهم الإسلام السياسي” الذي يقدم فيه تطور مسيرتين: مسيرته باحثاً في الإسلام السياسي في العالم العربي منذ عام 1973، أي خلال نيف وأربعين عاماً، ومسيرة هذا الإسلام السياسي منذ نشوئه في بدايات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه عبر ما يطلِقُ عليه “لسان المسلمين (parler musulman)”، مسيرة عرفت ثلاثة أزمنة: مرحلة التأسيس أو محاولة تجديد الفكر الإسلامي على أيدي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وتمتد من نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين؛ والمرحلة الثانية التي تبدأ مع استقلال البلدان العربية وتنتهي مع نهاية الحرب الباردة عام 1990، والمرحلة الأخيرة التي تبعت سقوط الاتحاد السوفييتي وشهدت ظهوراً طاغياً للجماعات الإسلامية، سواء في برلمانات عدد من الدول العربية أو من خلال وجودها كحركات ثورية تتجاوز الحدود الوطنية وتتخذ صيغاً وبنى مختلفة في الفكر والعمل السياسيين.
يلخص فرنسوا بورغا رؤيته حول الشرط الأساس لمقاربة الظاهرة الجهادية في جملة واحدة: “أعتبر أن مقاربة الظاهرة الجهادية التي لا تأخذ في الحسبان الآثار المتعددة لاستمرار علاقات الهيمنة بين الشمال والجنوب تُبْنى على أخطاء منهجية خطيرة. هل ستقولون إن هذا بدهي؟ ليس الأمر كذلك بالنسبة لاثنين من أكبر “تفاسير” الجهادية اللذين يحتكران المشهد الإعلامي ـ السياسي: أ) إنهم “مجانين الله” ب) إنهم “مجانين” بكل بساطة!
* كتابك، فهم الإسلام السياسي، هو أولاً مسيرتك كباحث. مَنْ أو ما الذي دفعك إلى الاهتمام بهذا الفرع من الثقافة السياسية العربية في أيامنا؟
فرضت ثيمة البحث هذه نفسها عليّ طوال فترة التعليم في الجزائر ضمن إطار ما يطلق عليه في فرنسا “الخدمة الوطنية النشطة”. ظهرت التيارات الإسلامية عند منتصف الثمانينيات من القرن الماضي غداة الثورة الإيرانية في كل مكان بوصفها القوى السياسية الصاعدة. كانت غير معروفة جيداً، وقليلاً ما كان من الممكن الوصول إليها، كما كانت موضوع تشويه أكثر مما هي موضوع تحليلات حقيقية. كان هذا لدى الرأي العام الغربي، بل وكذلك في قلب النخب الوطنية. لم يكن إذن ثمة أي شيء جديد في مسعاي. ولقد تغذى اهتمامي بالإسلاميين من ثمَّ من الصدمة التي أحسست بها عند اكتشافي، متأخراً بقدر ما، أن واقع تاريخ الاستعمار الفرنسي كان شديد البعد عن التاريخ الذي نقلته إليَّ الكتابة التاريخية الرسمية في بلدي. بدا لي “تاريخ الآخر” بوصفه، قبل كل شيء، تاريخاً “آخر” عليَّ أن أكتشفه عبر تغيير زاوية رؤيتي. هذه العلاقة مع مكبوت كل ما اقتضاه التاريخ الاستعماري، غذى إرادتي في التجرد من “اليقينيات” التي تنقلها النظرة السائدة (الغربية بل وكذلك العربية) حول موضوع بحثي الإسلامي.
* لم يكن في كتابك إية إحالة إلى باحثين أو مختصين بالإسلام مثل مكسيم رودنسون، جاك بيرك، ماسينيون أو ريجيس بلاشير.. هل لأنهم غير معنيين بالإشكاليات المطروحة في كتابك؟
إنهم “الآباء المؤسسون” “founding fathers” لمسيرة معرفتي العلمية واحترامي لهم حقيقي. لكن من الصحيح أن أكثر إنجازاتهم جدارة بالتقدير تناولت الجيل السياسي الذي سبق الإسلاميين. ولم تكن أبحاثهم حقيقة مركزية في فهم الظاهرة الإسلامية، التي فاتهم على نحو واسع، وبصورة خاصة بيرك، رؤيتها وهي في قيد التكوّن في المهد.
* عشتَ في عدة بلدان عربية: الجزائر، تونس، اليمن، ليبيا، مصر، فلسطين، سورية، لبنان. كيف تقيم الاختلافات المهمة بين صِيَغ التعبير عن الإسلام السياسي في هذه البلدان؟
صيغ التعبير عن التيارات المسماة “الإسلام السياسي” هي، كما نعلم، شديدة الاختلاف، وليس ذلك من وجهة نظر جغرافية أو قومية فحسب. فهي تمتدُّ من الغنوشي حتى أبو بكر البغدادي، مروراً بسلفيي حزب النور الذين تحالفوا مع السيسي. ترتبط تموضعات الإسلاميين، مثل أي تيار سياسي آخر، بالظرف (الداخلي أو الدولي) الذي ينمو فيه التيار ارتباطاً وثيقاً. ليست أية “أيديولوجية إسلامية” في الواقع هي مَنْ يحدد فعل الناشطين، بل بالأحرى وجودهم في ميادين سياسية محددة ـ هي بصورة عامة تحت الضغط القوي في آن واحد لانغلاق النظم العربية وللتدخلات الإمبريالية للدول الغربية. بهذا المعنى، ليست أنماط فعل المعارضين بلا علاقة مع المناهج التي تتبعها النظم إزاءهم: هكذا يواجه المهيمنون على هذا النحو المعارضات أو المقاومات التي يستحقونها. فحزب النهضة، الأقصى التونسي الأكثر “اندماجاً” ضمن الطيف الإسلامي السني الواسع، ينمو في بيئة أقل قمعية بكثير من البيئة العراقية أو السورية اللتين نما فيهما التعبير الأكثر جذرية الممثل في الدولة الإسلامية. يمكن أيضاً لأنماط نشاط الفاعل السياسي نفسه أن تتغير جذرياً حين يتطور الظرف السياسي: مثلاً، حين سقط الديكتاتور المصري أو الديكتاتور الليبي، اختار جهاديان، أحدهما عبود الزمر، عضو الجماعة المتطرفة التي قتلت السادات، والليبي عبد اللطيف بلحاج، كلاهما، المعركة السياسية الشرعية. جَهْلُ هذا المتغير الجوهري ـ الصلة بين أنماط فعل الإسلاميين وبيئتهم المؤسسية ـ يقود الأكثرية الساحقة من المراقبين الخارجيين للمنطقة، كلما تساءلوا حول “أسباب العنف الإرهابي” إلى التركيز على ما يعتبرونه التناقضات الكامنة في جوهر الدين الإسلامي، في حين أن هذه التناقضات هي في الواقع محايثة للأوضاع السياسية التي يتفاعل ضمنها الناشطون المعنيون. والحال أن الغربيين لا يزالون في هذه البيئات السياسية، في وضع شبه مهيمن: لا يمكنهم إذن إلا أن يتحملوا قسطاً جوهرياً من مسؤولية إنجازاتهم المخيبة.
* تكتب أنه اعتباراً من سنوات الستينيات من القرن الماضي، أعادت مكونات مهمة في المجتمعات العربية تأهيل “لسان المسلمين” في حياتهم الاجتماعية كما هو الأمر في المجال السياسي. وتربط هذه الظاهرة بالتحرر من الاستعمار. لكن نهاية ستينيات القرن الماضي هي أيضاً الفشل المعيش في العالم العربي لأيديولوجيتيْن: القومية العربية والاشتراكية.. المرجعية الوحيدة التي بدا أنها الممكنة آنذاك كانت الإسلام.
من الممكن في الواقع أن نصوغ الأمر على هذا النحو، لكن هذا التقديم لا يتناقض في شيء مع تقديمي. في رأيي، هناك من الاستمرارية أكثر من القطيعة بين القومية العربية المعتبرة علمانية، عبد الناصر، أو القذافي أو البعثيين (التي يعتبر فشلها نسبياً فقط لأنه لا يمكن إهمال إنجازاتها بالطبع) والاندفاعة الإسلامية. وهذه الاستمرارية تعبر عن نفسها ضمن إطار الإرادة ذاتها في استعادة نزعة “التحرر من الاستعمار” في مواجهة الغرب؛ بهذا المعنى، يتابع الإسلاميون في ميدان هوياتي وثقافي عملية بدأت في ميداني السياسة والاقتصاد على أيدي القوميين من الجيل السابق. في كتابي الذي حمل عنوان “النزعة الإسلامية مواجهة” (1995) “L’islamisme en face” جهدتُ في تشريح المسار الفكري للناشطين الذين قاموا مثل عادل حسين، المناضل الشيوعي المصري، بضرب من الهجرة السياسية بين هذه القومية العربية المعتبرة علمانية والإسلامية. فغداة الصدمة الرهيبة للهزيمة المصرية 1967، التي ساهمت بطريقة حاسمة في تجريد خطاب اليسار الناصري أو البعثي من أية قيمة، تساءل عدد من مناضلي اليسار العربي بمعنى ما: “هل نستطيع، بوصفنا مناضلين قوميين، التخلي عن المرجعية إلى الإسلام، هذا الإسلام الذي هو في قلب هويتنا؟”. بالطبع لم تكن هذه المرجعية تتضمن تأويلاً خاصاً للقوانين الدينية الذي يمكن له، وقد قلنا ذلك، أن يغذي، ولا سيما في السياسة، طيفاً واسعاً نسبياً من موافقات الجميع على اختلافهم.
* تقوم بعرض تاريخ أربعين سنة لما تسميه “لسان المسلمين”. ما الذي يعنيه في الواقع لسان المسلمين انطلاقاً من فرنسا؟
سؤال ممتاز! الإشكالية المبنية على قاعدة أعمالي في العالم العربي لا مكان لها إلا في المجتمعات ذات التقليد الإسلامي. وباستثناء التموضع ضمن مسار مواجهة ثورية، لا يمكن أن يكون ثمة مجال لمسلم في فرنسا أن يزعم “اعتماد مركزية المرجعية الإسلامية في الخطاب السياسي” في قلب مجتمع ذي تقليد علماني ـ مسيحي”. على أنَّ مفهوم “لسان المسلمين” يستبقي مع ذلك معنى ما، أدنى ومختلف، لكنه مهم على كل حال. يستطيع المسلمون الفرنسيون بصورة مشروعة أن يطمحوا إلى المشاركة في إعداد القرار السياسي، الداخلي منه والخارجي، عبر التعريف بقراءاتهم أو بمعارفهم أو بميولهم. ولا بد أن يكون من المشروع أيضاً أن يشارك الآخرون ـ مع ما يمكن لانتمائهم أن يقدم من جوانب نوعية لوجهة نظرهم ـ في تحديد الخيارات الوطنية، في المجال الاجتماعي أو السياسي، في السياسة الداخلية كما هو الأمر في السياسة الخارجية، كما يفعل المواطنون الآخرون بوصفهم مسيحيين أو بوصفهم يهوداً، بما في ذلك بمعارضتهم للقراءة التي يقوم بها هذا الجزء أو ذاك من النسيج السياسي الوطني. هذا هو التحدي الذي لا يبدو أن الجمهورية الفرنسية التي يمكن لها أن تحصد ثماره في كل مجال، قد نجحت كلياً حتى الآن في التغلب عليه.
* يُختَصَرُ الإسلام السياسي وهو يُرى من فرنسا إلى مجرد إسلام جهادي. لِمَ تحجب جوانب الإسلام الأخرى الذي كان على الدوام يؤلف جزءاً لا يتجزأ من تيارات الفكر والعمل في العالم العربي؟
ليست المشكلة إنكار وجود إسلام يمكن أن يكون غير جهادي، بقدر ما هي إرادة صياغة هذا الإسلام من أجل استصناع “إسلام صالح” كما يتوهّمه قادتنا.
تستمر فرنسا بهذا المعنى في الاستسلام لعادة سيئة شديدة القدم، سارت عليها عندما كانت تهيمن على جزء من العالم الإسلامي. فهي تتدخل بآليات تمثيل المسلمين السياسي. فتستصنع نخباً مزيفة تضفي عليها شهرة تتناسب عكساً مع درجة تمثيلها ومصداقيتها اللتين تتمتع بهما لدى من يشاركونها في الدين. والطريقة ليست جديدة. فالمفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي كان قد ندّدَ بالتلاعب المفضوح الذي تقوم به السلطات الاستعمارية أثناء الانتخابات بصيغة لاذعة: “انزع ضميرك من هنا كي أضع فيه ضميري”
نحن هنا في قلب الصعوبة الفرنسية القديمة في إلقاء نظرة خالية من الانفعال على ضفاف البحر المتوسط الجنوبية والمشرقية. مشكلة فرنسا ليست عدائيتها ـ المشروعة بقوة ـ إزاء ما يمثله البغدادي حتى وإن كنا نحن الذين أعلنا الحرب عليه وليس العكس. إنها تكمن في واقعة أن من نراه بوصفه أكثر المرشحين لرئاسة الجمهورية “ليبرالية” في ميدان الغيرية الإسلامية، آلان جوبيه، يرى نفسه مرغماً على الصياح برفضه استقبال طارق رمضان في مدينته بوردو! من الصعب الخروج من رخاء الهيمنة السياسية والاقتصادية التي كان قد وضعنا في ظلها العصر الاستعماري. ومن الأصعب في الظاهر أيضاً الخروج من عصر الهيمنة الإيديولوجية. فالضفة الشمالية تميل ميلاً مرضياً إلى الإضفاء على قضايا أيديولوجية (ومن ثم دينية) أصل العدائية التي يمحضنا أياها جزء من العالم الإسلامي. سوى أن قناعتي العميقة هي أن التوترات التي تؤثر اليوم على علاقة العالم الغربي بالعالم الإسلامي ذات أصل سياسي أكثر مما هو أيديولوجي. وأن هذه التوترات هي نتاج أنانيات الغربيين أكثر بكثير مما هي نتاج أنانيات هذا “الآخر”، المسلم، الذي لم ينته من “تحرره من استعمارهم”.
* حول إيران والبلدان العربية، هل يسعنا اليوم حقاً أن نتحدث عن حرب دينية، بين الشيعة والسنة؟
للأسف نعم، لا يمكن إنكار هذا البعد. إلا أنه يبدو لي جوهرياً القول إن الانقسامات الطائفية هي بصورة شديدة العمومية نتيجة التشنجات السياسية لا العكس. عندما لا تؤدي المؤسسات السياسية دورها، ولا تسمح لكل إنسان أن يشعر بنفسه مواطناً “كامل الحقوق” كما كان الحال في العراق وفي سورية، حينئذ يشوه إغراء الانكفاء الطائفي الرابطة الوطنية. واستمرار الانتماءات ما دون القومية، الإثنية منها أو الطائفية، راسخة، ليس مشكلة في حد ذاته. المشكلة الحقيقية هي في عجز المؤسسات عن السماح لهذه الاختلافات أن تتعايش، وأكثر من ذلك أيضاً، محاولة المهيمنين المتكررة استخدام هذه الاختلافات من أجل الاستمرار في الحكم عن طريق تفتيت جبهة معارضيهم. ودور بشار الأسد أو علي عبد الله صالح (بل وكذلك الغربيين، “أساتذتهما” الاستعماريين في هذا الموضوع) مثاليٌّ على وجه الخصوص في هذا الميدان. على مستوى العلاقات الدولية أيضاً، يمكن للمرجع الطائفي هو الآخر أن يُسْتنفرَ من قبل الأنظمة لخدمة أي ضرب من الأجندات، وليس بالضرورة أكثرها إنسانية. كذلك هي الدبلوماسية الإيرانية، ولا سيما في سورية وفي العراق، (حتى وإن كان دورها في اليمن قد بولغ فيه من دون شك)، حيث استخدم المتغير الطائفي من قبل الجمهورية الإسلامية لطرد العناصر الوطنية المحض. لا تخلو هذه الدبلوماسية من تناقضات صفيقة: فإزاء المملكة العربية السعودية، من المثير للفضول أن نسمع القادة الإيرانيين منذ عدة سنوات يتلاعبون في اتجاه الغربيين خصوصاً بحجج واهية بدائية ذات طابع “مناهض للإسلام” تذكر إلى درجة الخلط معها بالحجج التي كان الغربيون يستخدمونها ضد الثورة الخمينية.
* تنتقد في فرنسا حجب المسائل السياسية: الصراع العربي الإسرائيلي، النظم الاستبدادية، إلخ. أليس هذا الاختصار، هو السمة في فرنسا التي تميز كل مقاربة سياسية في كل مرة يتناول الحديث فيها مشكلة العرب؟
سأبدو هذه المرة “لطيفاً” مع الذين يأخذون علي أحياناً المبالغة في حجم قسطهم من المسؤولية. فالميل إلى “حجب الصفة السياسية” في قراءة الصراعات والمقاومات ليست سمة خاصة بالغربيين. إنها سمة… المهيمنين أياً كانت ثقافتهم أو دينهم. ليس لدى المستبدين العرب ما يحسدون عليه الطغاة الغربيين في تشويه معارضيهم السياسيين، وفي إنكار حصتهم من المسؤولية المحايثة لممارساتهم الاستبدادية الخاصة بهم. من الأفضل عملياً على الدوام إضفاء مزاج الآخر السيئ على دينه أو على ثقافته بدلاً من اعتبار أن الخلاف سياسي، لأننا في هذه الحالة سنكون مرغمين غالباً على الاعتراف بحصتنا من المسؤولية.
* في نظرك، يقتضي فهم الغيرية علمياً بالنسبة إلى الباحث في الغرب أن يكون مشبعاً بثقافة غير غربية. لكن ذلك أيضاً يصح بالنسبة إلى الباحثين غير الغربيين بالنسبة إلى الغرب! أليس هناك بفعل ذلك صعوبات في عدم الفهم الدائم بين الغربيين وغير الغربيين؟
بالتأكيد… المعرفة المتبادلة ضرورة. وهو أمر مرغوب فيه إلى حد كبير شأن كل ما يمكنه أن يسمح بتجاوز هذا التمزق الثقافي والسياسي. لكن الميزان في هذا الميدان يميل بوضوح في اتجاه أكثر مما يميل في اتجاه آخر. ونظراً لثبات علاقة الهيمنة النسبي، لا تزال العلاقة الثقافية بين الغربيين وبقية العالم اليوم أبعد من أن تكون علاقة متساوية. حين كنت معلماً في الجزائر، أذكر أنني دهشت ذات يوم من رؤية تاجر لحوم على عتبة دكانه منغمساً في قراءة صحيفة اللوموند. لم يكن بوسعنا أن نتخيل مثيله الباريسي يقرأ الطبعة العربية من صحيفة الأهرام، أليس كذلك؟ بصورة عامة، حتى وإن كانت الأشياء قد تطورت والحق يقال بصورة كبيرة منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن “الآخر” المسلم يملك حتى أيامنا هذه معرفة ـ حتى وإن كانت إجبارية ـ بالغربيين تتفوق على معرفة الغربيين به. يسمح المعيار اللغوي إجراء إحصاءات سريعة دقيقة نسبياً ومعبرة بصورة بليغة. من هم الذين يعرفون لغة الآخر في اجتماع يضم صحافيين عرباً وفرنسيين؟
* يرى البعض أن الدولة الإسلامية (داعش) هي ظاهرة جديدة في تعبيرات الإسلام السياسي. هل ترى أن هذا التعبير هو ابن شرعي للإسلام؟ أو بعبارة أخرى، ألا ترى أن داعش هي مخلوق محض للدوائر الأمنية هنا وهناك، مع استخدام الإسلام بوصفه مرجعاً كي تخدع به العالم كله وتكسر كل حركة ثورية تتطلع إلى وضع حدّ للنظم الاستبدادية في العالم العربي؟
صنعُ جهاديّ ما في رأيي عملية معقدة، ولا سيما أن الظاهرة لا يمكن اختصارها إذن في علاقة سببية واحدة. ذلك يتطلب تعاوناً واسعاً… على الصعيد الدولي. لكن ذلك يتعلق باتجاهات سياسية ثقيلة أكثر مما يتعلق بتلاعبات خفية تقوم بها دوائر أمنية. وليس لتحليلاتي ولمواقفي من طموح سوى تذكير كل من يقتصرون في جردهم للمسؤوليات عن الجهادية ـ سواء على المسرح المشرقي أو في أوروبا ـ على المسلمين وحدهم بتحميلهم قسطاً ثقيلاً من المسؤولية في هذه العملية. يبدو قولُ ذلك باللغة العربية من دون أي شك أمراً بديهياً. لكن ذلك ليس هو حال اللغة الفرنسية! أحاول إذن أن أذكر الغربيين (بل وكذلك عدداً لا بأس به من قادة العالم الإسلامي، مثل السيسي، كي لا نذكر سوى أكثرهم رمزية) أن عليهم أن يأخذوا في الحسبان بصورة أكثر واقعية مشاركتهم الخاصة في الكارثة القائمة حالياً.
أما في ما يتعلق بمعرفة ما إذا لم تكن داعش سوى “مخلوق محض للدوائر الأمنية” السورية أو سواها، فجوابي سيكون سلبياً لكنه متباين على كل حال. كان صعود داعش بلا جدال مراداً من قبل استراتيجية النظام السوري. وكانت ولادته على هذا النحو، بكل وضوح، بمساعدة متعددة الطرق قامت بها مختلف دوائره التابعة له. ذلك معطى لا جدال فيه. فقد فعل بشار الأسد منذ أيام الأزمة الأولى كل شيء كي تتمكن هذه الفزّاعة من لعب دورها بأكبر قدر من السرعة والإذهال. إزاء الرأي العام الدولي من جهة، ثم بعد ذلك إزاء السكان الذين تديرهم داعش والذين كان يأمل منهم، ولم يكن بالضرورة على خطأ في ذلك، أن يبلغ بهم الأمر الأسفَ على ديكتاتوريته. لقد تصرف بوضوح في هذا الاتجاه عدة مرات. بتحريره من السجون منذ أيار/مايو 2011، جهاديين كان قد استخدمهم في إدارة الصراعات العراقية واللبنانية. ثم استنكافه بعد ذلك عن المواجهة العسكرية شأنه في ذلك شأن حليفه الروسي القوي، لهيمنة داعش على الرقة. وبتسهيله على نحو واضح (وخصوصاً في تدمر) بعض التقدم الميداني للمنظمة كي يستفيد من المظهر المنفر لفعلها المتوقع بشدة ضد الآثار والتراث العالمي للمدينة. وقد غض النظر بشدة على ما يبدو عن تجارة البترول التي كانت تغذي المنظمة. وأخيراً، ليس كذلك من المستحيل كلياً تصور ـ حتى ولو لم يكن هناك حالياً ما يسمح بالبرهنة على ذلك ـ أن بعض الضباط بعد هروبهم من الجيش باتجاه داعش قد احتفظوا بصفتيْهم عملوا للجهتين وقاموا بالمزاودة الطائفية والمضادة للغرب في صفوفها. ولكن في ما وراء هذه المشاركة الجوهرية أساساً، يبدو لي مفرطاً وخدّاعاً أن نفكر، كما فعلت من ثم أنا نفسي في بدايات ظهورها، بأن داعش هي تماماً وكلياً بين أيدي المخابرات السورية (أو سواها).
* في الفصل المعنون “في مواجهة بحث الآخرين: جيل كيبيل وأوليفييه روا والموضوع الإسلامي”، تشير إلى أنهما أكثر حضورأ إعلامياً منك وتفصل سببين لهذا الحضور الإعلامي. يحملني السبب الثاني خصوصاً على أن أسألك إن كنت مسموعاً من قبل من أصحاب القرار في فرنسا. وبعبارة أخرى، من هم برأيك أولئك، وخارج المجال الأكاديمي، الذين يمكن لتحليلاتك ومقارباتك للإسلام السياسي أن تستثير اهتمامهم؟
إن مشكلة الخبرة الأكاديمية هي أنها لا تمارس على علم “صلبٍ” يمكن لنتائجه أن تقدر بسهولة. يملك السياسيون إذن كل الحرية في اختيار إحدى الخبرات…التي تروق لهم. أو حتى في استثارتها بما أن الحدود بين الإنتاج الجامعي وإنتاج “الخلايا الفكرية” الملائم للأسر السياسية ليست على الدوام واضحة تماماً. ويمكن أن يقال بقليل من المبالغة إن الطبقة السياسية ـ وحتى المجتمع بكليته يعطي ـ لإنتاج الباحثين صدى يتناسب مع ما يرغب في سماعه. فـ”الأبحاث” التي تسير حسب هوى الحس المشترك بتجريدها غير المسلمين من المسؤولية (“ذلك خطأ السلفية وبالتالي.. ليس خطأنا”)، أو تسمح بطمس بعض تناقضات السياسات الغربية الفاضحة في العالم الإسلامي (“ليس للصراع العربي/الإسرائيلي أي تأثير على تجذر بعض المسلمين”) ستحتل إذن مساحة إعلامية تتفوق بوضوح على الأطروحات الأكثر تبايناً والتي تشير إلى مسؤولية بعض سياساتنا الخارجية. وهكذا، ففي حين أن أطروحات جيل كيبيل شديدة القرب من الفكر المحافظ الأميركي الجديد ومن المدرسة المعروفة الخاصة ببرنار لويس (التي تؤدي في النهاية إلى اختصارات من نمط “يقاوم الفلسطينيون الاحتلال العسكري الإسرائيلي لأنهم… أصوليون مسلمون”)، تُدْحَض علمياً من قبل أكثرية واضحة من الأبحاث الجامعية، فإنها تحتل مساحة إعلامية تتناسب عكساً مع ضعف الاعتراف الأكاديمي بها.
من المهم إذن أن توجد قراءة بديلة كتلك التي أساهم مع كثيرين غيري في صياغتها. لكن ذلك للأسف لا يكفي للتأثير كما ينبغي على القرار السياسي.
ضفة ثالثة